• الرئيسيّة

  • السبت، 28 جانفي 2012

    النّوارس المسافرة / ألفونس آلّي



    قصّة للكاتب الفرنسي : ألفونس آلّي-1891
    تعريب :محمّد فطومي                



       لا أظنّ أنّكم واكبتم تلك الحقبة أو تذكرون شيئا عن جزئيّاتها،أبناء هذا الجيل،و لكن لا بأس سأروي لكم بعض تفاصيلها؛فإرسال البريد المستعجل في المرّات الأولى التي اشتغل فيها البرق الكهربائيّ كان يفرض على المهندسين أنظمة  توصيل ذات سلكين؛السّلك الثّاني كانوا يتصوّرونه ضروريّا لنقل الكهرباء.
       في الحقيقة  لم يضيع أولئك السّادة الكثير من الوقت لينتبهوا إلى أنّ سلكا واحدا يفي بالغرض ،و فسّروا لنا بثقة و حزم بعد اكتشافهم ذاك ،بأنّ الأرض ستكفيهم السّلك الثّاني.
       و قد ترى من مكانك حيث أنت السّحنة التي تعلو وجوه أولئك الرّجال العظماء،لو أنّ أحدنا أنبأهم بأنّنا يوما ما ليس بعيدا أن نكون على مشارفه ، سنتخلّى كلّيّا عن الأسلاك لنتراسل بين "كاب-كود" في الولايات المتّحدة و "بلدهو" في انقلترا.
        إنّها في الواقع الضّربة القاصمة لسلك البرق،وأستحلف ،من جهتي، قرائي الأعزّاء الذين يحتفظون بعد في حافظات أوراقهم بقيمة من هذا النّوع،أن لا يترقّبوا البتّة تدهور الأشياء و تراجعها..فالمسائل دائما تمضي إلى الأمام.
       و أتساءل عمّا إذا كان قد بلغكم وجه الشّبة بين الذي قلته لأبرهن بأنّ روح التّقدّم في حدّ ذاتها هي أن تكون موازية لنفسها،و بين اقتراب زوال أسطورة الحمام الزّاجل و فقده حظوته إلى الأبد.
       بعد خمس سنين أو ربّما أقلّ من ذلك ،سيبدو لكم الحمام حلاّ كلاسيكيّا،بل بدائيّا و مضحكا كما هو اليوم حال برق الأب "شاب" اليدويّ بذراع التّدوير.
     و يكفي أن نعود للحديث عن النّكات التي ما كان يجب أن تبرح مخيّلاتنا،و نستحضرها من جديد،لنتيقّن من أنّ الحمام ماض في طريقه ليعهد باختصاصه الأزلي للنوارس.إلى أن يأتي اليوم الذي نشاهد فيه ساعي الجوّ الذي يطير.
    و سيهتف النّاس بشتّى الشّعارات حينئذ:
      - " يعيش النّورس ،امنحوا أنفسكم رؤية أنقى و أرحب.."
    - " يعيش النّورس الطّائر القويّ.."
    - " يعيش النّورس ملك البحار و إمبراطور الجوّ.."
      و لكن حذار ! ليست المسألة بسيطة كما قد تبدو للوهلة الأولى،و ليس بديهيّا أو هيّنا أن نكون قد حقّقنا هذا النّجاح السّاحق . فكم من الصّبر و الهندسة و السّهر أنفقنا كي يصبح انجازنا متاحا.
       قبطان السّفينة الحربيّة السيّد "دوما دي بوبري" هو الذي انكبّ بنفسه على دراسة و تنفيذ المشروع..مشروع النّوارس ساعية البريد..الحلّ البديل،و فعل ذلك دون أخطاء أو هنّات سهو من ثلاث سنوات.و انطلق يحصي أمامي،و ليس لي،آلاف التّحوّلات المدهشة و المفاجئة التي شهدها بنفسه،دون أن يفارقه مزاجه الرّائق الذي يميّز بحريّتنا الوطنيّة.
      " كانت تلك المرّة الأولى التي أذيعَ فيها بين النّاس ممّن هم في محيطي ،فكرتي بتطوير و تحسين المراسلات الحيوانيّة، بإقصاء الحمام الأبله،و استبداله بالنّورس المذهل،لمّا دوّت قهقهات لا يزال جرسها يرنّ في أذني حتّى السّاعة..
     " النّورس.. !" (صاح أولئك الهمج دون تتمّة أو سبب مقنع).." النّورس!.."
    - النّاس بهائم..(عقّبتُ)
      و أضاف:
     "- بالنّسبة لي ،و دون أن أترك لهم فرصة لإحباطي و النّيل من فلسفتي،باشرت العمل فورا..حصلت على بيض النّورس و جعلت بطّا يحضنه.و فقست نوارسي،و لأنّها صغيرة جدّا و لا خبرة لها بالتّحليق بعيدا فوق المحيط،فقد جعلتها في البداية تتخبّط من باب الدّربة في برك صغيرة هيّأتها للغرض،و أعددت لها بداخلها مؤونة ضخمة من السّمك الذي يحبّونه.
      و لمّا حان وقت الرّحيل باتّجاه الحياة الحرّة البرّيّة،و مع اقتراب الموعد الذي سأجني فيه ثمرة تعبي،بادرت بتناول سلك معدنيّ دقيق..لابدّ من السّلك ..أغيّبه في أفواهها عميقا،كما لو أنّها ابتلعته عن طريق الصّدفة،و ربطته جيّدا من طرفه الذي معي على مناقيرها..و..حرّرتها متمنّيا لها سفرة موفّقة."
    - بدأت أفهم..(قلت كالعائد من شرود)
    و واصل:
    "- في اليوم الموالي عادت مرتبكة،و منهكة جدّا و ميّتة من الجوع ..ما الذي كنت أراه قد تراجع في مشروعي،أقصد نظامي،غير صغاري الفارّين بالأمس !؟..و أعدتها من جديد إلى ساحة الإقلاع،و عزمت أمري مرّة أخرى..نزعت عنها الأسلاك المعدنيّة العالقة بأفواهها.. كافأتها بحفلة طعام..و ركّبت الأسلاك المعدنيّة حيث كانت مرّة أخرى،و عدّت بصغاري للتّمرين من جديد.
      في  غضون أيّام من هذا الهرج فقهت نوارسي الدّرس جيّدا ،و لكي لا تنسى أبدا  مبدأ الموت جوعا من أجل الحرّيّة،الذي أحتاجه،و ليظلّ طعم الحرّيّة ألذّ لديها بكثير من طعم الإحساس بالشّبع،فقد جعلتها تعتقد بأنّ أصناف الأكل الّلذيذة تكمن في منصّة إقلاعها؛برج الحمام(لو جاز لنا تسميته مبدئيّا)"
    - نعم..بكلّ بساطة..(قلتها و أنا أهزّ بكتفي،تعبيرا عن متابعتي الواعية لمنطق تدرّج الأشياء)
    و أضاف بنفس الحرص و الحماس للشّرح:
    "- ..و لكن حذار من الاستهانة بالمسائل و التّمادي في الحلم..لا بدّ من الرّصانة في العمل.
    و كما أسلفت،و لكي لا أشتّت فكرك أكثر،فقد خلقت بالتّالي كائنا سمّيته " النّورس الفرد " يملك واعز  الانتماء و غريزة العودة إلى رقعة الأرض،تماما كالحمام.ثمّ زاوجته  بفصيلة الحمام،فتوصّلت كما خطّطت إلى كائن آخر،عرق آخر،يتمتّع بالفطرة الوراثيّة لأسلافه و ما لقّنتها إيّاها،من حاجة للعودة إلى البيت المرفّه."
    - و ماذا عن حسّ الاتّجاهات؟(تساءلت)
    "-النّورس مجبول على ذلك بطبعه و هو في ذلك أفضل من أذكى حمامة.أمّا بالنّسبة للمسافات التي تقطعها فلا حدّ لها و هي مثاليّة في المقاومة و المكابدة،و باستطاعتها و هي مسافرة أن ترتاح فوق الماء،يهدهدها الموج الّلطيف الرّخو."
      و تفضّل القبطان "دوما دي بوبري" بإخباري بأنّ إطلاقا لدفعة نوارس سيتمّ في قلب المحيط الأطلسي عمّا قريب،و قال بأنّه يتشرّف بدعوتي لحضوره،و بأنّه سيكون سعيدا لو أنّي ألبّي و أعاين تلك التّجربة الخارقة الحاسمة في تاريخ البحريّة الوطنيّة.
     ..و هذا بالتّأكيد ما جعلني أجزم بأنّي نلت الشّرف الأكبر في العالم على مرّ العصور..

     

    السبت، 21 جانفي 2012

    بالأبيض و الأسود



    حرّك الخصم الملكة إلى أقصى يمينه.كان من الحكمة وقتها أن أدفع بالبيدق الأيسر خطوتين إلى الأمام،و لكنّ وزيري هو الذي تقدّم..بقيت واجما أراقب ما الذي سيحدث.بعد دقيقة نقل الخصم حصانه الأيمن.فهمت أنّ عليّ فتح معبر أمام الملك،لكنّ قلعتي ارتفعت و التصقت به أكثر.ثمّ بقيت بعدها ساكنا أتابع ما الذي سيحدث.
    بعد برهة نظر إليّ الخصم و ابتسم بسخرية و دفع لي بحصانه مرّة أخرى و قال:مَات..
    و بقيت هامدا أنتظر..
    عندما انسحب الرّجل الذي يحيطني بذراعيه من  الوراء،خفّ الضّغط على كتفيّ و أمكنني أن أسحب يديّ من تحت الطّاولة و أطوي رقعتي و أمضي.


      


    محمد فطّومي

    الجمعة، 20 جانفي 2012

    الكتابة نيابة ًعنِ الجميع



    ليس هناك أصدق من أن لا نكتب..
    في الآن نفسه أجد صعوبة في التّصديق بأنّ الجنس البشري غير مجبول على التّعبير عن مشاغله و أحاسيسه عن طريق الكتابة !
    و ما الكتّاب في النّهاية إلاّ الفئة التي انصاعت بإرادتها إلى هذه النزعة. إمّا بسبب الوحدة أو عن رغبة في خوض التّجربة أو لاعتبارات مهنيّة أو لفرط عجزهم عن مقاومة شحناتهم العقليّة و النّفسيّة بغير الانفراد بقلم و ورقة...
    إذن فكأنّ الكاتب هو شخص تطوّع ليكتب لغيره.و القارىء شخص  تطوّع  ليكتفي بدور المتابع أو المصغي.و كلاهما يقدّم تضحية من نوع خاصّ،الأوّل يقبل عن قناعة أن يرهق فكره و أعصابه ليسجّل بعض المعاني الإنسانيّة،و الآخر الواعي بالبذرة يقبل بإخلاء السّاحة على مضض.
    بالتّالي فإنّ مسؤوليّة الكاتب خطيرة إذا نظرنا لها من زاوية أنّه موكّل بصورة غير مباشرة من قبل الكتلة غير الكاتبة.
    و أن تكون عند مستوى ما يتطلّع إليه الطّرف الذي وكّلك فهذا يعود إلى درجة الصّدق و التّواضع التي أودعتها في أعمالك،ألم نقل :ليس هناك أصدق من أن لا نكتب ؟
    تذكّر أنّك تكتب لأناس أصدق منك ،و هم بالفعل كذلك لأنّهم لا يكتبون ما يخطر لهم و إنّما يبقونه في مخيّلاتهم على هيأته الحقيقيّة الخام و لا يسبغون على رؤاهم غير الذي ارتسم في أذهانهم بأبعاده الواقعيّة.لذلك يتعيّن عليك أن تسعى لكتابة قصص  تراعي دورك ككائن اختار أن ينوب عن غيره.

    و  سيظلّ نموّ القصّة القصيرة نحو الوجهة الإبداعيّة الأمثل موفّقا ما دامت مرتبطة في  أذهان  المهتمّين بها على أنّها قيمة قادرة على المساهمة بقوّة و جدارة في إثارة القضايا و لها وزنها في بناء ثقافات ترى عللها و تعي أسباب قصورها جيّدا.
    و كما أنّ للسّينما وزنه ،و للقصائد التي تمرّ في وجباتنا الغنائيّة اليوميّة وزنها فإنّ للقصّة القصيرة وزنها أيضا بصفتها خطابا شائعا و أداة تواصل شعبيّة لنشر الأفكار و فرصة سهلة و عميقة و مسلّية في آن ،تتاح للجنس البشريّ ليتدارك الفوارق المعرفيّة و الأخلاقيّة و المعيشيّة بين مجتمعاته و أعراقه و يحيّن من خلالها موقعه من 
    إشكالاته الوجوديّة وفقا لمستجدّات عصره و مستوى ركامه التّاريخيّ الجديد.

    و ليتسنّى للقصّة  تحريك الأنظمة و العقليّات الجماعيّة تدريجيّا.فإنّ علينا أن نرقى بها من مرآة تعكس ما يُعرض 
    عليها إلى ضوء كاشف يسلّطه الكاتب على وضعيّة إنسانيّة مفصليّة قصد الإشارة إليها و تضخيمها في عقول النّاس من أجل رؤية أفضل و بالتّالي توظيفها من أجل تشخيص أدقّ.
    ربّما لا آت بجديد إذ أقول هذا.. و لكن هل إذا طرحت تصوّرا للقصّة القصيرة يقطع مع النّسخ.و  يَطلب منها الإيحاء بوجود وجوه أخرى لحقيقة ما يحدث و أن تلفت الأنظار إلى تفاسير أخرى و تصوّرات أخرى لمبرّرات وقوع الحوادث أو الوقوع فيها أو القيام بها،و يَـطلب منها أن تكون مشهدا سرديّا و فكريّا موازيا للملموس الحاصل أو المرتقب بشخصيّة مستقلّة و محايدة كأنّها تقول : إنّ ثمّة احتمالات أخرى لتأويل ما نحن فيه و هذا أحد الأمثلة عليها ؛و كأنّ  كاتبها يقول : أيّها العالم المهووس بحبك  الحكايات الجميلة و المؤلمة فوق أجسادنا مباشرة ، أيّتها العلاقات ، أيّتها الغرائز ،أيّتها الّلقطات المدهشة ، أيّتها الأعباء ، أيّتها المجريات ، أيّتها المصائر ..لستِ دائما كما نعتقد ..سأجعلك تُقرئين من فوق. و سأذيع أسرارك بورقي هذا ..

    فهل إذا طرحت هذا التّصوّر أكون قد حمّلتُ القصّة القصيرة ما لا تطيق؟





    محمد فطومي

    الأربعاء، 18 جانفي 2012

    صفحة


    هذه المادّة  ،ومضة دراميّة من نوع الشّريط القصير جدّا.
    كنت عثرت عليها مصادفة على اليوتوب،فارتأيت أن أقدّمها في طورها الأوّل :أي أن أصوغ انطلاقا منها قصّة قصيرة مكتوبة. دون أن أدخل تغييرا على الفكرة أو على مجريات الأحداث. 

    صفحة


    صباح ربيعيّ نديّ..
    يجلس على مقعد خشبيّ قبالة البيت و بيده جريدة يقرؤها..
    الحديقة حفلة خضراء و شجرة سرو عملاقة من خلفه تفيض على المكان بظلّها كدعوة حبّ.
    يتقدّم منه والده و يجلس إلى جواره .لا يكترث. يلقي عليه أبوه نظرة خاطفة ثمّ يعقد ذراعيه و يسكن شارد الذهن.
    يحطّ عصفور صغير غير بعيد عن موطىء قدميهما.كان حذرا لكن غير مذعور،كأنّ الرّجُلين الجالسين قبالته على المقعد الخشبيّ صور أو تماثيل من مرمر..
    يشير الأب إلى العصفور بسبّابته و يسأل بهدوء:
    -
             ما ذاك؟
    يرفع الشابّ عينيه .تقع على العصفور ،فيحوّل بصره باستغراب ناحية أبيه و يقول ممتعضا:
    -
    عصفور.
    ثمّ يعود إلى الجريدة بضيق.
    يعيد أبوه سؤاله بعد ثوان،فيتأفّف الشابّ دون أن يرفع عينيه عن الجريدة و يقول بشراسة:
    -
    عصفور..!عصفور..!ما بالك اليوم؟هل جننت؟
    ثمّ بعد ثوان يعيد الأب السّؤال ذاته للمرّة الثالثة.حينها ينتفض الشابّ كالملدوغ.يطوي الجريدة و يصرخ في وجه أبيه بعنف:
    -
    عصفور.. !ألا تفهم. ذاك عصفور. هلاّ تركتني و شأني الآن ..
    ثمّ أردف بحنق: أيّ صباح مشؤوم هذا.
    يفزع العصفور و يطير. و ينسحب الأب فورا و يغيب في البيت دقيقة ليعود إلى مكانه و في يده كتاب.يفتح الكتاب على صفحة في بداياته و يضعها أمام عيني ولده و يدعوه للقراءة بصوت مرتفع و يغمز له بعينيه يرجوه أن يلبّي.
    و يقرأ الشاب مكرها:
    " 14
    حزيران 1973 
    اليوم صار عمر ولدي الحبيب ثلاث سنوات،أجلس به في حديقة البيت.يحطّ أمامنا عصفور فيسألني عنه عشرين مرّة،و كنت في كلّ مرّة أجيبه بحنان أكبر.."





    اقتباس
    محمّد فطومي
    لا أعرف صاحب الفكرة،لكنّي أذكره بخير و عرفان

    الأحد، 15 جانفي 2012

    بين الأثر و بين شعبيّة الأثر مصطلح ضائع






    منذ أكثر من شهر و المصطلح يعوزني.

    ماذا أسمّي جملة العلاقات و الأمزجة و الوظائف الإنسانيّة و 
    البشائر التي يودعها الكاتب في قصّة قصيرة حتّي تنال إعجاب الناّس بإجماع الأغلبيّة على اختلاف فئاتهم و أجناسهم و تفوز بصفة المؤسّسة الإبداعيّة المتجدّدة و بجدارة أن تكون مرحلة ثابتة لابدّ منها لكلّ باحث ؟ و يحسّون معها بأنّهم أمسكوا بنشوة لذيذة ؟ و هل أنّ الإجماع أصلا موضع ثقة إذا أردنا الحكم على جودة عمل ما؟

      قبل أن أنطلق في استدراج العبارة للظّهور أفتح قوسا أحاول أن أطرح فيه تعريفي الخاصّ لمنطق الأغلبيّة الموسّعة و أناقش جاهزيّتها لتُغطّي دور المعيار الثقافيّ،إذ قد يتحصّل مشروع إبداعيّ ما على عشرة أصوات مؤيّدة من أصل عشرة،النّسبة هنا مائة بالمائة ،لكن إذا وسّعنا دائرة التّصويت و بسطنا ذات المشروع على جمهور بالملايين فإنّ احتمال حصوله على مئات الأصوات أمر جائز،و لا مبرّر لاستحالة حدوثه .وصولا إلى هذا الاستنتاج يمكنني القول بأنّي أثق في الأغلبيّة الموسّعة إذا تعلّق الأمر بالجيّد و دليلي البسيط على ذلك هو أنّي  لم أقف إلى حدّ هذه السّاعة أمام تحفة فنّيّة عالميّة متعجّبا: كيف استطاعت هذه الحيلة التّعيسة أن تنطلي على سكّان الكوكب عصرا بعد عصر! في المقابل أرفض بالقطع أن تكون الأغلبيّة الموسّعة محقّة دائما في استنكار بعض الأعمال المحترمة و أعزو سبب العزوف عنها إلى أنّها تجاوزت واقعها إلى واقع آخر غير الذي تربّت عليه مداركنا الأساسيّة،واقع يتنبّأ الكاتب أو يقرّر بأنّ عناصر الحياة فيه ستكون مركّبة على نحو مختلف تماما معوّلا أكثر في تصوّراته على قانون الحركة و التّغيّرات المنتظمة و المتواصلة للمفاهيم البشريّة حسب ما سيتاح لها أو يفرض عليها من أدوات و هزّات سياسيّة أو اقتصاديّة أو طبيعيّة قادمة على مرّ الزّمن.
      في هذه الحالة أرجّح أنّ حكم الإقصاء  يعلّله غياب التّطابق و الانسجام  العاطفيّ بين القيمة الفنّيّة للعمل الأدبيّ و بين واقعه الآنيّ و ينفيه حتما مدى وفائه للسّلوك المشترك الحاضر.و من جهتي  سوف لن أدافع عن رواية أو قصّة تنتظر من قارىء اليوم أن يتحمّس معها لقضايا الإنسان الحجريّ أو يتعاطف فيها مع معاناة العيش في كوكب تحكمه الآلة أو تسيطر عليه كائنات غريبة عن الأرض ،مهما زوّدها صاحبها بالتّراكيب المدهشة و الصّور الكلاميّة المتقنة.من دون أن تكون الإشارة في المضمون خلف البنية الحكائيّة موجّهة بشكل كلّي إليه و أعني قارىء اليوم.و أؤكّد على هذا الشّرط:أن ينتصر الكاتب فعلا لإنسان اليوم حتّى و هو تنسج خرافة.
     كيف استطاع شكسبير أن يشدّ انتباه الناس بصرف النّظر عن زمن القراءة و أن يقنع الذّاكرة الجماعيّة بأن تحتفظ بإنجازاته كعلاقة حميمة؟
     كيف استطاعت قصّة " الشّيخ و البحر" الطّويلة لهمنغواي أن تنجح على حساب رواية سميكة ضمّت بين دفّتيها أعقد المعضلات البشريّة :الجنس و الدّين و الوطن إلى غيرها من المصنّفات الخطيرة الأخرى ؟
    قد يبدو السّؤال متداولا و قديما ،لكن الأجوبة عليه أيضا قديمة و مخاتلة كأن يحفظ أحدهم درس التاريخ قبل دخول الاختبار بدقائق.
    أظنّ أنّ السرّ يكمن في أنّ همنغواي وقف إلى جانب الإنسان بوصفه ضحيّة وجوديّة تتقاذفها الأهواء و الغرائز و النّوازع و الاحتياجات الجسديّة و النّفسيّة و آمن أنّه يستحقّ الشّفقة مادام مدفوعا إلى الكفاح و مفطورا على عشق السّعادة.و قال أيّها الإنسان أنت مخلوق طيّب. ولعلّه كغيره من العظماء هاجم الضّعف البشريّ عوضا عن تأثيث أعماله بالضّعفاء طلبا لرواج أكبر.
     أعرف أنّ المصطلح المناسب يختبىء في مكان ما داخل مخيّلة كلّ فرد منّا.
    ربّما عثرت عليه يوما.في الوقت الحاضر سأكتفي بالقول بأنّه آن لكتّاب القصّة و أبدأ بنفسي بأن يكفّوا عن زرع العظات و العبر و النّتوءات البلاغيّة بقصد إثارة مجسّات النّشوة لدى القارىء.و أن يستبعدوا من كتاباتهم أسلوب إسناد شهادات البطولة و الشّهامة و النّبل و سحبها.و أن يقولوا للإنسان مهما انحرفت ممارساته في مصطلح واحد : نحن نفهمك.



    محمد فطومي
    14/1/2012

    الجمعة، 13 جانفي 2012

    ها هم !..ها هم! / كولييت




    Colette
    نص لـ :" كولييت"  
    تعريب محمد فطومي


    باريس المسرورة تترقّب ملكا ،و لا شيء بوسعه أن يعكّر فرحها الجمهوريّ.. سيكون علينا هذه المرّة أن نهتف لزعيم آخر،لملكة و ملك آخرين.كان هناك أعلام و جنود و أجسام خشبيّة و أخرى نحاسيّة متحمّسة للحرب،و الشّمس و الغبار و مدرسة الضبّاط كانوا أيضا في الموعد لساعات فترة الظّهيرة الثّقيلة.
      إنّه الراّبع عشر من يوليو تقريبا.لأنّ البذخ المنبعث من الزّهور الحقيقيّة على واجهات البنايات و في السّلال الموضوعة على قمّة السّواري ،قد أزاح بصدقه و أناقته الرّسوم الباهتة على الّلافتات و الشّعارات التّعيسة على لوحات الكرتون.
     زهو متجدّد لا ينقص أو يشحب على مرّ السّنين.رقّة مباغتة و واثقة و نضرة تغمر في ساعة نصر شعبا متفاجئا باندفاعه و حبوره،و مندهشا لأنّه حضر بتلك الأعداد و بتلك الحرارة.
     شارع السّلام يخفق بالأعلام و الأغصان.الرّايات تعكس على الجدران مساحات  حمراء داكنة و غامضة كبقع دم.و أشرطة الإعلانات الضّوئيّة تشتعل في قلب النّهار و الأعمدة المتوّجه بالزّهور تترنّح فتبدو كمراكب شراعيّة مزوّقة كما في شارع الأوبرا،و غيمة زرقاء تزحف على المدينة كقبّة مرشوشة بآلاف الثّقوب النّاريّة.
     و ها أنا محاصرة في ركن من الرّصيف كسنبلة في حقل سنابل.أمامي ثلاث صفوف من الرّؤوس و الأكتاف ،ثمّ ظهور لعمّال يلبسون البدل الزّرقاء.خلفي تماما صرّافة تقوّست درجاتها تحت وزن أنثويّ أنيق للغاية؛أحذية لامعة و مرصّعة و مشابك و دبابيس شعر ملوّنة و مناديل رقبة و قفّازات و خدود كالكرز و عصائب على الرّأس.
    لم نر منذ آخر زيارة لحاكم روسيا بهرجا بهذا القدر أو سلالم مشحونة على هذا النّحو الثّمين.
    حقيبة الأدوات التي يحملها عامل تجهيز صحّي يقف إلى جواري تخزني و تضغطني بصلابة على الجانب الأيمن.و على يساري شابّ لائق يحاول إيجاد طريقة يحاور بها فتاة رصيف تبدو كأفعى منتصبة على قبقاب مخمليّ مغبرّ.امرأة شوارع حقيقيّة ، حامضة و غير مروّضة.
    - عذرا يا آنسة؛ هل صحيح أنّ الملك جورج سيصل مع الرّابعة و النّصف؟
    - لا أدري ! قال بأنّه سيمرّ ليأخذني معه للغداء عند السّادسة..و لم يقل أكثر من ذلك.
    جيراني كلّهم يُظهرون نفاذ الصّبر و القليل من التّأثّر و الّلطف و لقد بدؤوا بالفعل يتبادلون عبارات الاحترام الجادّة،و تفهم من قسمات وجوههم  أنّهم مستعدّون للبقاء مدّة أطول و حتّى النّهاية..
    سيّدات السّلالم لا تبدين الآن اهتماما بحاكم بريطانيا أكثر من تنّورة جيّدة.و اقتربت رؤوسهن و تهامسن حكايات صغيرة و حميميّة تدلّ فقط على أنّهن ينتمين إلى العالم الرّاقي..
    - سيكون العشاء باردا لدى عائلة "بروتوي" ،صاحت إحداهنّ.
    - لماذا؟ صهلت أخرى من الأسفل.
    - لأنّ الأميرة مـ.. و الدّوقة لـ.. مدعوّتان إليه.لا يمكنني الذّهاب دون أن أشعر بوجودهما.
    لم أتمكّن من رؤية موكب الحرس الأوّل لكنّي سمعته،و استقبله الحشد بحفاوة حين وصل إلى مستوى ركننا و علّقت فتاة الرّصيف:
    - لا شيء ..مجرّد جنرال...
    - عزيزتي ،ولولت إحدى سيّدات الصرّافة ؛إنّه موكب أسطوريّ بحق..
    و قالت فتاة الرّصيف :
     - لا يبدو على هؤلاء الذين يحملون فوق رؤوسهم قرونا من الرّيش أنّهم يعيشون في هذا العالم..ألم يخبرهم أحد بأنّ ريش الطّاووس على حوافّ القبّعات ليست موضة هذا العام؟
    ثمّ فجأة شحب وجهها و عضّت شفتيها و رقصت في مكانها و صرخت بنشوة:
    - ها هم! ها هم!
    - ها هم ! كرّرت السّلالم و عامل التّجهيز الصحّي إلى أن فقد صوته و سكت .و مدّ الشابّ اللاّئق عنقه إلى الأمام و تقدّم خطوة،و وقف على أمشاط قدميه فلم أعد أر شيئا.
    - يعيش الملك..! تعيش الملكة ..! تعيش بريطانيا..!
    و تقافزت سيّدات الصرّافة و زعقن،و اختمرت فتاة الرّصيف،و ترقرقت دمعتان في أهدابها.و هتف عامل التّجهيز الصحّي دون أن يترك الحقيبة..بقيّة جيراني حتّى هذه الّلحظة لا مبالون و لا تعابير مفهومة طاغية على ملامحهم.و الجميع يساهمون من مواقعهم و يقدّمون أفضل ما لديهم من صراخ و يلوّحون بالأيدي و المناديل،من أجل تهويل الحماس و المشهد الشّعبيّ و إثرائه بروح خفيفة و صادقة و دافئة و ساخرة من الذّات احتراما للهيبة الملكيّة.
    و حالما مرّ الموكب و انعطف على ركن الشّارع قرّرت فتاة الرّصيف التي لا يزال التّأثّر غالبا على صوتها:
    - ليس سيّئا ..ليس سيّئا بالمرّة..فقط هناك شيء واحد كان عليهم حذفه ؛قبعة الملكة ماري،الزّرقاء.



    "كولييت" : 1914
    سيدوني قابرييل كولييت  ( 1873-1954)
    روائيّة فرنسيّة مولودة بمقاطعة :سان سوفور.

    الثلاثاء، 10 جانفي 2012

    تأمّلات بدويّ سائح



    لو أقررنا بدافع نبل أو أنانيّة أو كما كان سيفعل محارب شريف، بأنّ  ما نقدّمه من أجل تهوين التّعب على العقول - إن كان ذلك ممكنا طبعا - هو في النّهاية مجرّد احتمال و حسب،و أنّ قضيّة النّجاح و الفشل و الأحسن و الأسوأ  تقييمات  تحدّدها غرائز مُحَكِّمينَ من أبناء جنسنا ،سواء كانوا الأقلّيّة أو الأغلبيّة .فإنّ جلودا قاسية كانت تؤنسنا فيما مضى ستتبرّأ منّا بلا رجعة و ستنمو بداخلنا وحدة من نوع خاصّ  تتغذّى على ألواننا و على متعنا الصّغيرة.
    عندئذ فقط سنلاحظ  كم كنّا مخطئين حين كفرنا بناموس القطيع.و سنندم على إنكارنا لعظمة الغباء يوما.

    أقول لَوْ..

    و إن كنتُ شخصيّا بدأت أتأقلم مع وضعي الجديد بلا جلد.و
     استطعت تحقيق درجة من الغباء تشبه إلى حدّ بعيد تلك التي يمتلكها رجل لا ينفكّ يضغط على منبّه سيّارته ليستعجل زوجته بالخروج من الحمّام،غير مدرك أنّ كلّ النّساء داخل الحمّام لديهنّ أزواج هنّ أيضا،و أنّ أزواجهنّ يمتلكن سيّارات هم أيضا و أنّهم سيمرّون لأخذ زوجاتهم هم أيضا.
    مع مزيد من المثابرة الإضافيّة ربّما تمكّنت يوما من الوصول إلى غباء المرأة التي خرجت لإلقاء نظرة  دونهنّ جميعا.

    أقول لَوْ...
     






    محمد فطومي

    الاثنين، 9 جانفي 2012

    الحبّ بقافية / بابلو نيرودا





                                                                      بابلو نيرودا                                       تعريب : محمد فطومي
                                                                                                                              عن الفرنسيّة 





    ***
    منذ أحببتك صرت لا تشبهين أحدا
    فدعيني الآن..
    الآن بالذات
    أسجيك بين الزهر الأصفر؛
    من نسخ اسمك بحروف من دخان
    بين نجمات الجنوب؟
    آه..!
    دعيني الآن بالذات إذن
    أتذكر كيف كنت قبل أن توجدي؛
    ***
    و أنت صغيرة و شهية
    أراك معطرة إلى النهدين،
    تحملين لي أكاليل زهر العسل،
    و فيما كان الريح يعدو خلف الفراشات ليقتلها
    كنت أحبك،و فرحي يعض فمك الخوخي.
    لا شك أنك اعتدتني،
    و اعتدت روحي المهدودة البرية،
    و اسمي الذي يطارده الجميع..
    ***
    كم مرة شاهدنا نجمة الرعاة
    تتوهج و نحن نتبادل القبل من العينين
    و فوق رؤوسنا يتلوى الشفق كمروحة..
    مطر الكلمات..كلماتي
    يداعبك بحنان
    و جسمك لؤلؤ دللته الشمس طويلا
    و إني منذ زمن بعيد أحبه
    و اعتقدت فيما اعتقدت
    أنك ملكة هذا الوجود
    و أحضرت لك زهورا خجولة و جميلة
    و أحضرت لك الجبال و البندق الأسمر
    و سلالا تتدلى منها القبل؛
    كنت فقط أود لو أني
    أفعل معك ما يفعله الربيع مع مزارع العنب..










    السبت، 7 جانفي 2012

    السّاقية




    للرّيح داخل ذلك المعتقل القديم المهجور و هي تتجوّل وسط
     أروقته المخلوعة العفنة و تلهو بأبواب زنزاناته الصّدئة، صفير أوّله شبيه بشهقة زرّاع الفتنة و آخره أدنى إلى فحيح الأفاعي.
    المبنى يرسو فوق تلّة صخريّة عارية في عمق غابة لا تعرف تربتها أشعّة الشّمس.تحيط به أشجار السّرو و الصّنوبر من كلّ الجهات.كان قبل أن يخلا من خمسين عاما حصنا منيعا ،لا أمل للسّجناء في الهرب منه،و إن فعلوا فإنّ مصيرهم هو الموت جوعا أو بين أفواه الضّواري.أمّا الآن فقد أحيل على النّسيان و صار مرتعا للجرذان و السّحالي.
    في ساحة الحصن شجرة خرّوب عملاقة.رحل الجميع فبقيت وحيدة،حبيسة،طافئة اللّون، محتجزة،ممنوعة من حلاوة القطف،مسلوبة الظلّ،مسموعة الأنين،بها شوق جريح لمعانقة الأعشاش من جديد.
    تتوق منذ كانت بذرة إلى الخروج و عناق أخواتها،لكنّها تقف عاجزة لا حول لها و لا قوّة.أخواتها في الخارج أيضا لا يملكن لها سوى الصّلاة و الإيماءات الخرساء  و الانحناء يمينا و شمالا إكبارا لصبرها.فالأشجار لا تغادر أماكنها،و لا تهرول،و لا يطلق سراحها،و لا تدفع عن أغصانها النيّران لو احترقت فكيف لو طلب منها أن تتحالف ضدّ القلعة و تخلّص الخرّوبة العالقة منذ ما يزيد عن مائة عام؟
    بعد طول انتظار،أوحي لشجرة الخرّوب بأنّها على أبواب نصر عظيم.تساقطت الأمطار بشدّة مبشّرة بانطلاق المعركة. و لسماحة التّدبير فإنّ الأمطار حين تهطل،لا تفرّق بين معتقل  أو واحة.مدّت عروقها الضّخمة من تحت أساس المعتقل الصخري الصلّد.و جمعت ما بقي لديها من قوّة. و طوّقت البناية من كلّ جانب،و بدأت تعصر الحيطان عزما و غضبا و طاعة..تشقّق السّور العالي و بدأت تتناثر منه الحجارة.الأمطار تتزايد.الجداول العطشى امتلأت كلّها و فاضت في وقت وجيز.الجذوع تزداد إصرارا  و سمكا.إنّها تطوّق المعتقل ،تخنقه و تسحق ضلوعه. كلّ الأشجار تتطلّع بإعجاب و ذهول إلى مشهد الخرّوبة و هي تنتحر و تنسف دعائم الخرافة.
    هاهو المبنى يتهاوى و يتمزّق كأنّه من قماش بين أذرعها.و ها هو يستغيث.جميع من في الغابة انتظروا هذه اللّحظة.قريبا ستنجلي عنهم آخر آثار المستعمر الدّخيل.فجأة دوّى انفجار عنيف كالرّغاء،هزّ أرجاء الغابة بأسرها،و ظلّ يتردّد.و تكوّم الحطام  إلى الدّاخل،و يسقط فوق الشّجرة العملاقة ليقسمها إلى نصفين و يطمرها إلى الأبد..سحّت المطر و هفتت سحابة الغبار.و بحّ صوت صدى الانفجار حتّى تلاشى.و ابتعدت الغيوم السّوداء و ران في الفضاء سكون مرعب.
    فوق فرع صغير من جذع الخرّوبة،كانت قد ألقت به قبل المعركة قرب ساقية على السّفح،ولد برعم غضّ صغير به نضارة الطّفولة بعد.دفع برأسه قطرة مطر .نظر حوله فلم ير شبيها له  فنادى بصوت يتيم:أمّي أين أنت يا أمّي؟مالي لا أراك يا أمّي ؟ ثم أصاخ السّمع ،و لكن ما من مجيب. عاد للنّداء من جديد مرّة و مرّتين  و ثلاث..سمعت الصّوتَ بلابلُ  و كروانات الغابة،فجاؤوا من كلّ صوب يلبّون نداء الخلق و يستقبلون الوليد.تحلّقوا حوله يرفرفون مصفّقين بأجنحتهم ،يشدون له، يلاغونه و يروون له الحكاية الأزليّة للتفتّح من تحت الأنقاض.. حكاية الزّوال من أجل الحرّيّة و البعث.



     محمد فطّومي

    تمنّوا معي..

    لا تقلقوا بشأن الأعمال الجيّدة،لأنّها حتّى لو أُتلفت جميعا، فإنّها حتما ستعود إلى الحياة من جديد.و لكنّ هذا لا يعني أنّ الرّداءة ستسقط عمّا قريب .
    في الوقت الحاضر تمنّوا معي فقط أن تستفحل الرّداءة أكثر  بواقعنا الإبداعيّ،لأنّها  بذلك ستعجّل بخلاصه منها،
    تماما كما سحق حكّامنا العرب أنفسهم بأنفسهم...

    الجمعة، 6 جانفي 2012

    مقولة 2



    إنّ العلاقة بين كائن ما و بيننا ليست سوى تصوّر في أذهاننا.ستفقدنا الذّاكرة إيّاهم و هي تضعف شيئا فشيئا،و بالرّغم من الدّوافع التي سنعوّل عليها في تبرير تغافلنا عنهم، كالحبّ و الصّداقة و التأدّب و الاحترام البشري و الواجب ،فإنّنا نكون قد طردنا الآخرين من حياتنا نهائيّا بشكل حضاريّ.
    الإنسان هو الكائن الذي ليس بوسعه أن يخرج من دائرته الخاصّة.و هو الذي لا يعرف الآخرين إلاّ عبرها،و الذي إذا قال خلاف ذلك يكون قد كذب.
    (مارسيل بروست)

    مقولة 1



    مأساة الرّجال الذين هرموا،تبدأ عندما يتوقّفون كلّيّا عن التّفكير في إنشاء رسائل هم  على
     يقين بأنّها لم تعد تجدي نفعا.
    (ألبير كامو)

    الخميس، 5 جانفي 2012

    قصّة قصيرة / باتريك فاست



       :باتريك فاست                            Patrick.S.Vast    
                        تعريب :محمد فطومي

    "جون شيبار" كاتب عُرف بميله للخيال العلميّ ،و لقد اشتهر بين النّاس على وجه الخصوص بِنَفَسِه الطّويل و قدرته على تأليف مجلّدات بستّ مائة صفحة و بألف صفحة إن لزم الأمر.
     في أمسية من أواخر الصّيف،كان جالسا أمام حاسوبه ليبدأ رواية جديدة.كانت الحكاية قد تشكّلت في ذهنه على نحو تامّ و مرضي.و كما جرت العادة فقد أخذ يضرب أزرار لوحة المفاتيح بحماس و لهفة.لكنّ ضوءً  أبيض ساطعا غشّى عينيه  و منعه من الاستمرار في العمل.و في الّلحظة التي شرع فيها "شيبار" بكتابة رواية تكون الأكثر سُمكا بين جميع أعماله السّابقة، اخترقت كرة من الّلهب مجال  الأرض  الجوّي و اصطدمت بها،و لم يجد الوقت إلاّ ليكتب هذه الجملة:
    ( و راح كوكبنا طعاما للنّار.)
    هذا كلّ ما عثر عليه فريق من المستكشفين القادمين من عالم آخر بعيد جدّا،محفورا في ذاكرة الحاسوب المغمور  تحت أمتار من رماد أسود غطّى سطح الأرض بالكامل.
    و بذا يكون "شيبار"  قد تمكّن أخيرا من تحقيق الخلود لاسمه ، بوصفه الكائن الذي كتب أقصر قصّة يمكن أن تقع بين يديْ مخلوق في الكون على مرّ الأجيال.  

    جرعة بحر



     ألقت برسائله في البحر أمام عينيه،تماما كما أغرق النخّاس لوحاته من قبل ..قتله الوجع، لكنّ  جثّته ظلّت  طافية فوق البرّ تواصل تجوالها بين الأزقّة..سئم نظرات الهلع في عيون الأطفال،و إصرار الضّباع المُقيت، فالضّباع ركيكة و لا تيأس..و قرّر أن ينتقم من الجميع دفعة واحدة.. عندها، تناول كأسا و صبّ فيها البحر برسائله و لوحاته،و ألقى بها ،و بالنخّاس ،و بأطفال الأزقّة و صراخهم ،و بالضّباع و حفرها البليدة ..ذوّبهم و تجرّع الخليط..
    لمّا فتح عينيه وجد نفسه في مكان رماديّ الهواء، أبيض التّفاصيل.. زيارة الجيفة فيه مسموحة و غير مُخيفة،شرط أن تدسّ علبة سجائر في جيب حارسه الأمين..



    محمد فطّومي

    حرّرني / كرسيستيان ايبال



    قصّة : كريستيان إيبال
    تعريب : محمد فطومي


    وداعا يا صديقي.
    أرأيت؟ها أنذا أبكي..
    لكنّ دمعة لن تستطيع غسل مشاعري الوسخة...
    لو كان على الأقلّ بوسعي أن لا أحتفظ  سوى بفرح طفولتنا و مراهقتنا اللاّمبالية ؛لكنّه وهم.و الحقيقة أنّ وضاعتي تلفّني كشرنقة.لأنّي لم أرافقك حتّى النّهاية.تلك النّهاية التي طالما أفزعتني.
    هل تسمعني؟أعترف بذنبي،حتّى و إن لم أكن موجودا ساعة اندلع الشرّ.
    إحساس بالخزي.هذا صحيح.. بالثّورة أيضا!
    لست أدينك يا صديق..و كيف أفعل؟
    حين تكون الحياة عبئا ثقيلا يسحقك،و شعورٌ لعينٌ بالضّيق يلغي كلّ ذرّة أمل لديك،و لا يكون أمامك غير ارتباك الحواسّ ،و لا يكون لديك رفقاء عدا الكآبة و الوحدة..حين يحلو الموت،و تُرفض استغاثاتك من أجل العتق...ستسقط حيّا في الجحيم.
    لم تقل لي شيئا..لم أر أبعد من حزنك،كنتُ مشغولا بشبابي و مغامراتي.
    أهو جرم أن يعلم أحدنا أن لا أمل له في الشّفاء فيرغب في حسم آلامه؟.حسب القانون نعم،و حسب رجال الدّين نعم.
    لم يبق إذن غير الضّمير لنتعلّق به.و بين الانتحار و الوجع اخترتَ الوجهة الأكثر إنسانيّة.
    و لكن لماذا؟لم الضّراوة و لم كانوا حازمين معك إلى هذا الحدّ؟لماذا؟
    ثمّة نهايات علينا لصالح أصحابها أن نستخفّ بها.
    جرأتك مدّتهم بالحجّة و قرّروا أن تعيش.لكن بأيّ ثمن؟
    كنتَ رجلا مضرّجا بالجروح و الكسور و الأنين و العاهات..رجلا غير قادر على أن يتصّرف في أيّ شيء بمفرده.
    محنتك بدأت من هناك.جسد و قلب مكسوران..تعذيب مستمرّ،لا يتوقّف،أن أراقبك تهوي..أن أفقد ذكرانا و ومضاتك ،الواحدة تلو الأخرى؛ لحظاتك مع أصدقائك،عائلتك،و كلّ الذين أحبّوك.. أن أراك تنزلق في كلّ لحظة أكثر نحو القاع و نحو اليأس و الخوف و الأسوىء و النّسيان..
    أحدا عشر سنة بلا هوادة..أحدا عشر سنة.
    محنة مشتركة و سخيّة،جمعت أقاربك و عائلتك و أصدقاءك.
    محنة لم تستثنني ،بلا ريب.أنا الذي لم أدر كيف أساعدك،أنا الذي عانيت لأنّك تعاني،أنا الذي تركك تتعذّب بسلام...
    أنا الذي رفض كما عمدا أن يفهم نداءك المذبوح..
    كنت أعزّ أصدقائك.
    سامحني..أتدري؟كنت مجرّد طفل.كنت خاوي الحيلة تماما،و منقبضا جدّا..
    ثمّ ما فائدة الذّرائع...
    إنّ لي أمنية واحدة.أن لا تكون قد وعيت بذبولك حتّى العمق.أو بأنّك تفنى ،أو بعذاباتنا بسببك ..أو أن تكون قد وعيت على وجه الخصوص بغيابي..
    و لست نادما سوى على أمر واحد؛أنّي لم أهتمّ بك ما يكفي لأجعلك تختار الحياة.
    أخيرا مِتّ.أخيرا تحرّرتَ.
    و عارضتُ المجتمع بعدك من أجلك لأنّه لا يسمح بتلطيف الموت للماضين نحوه لا محالة، الذين يمزّقهم المرض.و انتقدّته بشدّة لأنّه لا يؤنس هؤلاء أو يحنو عليهم.
    ثمّ أرسلتك في خيالي إلى الجنّة، بالرّغم من أنّ نظراتك المتوسّلة لا شيء يمحوها.
    بعد كلّ هذا..لا يهمّ ما إذا كنت قد تأخّرت أو قصّرت في حقّك،فقط وددت أن تعلم كم أفتقِدُك و كم أحببتك.
    ****


    كريستيان إيبال
    Christian Epalle
     كاتب فرنسيّ ولد سنة 1965 يعنى بالقصّة القصيرة و المقالات الفلسفيّة ،و يعرف بميله لأعمال الخيال العلمي.