• الرئيسيّة

  • السبت، 28 جانفي 2012

    النّوارس المسافرة / ألفونس آلّي



    قصّة للكاتب الفرنسي : ألفونس آلّي-1891
    تعريب :محمّد فطومي                



       لا أظنّ أنّكم واكبتم تلك الحقبة أو تذكرون شيئا عن جزئيّاتها،أبناء هذا الجيل،و لكن لا بأس سأروي لكم بعض تفاصيلها؛فإرسال البريد المستعجل في المرّات الأولى التي اشتغل فيها البرق الكهربائيّ كان يفرض على المهندسين أنظمة  توصيل ذات سلكين؛السّلك الثّاني كانوا يتصوّرونه ضروريّا لنقل الكهرباء.
       في الحقيقة  لم يضيع أولئك السّادة الكثير من الوقت لينتبهوا إلى أنّ سلكا واحدا يفي بالغرض ،و فسّروا لنا بثقة و حزم بعد اكتشافهم ذاك ،بأنّ الأرض ستكفيهم السّلك الثّاني.
       و قد ترى من مكانك حيث أنت السّحنة التي تعلو وجوه أولئك الرّجال العظماء،لو أنّ أحدنا أنبأهم بأنّنا يوما ما ليس بعيدا أن نكون على مشارفه ، سنتخلّى كلّيّا عن الأسلاك لنتراسل بين "كاب-كود" في الولايات المتّحدة و "بلدهو" في انقلترا.
        إنّها في الواقع الضّربة القاصمة لسلك البرق،وأستحلف ،من جهتي، قرائي الأعزّاء الذين يحتفظون بعد في حافظات أوراقهم بقيمة من هذا النّوع،أن لا يترقّبوا البتّة تدهور الأشياء و تراجعها..فالمسائل دائما تمضي إلى الأمام.
       و أتساءل عمّا إذا كان قد بلغكم وجه الشّبة بين الذي قلته لأبرهن بأنّ روح التّقدّم في حدّ ذاتها هي أن تكون موازية لنفسها،و بين اقتراب زوال أسطورة الحمام الزّاجل و فقده حظوته إلى الأبد.
       بعد خمس سنين أو ربّما أقلّ من ذلك ،سيبدو لكم الحمام حلاّ كلاسيكيّا،بل بدائيّا و مضحكا كما هو اليوم حال برق الأب "شاب" اليدويّ بذراع التّدوير.
     و يكفي أن نعود للحديث عن النّكات التي ما كان يجب أن تبرح مخيّلاتنا،و نستحضرها من جديد،لنتيقّن من أنّ الحمام ماض في طريقه ليعهد باختصاصه الأزلي للنوارس.إلى أن يأتي اليوم الذي نشاهد فيه ساعي الجوّ الذي يطير.
    و سيهتف النّاس بشتّى الشّعارات حينئذ:
      - " يعيش النّورس ،امنحوا أنفسكم رؤية أنقى و أرحب.."
    - " يعيش النّورس الطّائر القويّ.."
    - " يعيش النّورس ملك البحار و إمبراطور الجوّ.."
      و لكن حذار ! ليست المسألة بسيطة كما قد تبدو للوهلة الأولى،و ليس بديهيّا أو هيّنا أن نكون قد حقّقنا هذا النّجاح السّاحق . فكم من الصّبر و الهندسة و السّهر أنفقنا كي يصبح انجازنا متاحا.
       قبطان السّفينة الحربيّة السيّد "دوما دي بوبري" هو الذي انكبّ بنفسه على دراسة و تنفيذ المشروع..مشروع النّوارس ساعية البريد..الحلّ البديل،و فعل ذلك دون أخطاء أو هنّات سهو من ثلاث سنوات.و انطلق يحصي أمامي،و ليس لي،آلاف التّحوّلات المدهشة و المفاجئة التي شهدها بنفسه،دون أن يفارقه مزاجه الرّائق الذي يميّز بحريّتنا الوطنيّة.
      " كانت تلك المرّة الأولى التي أذيعَ فيها بين النّاس ممّن هم في محيطي ،فكرتي بتطوير و تحسين المراسلات الحيوانيّة، بإقصاء الحمام الأبله،و استبداله بالنّورس المذهل،لمّا دوّت قهقهات لا يزال جرسها يرنّ في أذني حتّى السّاعة..
     " النّورس.. !" (صاح أولئك الهمج دون تتمّة أو سبب مقنع).." النّورس!.."
    - النّاس بهائم..(عقّبتُ)
      و أضاف:
     "- بالنّسبة لي ،و دون أن أترك لهم فرصة لإحباطي و النّيل من فلسفتي،باشرت العمل فورا..حصلت على بيض النّورس و جعلت بطّا يحضنه.و فقست نوارسي،و لأنّها صغيرة جدّا و لا خبرة لها بالتّحليق بعيدا فوق المحيط،فقد جعلتها في البداية تتخبّط من باب الدّربة في برك صغيرة هيّأتها للغرض،و أعددت لها بداخلها مؤونة ضخمة من السّمك الذي يحبّونه.
      و لمّا حان وقت الرّحيل باتّجاه الحياة الحرّة البرّيّة،و مع اقتراب الموعد الذي سأجني فيه ثمرة تعبي،بادرت بتناول سلك معدنيّ دقيق..لابدّ من السّلك ..أغيّبه في أفواهها عميقا،كما لو أنّها ابتلعته عن طريق الصّدفة،و ربطته جيّدا من طرفه الذي معي على مناقيرها..و..حرّرتها متمنّيا لها سفرة موفّقة."
    - بدأت أفهم..(قلت كالعائد من شرود)
    و واصل:
    "- في اليوم الموالي عادت مرتبكة،و منهكة جدّا و ميّتة من الجوع ..ما الذي كنت أراه قد تراجع في مشروعي،أقصد نظامي،غير صغاري الفارّين بالأمس !؟..و أعدتها من جديد إلى ساحة الإقلاع،و عزمت أمري مرّة أخرى..نزعت عنها الأسلاك المعدنيّة العالقة بأفواهها.. كافأتها بحفلة طعام..و ركّبت الأسلاك المعدنيّة حيث كانت مرّة أخرى،و عدّت بصغاري للتّمرين من جديد.
      في  غضون أيّام من هذا الهرج فقهت نوارسي الدّرس جيّدا ،و لكي لا تنسى أبدا  مبدأ الموت جوعا من أجل الحرّيّة،الذي أحتاجه،و ليظلّ طعم الحرّيّة ألذّ لديها بكثير من طعم الإحساس بالشّبع،فقد جعلتها تعتقد بأنّ أصناف الأكل الّلذيذة تكمن في منصّة إقلاعها؛برج الحمام(لو جاز لنا تسميته مبدئيّا)"
    - نعم..بكلّ بساطة..(قلتها و أنا أهزّ بكتفي،تعبيرا عن متابعتي الواعية لمنطق تدرّج الأشياء)
    و أضاف بنفس الحرص و الحماس للشّرح:
    "- ..و لكن حذار من الاستهانة بالمسائل و التّمادي في الحلم..لا بدّ من الرّصانة في العمل.
    و كما أسلفت،و لكي لا أشتّت فكرك أكثر،فقد خلقت بالتّالي كائنا سمّيته " النّورس الفرد " يملك واعز  الانتماء و غريزة العودة إلى رقعة الأرض،تماما كالحمام.ثمّ زاوجته  بفصيلة الحمام،فتوصّلت كما خطّطت إلى كائن آخر،عرق آخر،يتمتّع بالفطرة الوراثيّة لأسلافه و ما لقّنتها إيّاها،من حاجة للعودة إلى البيت المرفّه."
    - و ماذا عن حسّ الاتّجاهات؟(تساءلت)
    "-النّورس مجبول على ذلك بطبعه و هو في ذلك أفضل من أذكى حمامة.أمّا بالنّسبة للمسافات التي تقطعها فلا حدّ لها و هي مثاليّة في المقاومة و المكابدة،و باستطاعتها و هي مسافرة أن ترتاح فوق الماء،يهدهدها الموج الّلطيف الرّخو."
      و تفضّل القبطان "دوما دي بوبري" بإخباري بأنّ إطلاقا لدفعة نوارس سيتمّ في قلب المحيط الأطلسي عمّا قريب،و قال بأنّه يتشرّف بدعوتي لحضوره،و بأنّه سيكون سعيدا لو أنّي ألبّي و أعاين تلك التّجربة الخارقة الحاسمة في تاريخ البحريّة الوطنيّة.
     ..و هذا بالتّأكيد ما جعلني أجزم بأنّي نلت الشّرف الأكبر في العالم على مرّ العصور..

     

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق