• الرئيسيّة

  • السبت، 7 جانفي 2012

    السّاقية




    للرّيح داخل ذلك المعتقل القديم المهجور و هي تتجوّل وسط
     أروقته المخلوعة العفنة و تلهو بأبواب زنزاناته الصّدئة، صفير أوّله شبيه بشهقة زرّاع الفتنة و آخره أدنى إلى فحيح الأفاعي.
    المبنى يرسو فوق تلّة صخريّة عارية في عمق غابة لا تعرف تربتها أشعّة الشّمس.تحيط به أشجار السّرو و الصّنوبر من كلّ الجهات.كان قبل أن يخلا من خمسين عاما حصنا منيعا ،لا أمل للسّجناء في الهرب منه،و إن فعلوا فإنّ مصيرهم هو الموت جوعا أو بين أفواه الضّواري.أمّا الآن فقد أحيل على النّسيان و صار مرتعا للجرذان و السّحالي.
    في ساحة الحصن شجرة خرّوب عملاقة.رحل الجميع فبقيت وحيدة،حبيسة،طافئة اللّون، محتجزة،ممنوعة من حلاوة القطف،مسلوبة الظلّ،مسموعة الأنين،بها شوق جريح لمعانقة الأعشاش من جديد.
    تتوق منذ كانت بذرة إلى الخروج و عناق أخواتها،لكنّها تقف عاجزة لا حول لها و لا قوّة.أخواتها في الخارج أيضا لا يملكن لها سوى الصّلاة و الإيماءات الخرساء  و الانحناء يمينا و شمالا إكبارا لصبرها.فالأشجار لا تغادر أماكنها،و لا تهرول،و لا يطلق سراحها،و لا تدفع عن أغصانها النيّران لو احترقت فكيف لو طلب منها أن تتحالف ضدّ القلعة و تخلّص الخرّوبة العالقة منذ ما يزيد عن مائة عام؟
    بعد طول انتظار،أوحي لشجرة الخرّوب بأنّها على أبواب نصر عظيم.تساقطت الأمطار بشدّة مبشّرة بانطلاق المعركة. و لسماحة التّدبير فإنّ الأمطار حين تهطل،لا تفرّق بين معتقل  أو واحة.مدّت عروقها الضّخمة من تحت أساس المعتقل الصخري الصلّد.و جمعت ما بقي لديها من قوّة. و طوّقت البناية من كلّ جانب،و بدأت تعصر الحيطان عزما و غضبا و طاعة..تشقّق السّور العالي و بدأت تتناثر منه الحجارة.الأمطار تتزايد.الجداول العطشى امتلأت كلّها و فاضت في وقت وجيز.الجذوع تزداد إصرارا  و سمكا.إنّها تطوّق المعتقل ،تخنقه و تسحق ضلوعه. كلّ الأشجار تتطلّع بإعجاب و ذهول إلى مشهد الخرّوبة و هي تنتحر و تنسف دعائم الخرافة.
    هاهو المبنى يتهاوى و يتمزّق كأنّه من قماش بين أذرعها.و ها هو يستغيث.جميع من في الغابة انتظروا هذه اللّحظة.قريبا ستنجلي عنهم آخر آثار المستعمر الدّخيل.فجأة دوّى انفجار عنيف كالرّغاء،هزّ أرجاء الغابة بأسرها،و ظلّ يتردّد.و تكوّم الحطام  إلى الدّاخل،و يسقط فوق الشّجرة العملاقة ليقسمها إلى نصفين و يطمرها إلى الأبد..سحّت المطر و هفتت سحابة الغبار.و بحّ صوت صدى الانفجار حتّى تلاشى.و ابتعدت الغيوم السّوداء و ران في الفضاء سكون مرعب.
    فوق فرع صغير من جذع الخرّوبة،كانت قد ألقت به قبل المعركة قرب ساقية على السّفح،ولد برعم غضّ صغير به نضارة الطّفولة بعد.دفع برأسه قطرة مطر .نظر حوله فلم ير شبيها له  فنادى بصوت يتيم:أمّي أين أنت يا أمّي؟مالي لا أراك يا أمّي ؟ ثم أصاخ السّمع ،و لكن ما من مجيب. عاد للنّداء من جديد مرّة و مرّتين  و ثلاث..سمعت الصّوتَ بلابلُ  و كروانات الغابة،فجاؤوا من كلّ صوب يلبّون نداء الخلق و يستقبلون الوليد.تحلّقوا حوله يرفرفون مصفّقين بأجنحتهم ،يشدون له، يلاغونه و يروون له الحكاية الأزليّة للتفتّح من تحت الأنقاض.. حكاية الزّوال من أجل الحرّيّة و البعث.



     محمد فطّومي

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق