• الرئيسيّة

  • الجمعة، 13 جانفي 2012

    ها هم !..ها هم! / كولييت




    Colette
    نص لـ :" كولييت"  
    تعريب محمد فطومي


    باريس المسرورة تترقّب ملكا ،و لا شيء بوسعه أن يعكّر فرحها الجمهوريّ.. سيكون علينا هذه المرّة أن نهتف لزعيم آخر،لملكة و ملك آخرين.كان هناك أعلام و جنود و أجسام خشبيّة و أخرى نحاسيّة متحمّسة للحرب،و الشّمس و الغبار و مدرسة الضبّاط كانوا أيضا في الموعد لساعات فترة الظّهيرة الثّقيلة.
      إنّه الراّبع عشر من يوليو تقريبا.لأنّ البذخ المنبعث من الزّهور الحقيقيّة على واجهات البنايات و في السّلال الموضوعة على قمّة السّواري ،قد أزاح بصدقه و أناقته الرّسوم الباهتة على الّلافتات و الشّعارات التّعيسة على لوحات الكرتون.
     زهو متجدّد لا ينقص أو يشحب على مرّ السّنين.رقّة مباغتة و واثقة و نضرة تغمر في ساعة نصر شعبا متفاجئا باندفاعه و حبوره،و مندهشا لأنّه حضر بتلك الأعداد و بتلك الحرارة.
     شارع السّلام يخفق بالأعلام و الأغصان.الرّايات تعكس على الجدران مساحات  حمراء داكنة و غامضة كبقع دم.و أشرطة الإعلانات الضّوئيّة تشتعل في قلب النّهار و الأعمدة المتوّجه بالزّهور تترنّح فتبدو كمراكب شراعيّة مزوّقة كما في شارع الأوبرا،و غيمة زرقاء تزحف على المدينة كقبّة مرشوشة بآلاف الثّقوب النّاريّة.
     و ها أنا محاصرة في ركن من الرّصيف كسنبلة في حقل سنابل.أمامي ثلاث صفوف من الرّؤوس و الأكتاف ،ثمّ ظهور لعمّال يلبسون البدل الزّرقاء.خلفي تماما صرّافة تقوّست درجاتها تحت وزن أنثويّ أنيق للغاية؛أحذية لامعة و مرصّعة و مشابك و دبابيس شعر ملوّنة و مناديل رقبة و قفّازات و خدود كالكرز و عصائب على الرّأس.
    لم نر منذ آخر زيارة لحاكم روسيا بهرجا بهذا القدر أو سلالم مشحونة على هذا النّحو الثّمين.
    حقيبة الأدوات التي يحملها عامل تجهيز صحّي يقف إلى جواري تخزني و تضغطني بصلابة على الجانب الأيمن.و على يساري شابّ لائق يحاول إيجاد طريقة يحاور بها فتاة رصيف تبدو كأفعى منتصبة على قبقاب مخمليّ مغبرّ.امرأة شوارع حقيقيّة ، حامضة و غير مروّضة.
    - عذرا يا آنسة؛ هل صحيح أنّ الملك جورج سيصل مع الرّابعة و النّصف؟
    - لا أدري ! قال بأنّه سيمرّ ليأخذني معه للغداء عند السّادسة..و لم يقل أكثر من ذلك.
    جيراني كلّهم يُظهرون نفاذ الصّبر و القليل من التّأثّر و الّلطف و لقد بدؤوا بالفعل يتبادلون عبارات الاحترام الجادّة،و تفهم من قسمات وجوههم  أنّهم مستعدّون للبقاء مدّة أطول و حتّى النّهاية..
    سيّدات السّلالم لا تبدين الآن اهتماما بحاكم بريطانيا أكثر من تنّورة جيّدة.و اقتربت رؤوسهن و تهامسن حكايات صغيرة و حميميّة تدلّ فقط على أنّهن ينتمين إلى العالم الرّاقي..
    - سيكون العشاء باردا لدى عائلة "بروتوي" ،صاحت إحداهنّ.
    - لماذا؟ صهلت أخرى من الأسفل.
    - لأنّ الأميرة مـ.. و الدّوقة لـ.. مدعوّتان إليه.لا يمكنني الذّهاب دون أن أشعر بوجودهما.
    لم أتمكّن من رؤية موكب الحرس الأوّل لكنّي سمعته،و استقبله الحشد بحفاوة حين وصل إلى مستوى ركننا و علّقت فتاة الرّصيف:
    - لا شيء ..مجرّد جنرال...
    - عزيزتي ،ولولت إحدى سيّدات الصرّافة ؛إنّه موكب أسطوريّ بحق..
    و قالت فتاة الرّصيف :
     - لا يبدو على هؤلاء الذين يحملون فوق رؤوسهم قرونا من الرّيش أنّهم يعيشون في هذا العالم..ألم يخبرهم أحد بأنّ ريش الطّاووس على حوافّ القبّعات ليست موضة هذا العام؟
    ثمّ فجأة شحب وجهها و عضّت شفتيها و رقصت في مكانها و صرخت بنشوة:
    - ها هم! ها هم!
    - ها هم ! كرّرت السّلالم و عامل التّجهيز الصحّي إلى أن فقد صوته و سكت .و مدّ الشابّ اللاّئق عنقه إلى الأمام و تقدّم خطوة،و وقف على أمشاط قدميه فلم أعد أر شيئا.
    - يعيش الملك..! تعيش الملكة ..! تعيش بريطانيا..!
    و تقافزت سيّدات الصرّافة و زعقن،و اختمرت فتاة الرّصيف،و ترقرقت دمعتان في أهدابها.و هتف عامل التّجهيز الصحّي دون أن يترك الحقيبة..بقيّة جيراني حتّى هذه الّلحظة لا مبالون و لا تعابير مفهومة طاغية على ملامحهم.و الجميع يساهمون من مواقعهم و يقدّمون أفضل ما لديهم من صراخ و يلوّحون بالأيدي و المناديل،من أجل تهويل الحماس و المشهد الشّعبيّ و إثرائه بروح خفيفة و صادقة و دافئة و ساخرة من الذّات احتراما للهيبة الملكيّة.
    و حالما مرّ الموكب و انعطف على ركن الشّارع قرّرت فتاة الرّصيف التي لا يزال التّأثّر غالبا على صوتها:
    - ليس سيّئا ..ليس سيّئا بالمرّة..فقط هناك شيء واحد كان عليهم حذفه ؛قبعة الملكة ماري،الزّرقاء.



    "كولييت" : 1914
    سيدوني قابرييل كولييت  ( 1873-1954)
    روائيّة فرنسيّة مولودة بمقاطعة :سان سوفور.

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق