• الرئيسيّة

  • الأربعاء، 29 أوت 2012

    نور الظلّ المنشود




    قد يساعدنا الوهج الملوّن على هتك ستر البخار و الإمساك بالعدوّ الخانق المتسرّب من بين الشّقوق و الثّقوب ،لكن وحده الظلّ من يفضح الأجسام الشفّافة ، الدّسائس و المكائد و الشّرور و الغزوات التي لا لون لها ليس باستطاعتها أن تتحدّى القاعدة.. الشّمس عاجزة عن رسم مثل هذا الظلّ، لسنا بحاجة إلى مصابيح الشّمس بعد اليوم ، حسبها آية أنّها تُعلّمنا بعفويّتها القديمة كيف نُرغم الطّاعون على اليأس  : أن نكون أنفسنا رغم كلّ ما يُقال و يُدبّر فوق سطح الأرض.
    عندها فقط  ،و عندها فقط يسطع نور الظلّ المنشود.

                                                                                                      محمد فطومي

    الأحد، 19 أوت 2012

    عازف الكمان





        موعدنا كان الخامسة ركضا نحو الشّرفة، من كلّ مساء،أراقبها تمشي مسرعة بمحاذاة البناية المقابلة لشقّتي بالحيّ اللاّتيني بباريس ،و قد التهم معطفها الأسود الطّويل سواد حقيبتها اليدويّة الصّغيرة و ما تمرّد من شعرها المشدود إلى أعلى. كنت ربّما اكتفيت بهذا المشهد،حتّى لفح آخر،لو لا أنّي صادفتها تخرج من محلّ هاتف عموميّ.كانت جذّابة  و ملحّة الجمال إلى الحدّ الذي يجعلك تبادرها بالتّحيّة أو تسألها إن كانت تحتاج إلى شيء ما، إلى مغامرة ما ،إلى مجازفة ما ربّما.و وددت لو أشكرها لأنّها حوّلت إيقاع حياتي إلى وقع حيّ .و اختصم في عينيها لحظة اختلطت بعينيّ ،المقام العصبيّ و الذّبحة السمفونيّة و قالت مغادرة بحياء ارتباكة خطواتنا :- عفوا سيّدي.  كدت أجيبها:أنا أيضا أحبّك سيّدتي..و لكنّي تمنّيت لها يوما طيّبا و لي يوما آخر.و بقيت للحظة أشيّعها بعيني فاغرا أربعيني أمام نبوغ أنوثتها،و صدق جسدها.
          لا يوقظ من  إغماءة الزّمن سوى حبّ حقيقيّ،أو وهم مقنّع أنيق ،دُلّني على من يملك صلابة تكذيبه..فالصّحوة كالبعث لابدّ لها من نوبة قلبيّة أو صرخة مدوّية في الأذن مباشرة كي تتحقّق.يأتي مصادفة حلوة،له طعم المكافأة أو التّكريم وأحيانا يتّخذ لنفسه شكل التّعاطف معك و الانضمام إلى صفّك و الإشفاق عليك في أسوء الأحوال.صحوة تحوّل ما قبلها من عمر إلى مشي أثناء النّوم لا أكثر.و لا ندري لم اختار ذلك التّوقيت بالذات  و لا أين كان متواريا،و لا لماذا انتظر كلّ تلك السّنوات ليظهر هكذا فجأة، كأنّه تنازل لنا عن شيء ما أو كأنّه كان طوال المدّة يمتحن إخلاصنا له سلفا و بأنّنا تماثلنا للنضج،أو كأنّه كان يهيّئنا للحدث كي ما يراق جزافا بين أيد عابثة شقيّة،لا مستقبل له بينها سوى الضّياع. كلّ هذه التساؤلات ليست من حقّنا و لا دخل لنا في صروفها.و طرحها في نظري،في حال تحقّقت الأنشودة،ضرب من التّخمة و الفساد و الانشغال عن الطّعام بوصفه ساعة الجوع.
        فترى أين تعلّمتْ أن تقول كلّ شيء في ضحكة سريعة واحدة،أخذتها معها، تاركة وراءها عطرها الفصيح،غير المستعجل،يواسيني و يحدّثني نيابة عنها؟
    المرأة التي تعوّدت أن أتأمّلها من فوق،كانت منذ قليل أمامي وجها لوجه،أهو "سعي الدّهر بيننا" على حدّ قول الشّاعر،أم مجرّد حادث عابر،ليست هناك من مدينة أخرى على وجه الأرض تجيد ارتكابه مثل باريس؟
       و تتالت الأيّام دون أن أخلف موعدي اليوميّ معها،دون أن أعرف وجهتها و لا من تكون و لا أين تقيم،و تدريجيّا صرت أحسّ بوجع أن تكون واحدا من جمهور يعدّ بالآلاف و أنت تشاهد حفل أوبرا لأحد العظماء.شعور فضيع بالدّون و النّقص لا مثيل له.و كان لا بدّ أن أجد لي مكانا بجانبها على الخشبة،أرافقها و أتحرّر من غصّة الفرجة،و حدّة أن أكون رأسا سيساهم فيما ستسمّيه هي فيما بعد بقاعة مكتظّة. إنّها تمسرح الدّنيا في عيني متّخذة دور البطولة رغم حضورها الضّعيف ،و ما عدت أقدر على المشاهدة من بعيد كمتفرّج مثقّف مهذّب مكانه في الجهة المظلمة من القاعة،محاطا بآلاف الوجوه التي سيكتفي نجم السّهرة فيما بعد ذات تصريح صحفيّ باختزالهم في كلمتين :"عزيزي المشاهد ".و كان لابدّ أن أجدّد لها اعترافي بالجميل لأنّها لم تشوّه صورة سوزان في مخيّلتي.قبل أن تستفحل بي قوانين اللّعبة.سوزان التي لم أحبّ سواها و نذرت لها فنّي،و تمرّدتُ من أجلها على ابنة الجيران و تركتها،و أعلنت بأنّي مادمت قد راهنت على وجودها فإنّها حتما ستلبّي و ستنتظرني و ستعيد صياغة ما ضاع من عمر قضّيته بعيدا عنها.سوزان التي تتقن جميع فنون التّجدّد و تسلّق الأعصاب.امرأة من كريستال تلمّع نفسها بنفسها، تعرف كيف تكون جميلة متوهّجة و متى تصبح متّقدة ذكيّة و إلى أيّ حدّ يجب أن تقتلني رميا بالحياة حتّى الموت و تفهم لم تعقّبتها من قبل حتّى أن أعرفها.و تعرف جيّدا ما الفرق بين النّزول عند الشّهوة امتثالا للعرف و بين الصّعود إلى مرتبة  اتّخاذ قرار في العشق ساعة لا يبقى من الملاجىء سواه.  
     امرأة لا تحتاج أن تتجسّس عليّ أو تنصب لي محاكمة مقيتة صعودا و نزولا،مادامت تضع حزني تحت المراقبة ليل نهار،و دقّتي الثّالثة تحت التّصنّت.امرأة تطوف حولي وحين تسكن غربتي،ترحل دون ذريعة،رحيلا دون التفاتة،كانت تدرك منذ البداية أنّه أروع ما جئت أطلبه في القصّة.انقضاءً  سوف يظلّ يتردّد بداخلي،يجوبني مدى الحريق.امرأة لا تحفر ،لأنّها ببساطة تملك جميع مفاتيح السلّم.امرأة تضع رغبتي في امتلاكها نصب تاريخها و هي تجادلني..
     و لكي أعلن لها عن وجودي و بأنّها حوّلتني منذ انتبهت إليها إلى نازف كمان بعدما أمضيت عمرا عازف كمان أجمع نفسي مسافرا بين المطاعم و الحانات،دوري فيها لا يتعدّى أن يكون وسيلة تساعد على الهضم.يشدّني من بذلتي السمفونيّة  السّوداء حاجتي إلى الاستمرار كمسوّغ لقمة محترف،و من الجهة الأخرى أرباب المحلاّت و هم يستدرجون مصيري علّي أصير لقمة سائغة .قرّرت أن أدنو منها أكثر ما يمكن ،و كنت على يقين تامّ بأنّ هذا لن يتحقّق إلاّ إذا كرّرت لقائي بها على الرّصيف متّخذا الوجهة العكسيّة لسبيلها نحو مشوارها اليوميّ.و كنت في كلّ مرّة ألقي عليها التحيّة محاولا تحويل وجهة اللّقاء إلى مصادفة عجيبة تجعلنا نتقابل كلّ يوم في نفس المكان.
     إلى أن لمحتها يوما و أنا أمارس كذبتي المسائيّة تتعّثر محاولة إبعاد شيء ما من أمام وجهها و قد سترته بحقيبتها باليد الأخرى.وقفت أمامها و كدت أقول لها :"سيّدتي هل كلّ شيء على ما أحبّك" و لكنّي سألتها:هل أنت بخير سيّدتي؟
    حينها رفعت عينيها نحوي و أجابت و قد علت خدّها حمرة خجل طفيفة .ذاك الخجل الذي لا تضعنا فيه سوى الأجسام الضّئيلة:نعم ..شكرا ..كانت تحوم حولي نحلة..و أضنّها ابتعدت..
    ابتسمت في وجهها و أنهيت الحوار كي لا أكون ثقيل ظلّ و تمتمت:..لحسن الحظّ..
    ما أريد أن أبوح لها به طويل، بل لا ينتهي. كانت أمنيتي أن أجعلها سعيدة..أن أطرب جميع حواسّها مرّة واحدة..أن نصبح صديقين..أن أمتلكها..و تمنّيت أيضا لو كان باستطاعتي أن أمرّر كلّ ما بداخلي لها، امرأة  مستعجلة على الدّوام..أن أقول لها على الأقلّ"سيّدتي أنت لا تمرّين إذ تمرّين،أنت تتدفّقين،أنتِ لا تُسمعين إذا تكلّمت،فمثلك صوته يندلق و لا ينساب..
        في اليوم الموالي تلقّيت مكالمة من صاحب مطعم "الكهف" يؤكّد لي فيها ضرورة مجيئي مع السّاعة التاسعة ،فالسيّد "ألفونسو" قد حجز المطعم ليحتفل بعيد زواجه و بأنّه أصرّ بأن أكون أنا مرافق العشاء،و بأنّه سيمرّ لاصطحابي بنفسه.
     الاسم لا يذكّرني بشيء،و لكنّ الطّريقة التي نطقه بها صاحب المحلّ و اهتمامه المبالغ بالأمر يدلانّ على أنّه أحد الشّخصيّات الرّاقية جدّا.و كونه طالب بي فذاك يعود إلى أنّ هناك معالم سياحيّة و رموز ،و خصائص معدّة للتّرفيه، اعتاد النّاس أن يجدوها ثابتة لا تتغيّر في انتظارهم متى حلّوا لزيارتها،و مهما طال غيابهم عنها و مهما طرأ من أحداث منذ آخر عهد لهم بها،تماما مثل ابتسامة الموناليزا،فالمسكينة يجب أن تظلّ محافظة على ملامحها كي لا تخرق ما جئت من أجله،أو كتمثال الرّجل مخترق الجدران بمون مارتر،أو كالدّمى العملاقة بمدينة "ديسني لاند"،أو القردة "صوفيا" بالحديقة العامّة..أنا أيضا يجب أن أكون في الموعد مثلهم.و غير مسموح لنا أن نغادر أدوارنا التّرفيهيّة،أو أن نتّخذ أشكالا أخرى،كيما نخيّب آمال السّواح.
        المطعم كان أقرب إلى قطعة من أحد أسواق العصر العبّاسي،جدرانه كانت حجارة طبيعيّة مصقولة عارية على طبيعتها،و الإضاءة ضعيفة،كأنّ مصدرها الشّمع،و كانت تنبعث من المكان رائحة نديّة خفيفة،أذكر أنّي أحببتها كثيرا لمّا دخلت المكان لأوّل مرّة.اليوم ما عدت أشمّها و ما عادت تحرّك شيئا بداخلي،صار المكان عاديّا و مألوفا بالنّسبة لي،تماما كما هو منطفىء جمال الأنهار و الشلاّلات الشّاهقة في عيون أهل تلك القرية.
     الطّاولة الوحيدة كانت تتوسّط القاعة و كانت مجهّزة بعناية و حرفيّة كبيرة و ليس في سقف القاعة أو جدرانها ما يشي بالمناسبة،و كنت قد اتّخذت مكانا غير بعيد عن الطّاولة أنتظر الحبيبين،و انشغلت لبعض الوقت في دوزنة الكمان،أوصيه بالحماس،و تقمّص الوظيفة كما ينبغي لرجل نبيل راهن عليها من دون الأخريات.و تناهت إلى مسامعي كلمات ترحيب و ضحكات و مجاملات،استطعت أن أميّز بينها الضحكة النّقديّة لصاحب المحلّ،و ظهر الزوجان متوجّهين نحو الطّاولة يتقدّمهما النادل.
     ألقى عليّ الرّجل تحيّة دبلوماسيّة ،فيما ألقت عليّ زوجته نظرة فضول كتلك التي ألقتها على لوحة عملاقة لخيول برّيّة كانت معلّقة على الجدار، و بدت غير مهتمّة لوجودي ولا كأنّها رأتني من قبل.
    هاهي ذي أمامي لا تفصل بيننا سوى بضع خطوات و مسافة خيبة مرّة،و قد أصبحت  جمهوري الوحيد،هاهي ذي أمامي و قد تعذّر عليّ وصفها جالسة غير مستعجلة كعادتها. و انصرفتُ إلى كماني أقول لها كلّ ما أشتهي موته،و كان عليّ في الآن نفسه أن أمّحي كلّيّا و أنطمس و أتحوّل من لحظتي إلى جهاز حيّ لصنع الموسيقى،مؤجّلا انسياب الدّم في شراييني إلى ما بعد.
      و راقصها على أنغام جلجلة أساور أمّي في معصميها و هي تعجن الخبز رحيل كلّ عتمة .و لم تنسى هي أن تفتح حقيبتها و تخرج ورقة نقديّة و تدسّها في جيبي عملا بالأصول، لمّا همّ زوجها بدفع الحساب.شكرتها و جدّدت ترحيبي بهما .و قبلت عملتها السّهلة كي لا أعكّر صفو ليلتها السّعيدة،و لأجل أن يصدق ظنّها بي ككائن خلق ليكون في الخدمة دائما ،لا شيء يفرحه أكثر من بضع فرنكات ..قبلت الهديّة.
                                                                                                            
     










    الخميس، 16 أوت 2012

    ثورة أخلاق ..لا ثورة شِعر.




       لن تكتمل رسالة الشّهداء و لن نفيهم حقّهم و نسدّد ديننا تجاههم، حتّى ندرك يقينا بأنّ الأخير في طابور منظّم يُعدّ بالمئات ، هو حتما أقرب إلى قضاء شأنه من صاحب المرتبة الأولى في كتلة فوضى آدميّة مكوّنة من أفراد.
    و أن نعمل بمقتضى ما توصّلنا إليه..
       حتّى يأتي ذلك التّاريخ ، لا بأس إن نحن استعنّا من أجل تجزية   الوقت بمهاجمة بعضنا البعض و استعراض ما جادت به عقولنا علينا من مصطلحات برّاقة و ترديد ميّتٍ لمقولات المفكّرين الغرب المقتبسة من قراءة سطحيّة لأساليب التّعايش الإنسانيّة الأمثل التي وضعتها الحضارة العربيّة منذ قرون. 

      أمّا إذا أتى ذلك التّاريخ فلن نكون بحاجة إلى دستور ، لأنّ الآلة 
    .الشّعبيّة قد اشتغلت و مضى حُكمها و انتهى الأمر
    مع ذلك لن يكون من الحكمة أن نُلقي بالدّستور في مجاري    

    التّصريف ..سيشفع له على الأقلّ أنّه كلّفنا مبالغ ماليّة باهضة

    الأربعاء، 15 أوت 2012

    تونس الثّورة..تفّاحة نيوتن و آدم من بعده.

    نُشر هذا المقال في مجلة مواجهات الالكترونية بتاريخ أفريل 2011
    بعد عدّة محاولات فاشلة لنشره بالصّحافة التّونسيّة ،بأنواعها الثّلاث : صحافة المعارضة،الصّحافة الملتزمة،صحافة العملاء السّابقين الثّوريّين الجدد.
    و لم أكن إذّاك قد صمّمت المدوّنة بعدُ، حين فرغتُ من كتابة المقال بدا لي أنّي قسوتُ قليلا على بلادي ،لكنّي اليوم أرى أنّي وقتها لم أتعدَّ كوني دلّكتُ على الحقيقة كما بمرهم ترطيب للبشرة.


    تونس الثّورة: تفّاحة نيوتن
    و آدم من بعده!


    الحال ثورة و الطّابور طويل و أشعث و الأعناق ممدودة و النّظرات ملؤها الذّعر و الطّمع،و الجباه مسفوعة بحبّات عرق كرمل الشّطآن.أبحث عن بريق يوحي بثّورة في أعين النّاس فلا أجد شيئا.أتحوّل إلى أذن كبيرة لعلّي أسمع دقّاتها من رنّة الحناجر،فلا يصلني غير الثّغاء.
    تسرح بي الخواطر و أنا أراقب هضبة الهرج الحارّة بأسف شاعر ضبط حبيبته في ركن مظلم تغازل حارس ملهى ليليّ.و أُصاب بالصّمم لبرهة و أتخيّل نفسي صاحب المخبز،فأعلّق البيع و أنتصب فوق خشبة المصرف و أخطب:
    - أيّها الشّعب الحرّ،إنّ سخطك أسمى من سدّ الرّمق و الهذر في الأسواق بما لم يكن لسانك يجرؤ على تفجيره.فالعظماء تجوع قلوبهم،لا بطونهم..إنّ خبز الثّائرين الحلم..أم تراك لم تثر أصلا؟ 
    فيهجموا على المخبز في هبّة واحدة،و يسلبوه على آخر ذرّة طحين ثمّ يجرّدونني ملابسي و يطرحونني أرضا ،و يأتي بعدهم فريق آخر فيقتلعوا الخشب و يغنموا عربة طهي العجين المتفحّمة و يفرّوا..أكلتم اليوم،فمن يزوّدكم بالخبز غدا؟ أستيقظ..و ألتحم بالحشد و أحدّث نفسي بأنّي لست خيرا منهم و بأنّ الموقف عظيم بالفعل و محترم و يستحقّ الكثير من القلق و التّضحية و الرّوح القتاليّة.يحيّرني أنّي على استعداد رغم التّهديد بأزمة،للانصراف فارغ اليدين،و أتمنّى لو يلبسني شيطان غبيّ همجيّ فأرفس الجميع بساقيّ و أنتزع رغيفي عنوة،وأبتعد سعيدا و أنا أنتفض ككلب مبتلّ..
    لا يسعفني أيّ شيطان فألوذ بالشّعير.
    ليت أبناء النّسيان و تخوم هذا الوطن يقرؤون هذا و سيقرؤونه ، و ليت أعضاء الهيأة العليا لتحقيق أهداف الثّورة،و أعضاء مجلس حماية الثّورة،و اللابتكارات الحزبيّة الجديدة و خلايا برجوازيّة الثّورة،يقرؤوا هذا.ولن يفقهوه لأنّهم حسموا أمرهم و علم كلّ مشربه.. 
    و أقول للذين ينصّبون أنفسهم أوصياء على الشّعوب،من أنتم حتّى تحموا ثورات تابعتموها عبر شاشات التلفزيون ؟ ثمّ ما معنى حماية الثّورة ؟لقد  سقط لفظ "مفهوم" من الّلقب الذي توسّمتموه.الصّحيح مجلس حماية مفهوم الثّورة .
    ليست الثّورة ميداليّة .و لكنّك للأسف هذا ما تخرج به من آلاف الحلقات الحواريّة و مقالات إمّا أنّها تهجو ميّتا أو أنّها تصف كرنفالا.و كان بوسعي الانحياز إلى مدينتي و أقول إنّها ميداليّة نالتها القصرين في سباق الستّين شهيدا ثمّ انتحرت..و لكن لا يجوز حتّى مع الإخلاص في النيّة أن نحنّطها بهذا الشّكل أو أن نعتبرها اختراعا جاهزا للاستعمال أو أن نردّد مصطلح الحفاظ عليها ،فذلك يعني بأنّ معالمها قد اكتملت كتحفة فنّيّة أتممنا صنعها و ما علينا الآن سوى حضنها في صندوق بلّوريّ و نضع عليها عسسا حذر السّرقة أو التّزييف .
    و كان على الحقوقيّين و الغيورين على هذا الوطن من مناضلين و محامين و مثقّفين ، قبل اقتباس الكلمة    أن يجتمعوا بالشّباب في كلّ نقطة من البلاد و يشرحوا لهم أهداف الثّورة ؛ما تحقّق و ما نحن ماضون لتحقيقه،و أنّ ثورة الحجارة و الدّم قد ولّت برحيل العائلة المطرودة،و أنّ أمامنا ثورة ممارسات و إبداع و مبادرة و ثقة و صبر و ضمير،و أنّنا لن نرضى بأقلّ من بلد بوسع أفقر فرد فيه و أقلّه بختا و أخسره في القرعة و أكثرهم حياء و أبعده سكنا أن يبلّغ صوته فيُسمع في وقت وجيز من قبل أكبر المسؤولين،و لا بأقّل من بيئة لا تستغبي كادحيها أو تكمّم مفكّريها.
    هذا ما قامت عليه الثّورة ،و هذا هو السّبب الذي دفع بالبوعزيزي لإحراق نفسه.و هذا يختزل كلّ المطالب.
    تحرّرت الصّحافة و صار بإمكانها التّعبير دون رقابة أو قصّ أو منع..قول آثم ،أو في أحسن الأحوال غير صحيح،لأنّ التي تحرّرت بالفعل هي تجارة الصّحف.و مضغ التقارير التي تدين الرّئيس الغابر و عائلته و النّبش في الماضي للإبهار و التّسلية ليست حرّية تعبير.
    بالأمس كانت المقالات تروي لنا كيف أنّ قردا ولد بستّة أصابع في "منتينغرو" و ها هي اليوم تؤثّث مواضيعها برسكلة قمامة التّاريخ.
    أمّا المثقّفون و الأدباء فقد سارع كثير منهم ،في سباق مسعور مع الزّمن ،إلى نشر مؤلّفات و دواوين شعر مادّتها الثّورة ؛مؤلّفات تجاريّة شاحبة خاوية،بخمس أسطر في الصّفحة و بخطّ كبير -  لزوم السّرعة - ،لا طائل من ورائها سوى ما قد يجنيه صاحبها وسط فوعة الذّهول هذه.
    كلّ علم مشربه على مرأى و مسمع من الشّباب..
    و هذا بالتّحديد ما خلّف لديهم مأزق ثقة و شعورا بالخسارة،و بأنّ الأمور لن تتقدّم لصالحهم ،و إلاّ بم تفسّر إقدام الآلاف على الموت في عرض البحر؟أليس إجماعا بالآلاف على أنّ مسار ثورتهم قد خيّب رهانهم.
    الثّورة إنجاز ،لا منجز يا سادة؛و أخطر ما قد نرتكبه في حقّ أنفسنا هو الاعتقاد بأنّها كذلك.
    أزحنا عقبة كانت تمنعنا من الحلم و رسم أهداف بعيدة من أجل حياة كريمة .و إزاحة عقبة هو دخول في مرحلة الثّورة بيننا و بين أنفسنا .
    الثّورة نموّ لا يجب أن يتوقّف.
    و ما قمنا به هو أنّنا اقتلعنا الطّفيليّات و غرسنا شتلة كانت محظورة،بعد أيّام تزاحمت أمامها كتل بشريّة لا تحصى للحصول على وريقة منها ،بدافع وطنيّ،على مرأى و مسمع ممّن غرسوها!
    أما كان أولى بهم أن يعفوا عن طفولتها و يشرحوا لمن غرسوها بدافع وطنيّ أكبر ما الذي ستثمره على مدى السّنين؟
    أما كان أولى بهم عوض النّزاع و التّحالف على اقتسام الشّتلة أن يجتمعوا بالشّباب و يبسطوا أمامهم ،و دون أغراض أو ميل لانتماء بعينه أو توجّهات مزاجيّة ،ما النّعيم الذي لن نرضى بأقلّ منه؟
    تدّعي الأنسجة الاجتماعيّة المنبثقة من الثّورة و لن أعدّدها بأنّها ستقدّم للبلد..عفوا و لكنّ ما نحتاجه هو نظام يسمح للبلد أن يتقدّم .
    و الثّورة أيضا كما هي إنتاج و مراجعة لأساليبنا في الإنتاج ،قطع مع النّصب التّذكاريّة و الألبومات العاطفيّة و الأطلال بما فيها الاعتكاف على تمجيد الثّورة نفسها  .علينا أن نحمل زعماءنا الذين أحببناهم في ذاكرتنا ،لا أن نلصقهم على الجدران كآلهة شرقيّة.
    الجدران بريد المنبوذين،و ولاؤنا فقط للبقاء العزيز و الفكر الحرّ دون غيره؛و حدّ السّاعة لا يفارقني ما قاله لنا أحد أساتذتي:
    - لن أصبّ في جماجمكم حلولا لكلّ شيء،سأرشدكم إلى سبيل تهتدون به إلى حلول!
    و هذا ما وجدت البسطاء قد اتّفقوا عليه ،مع حفظ الفرق في التّعبير؛كيف لا وهم قاعدة هذا الوطن و معدنه الخام و حدسه الذي لا يكذب؟
    و أقول لكلّ الذين يعرضون خدماتهم بدافع وطنيّ،دعوا حركة الإصلاح تسير كما ينبغي لبديهة التّكافىء من إعمار و تنمية.ذاك علاج.و الكمّادة الباردة تخفّض من الحرارة و لا تشفي بالضّرورة من الحمّى.و هبّوا لثورة وعي و اختلاف و جمال و نظرة بعيدة و حبّ،تدافع عن النّاس و تضعهم أمام غاياهم.
    علّموا النّاس عوض التّهافت على وظيفة بعد الدّوام،ما الذي سيصيبهم لو أنّهم استمرّوا في بيع عاصفتهم ببعض التّسيّب و انتهاز الجمود الأمنيّ لتفريغ شحنة الشّهوة في الانفلات من قبضة الفولاذ التي أدمت معاصمهم و أفلست مشاريعهم و قصمت ظهورهم بإجراءات إداريّة ميتافيزيقيّة التّعقيد ،لعقود خلت.قولوا لهم أنّ مثلكم لو فعلتم كمثل الذي ذبح بقرة ليشوي كبدها،أو كالذي باع بيته من أجل ثمالة ساعة.
    صوّبوا لهم مفهوم الحريّة ،و أنّ بإمكانهم أن يغنموا أضعاف ما قد تدرّه عليهم نشوة حمولة إطارات و وقود مهرّب باتت تسير دون عوائق.! 
    ما نحتاجه حضارة يكون أفرادها أحرارا بالقانون.
    و لن تقنعنا نزوة حريّة عابرة.
    يوم خرج الملايين في غارة على استبداد النّظام الأطرش كان سلاحهم،أقفاصا صدريّة و أذرعا ملويّة و دماء خثّرها الغلّ و الموانع و الظّلم المفوتر ،و وصمة العار التي تلازم أبناء الدّاخل و التي تورّمت حتّى صارت قنبلة عربيّة.
    و حذار  فالشّرارة لا تتكرّر،فإذا كان قد سقط على الأرض تفّاح بعدد النّجوم،فإنّ تفّاحة واحدة وقعت أمام نيوتن و حوّلها إلى ثورة علميّة.و قياسا لن يولد البوعزيزي ثانية،فلنحدّد مصيرنا و لتكن الصّحافة سلاحنا ،سلاح يقظة بالمعنى النّقدي و التّربويّ و الأخلاقيّ ، لا ألبوم ذكريات و مجرّد رزنامة لعدّ الأيّام.
    و أشفق على وطني لأنّه كأمّ أيتام وضعت مدّخراتها بين يدي أحد من ذوي الجلود النّاعمة ،فبدّدها على نفسه و طمع في جسدها.
    الحال ثورة و الطّابور طويل..
    و أعجب أنّ الواحد منّا صار يفرح لخبزة تمكّن من انتزاعها كبرهان فحولة ،و انتزع معها ابتسامة من شفتي زوجته و هو يلوّح بها من بعيد..
    آثار الرّصاص و الحرق بالقصرين تشهد على غارة الفردوس المفقود.أجوب الشّوارع و أدوّن النّصوص المبعثرة على صفحة الحيطان .نصوص مثقلة بالمعنى بتلقائيّة صادمة ،كتبت على امتداد الأشهر الثّلاث الأولى بعد رحيل الثّقب الأسود عن مجالنا الفلكيّ.أدخل إلى المقاهي و أسأل:
    - تاهت منّي ثورة يا رفاق،فهل من رآها؟
    و تأتيني الإجابة فوريّة،مروّعة كاستسلام متفق عليه ،حين أنتبه و أرى شاه الأسواق لا يزال يحصد الرّحمة من فوق الرّؤوس،يسبقه لسانه السّليط،و صوت طرقعة نعليه يجرّهما على الإسفلت بركاكة،مرفوع الرّأس كأنّه لم يلعق البدلات ،و لا دثّر غربان الأسطح من قبل .يمشي فخورا كأنّه قائد الثّورة ،لا من اندلعت الثّورة من أجل محقه..
    أبحث ،فلا أجد شرحا مقنعا إلاّ أن تكونوا قد بعتموه ذممكم مقابل بعض الأمتار الإضافيّة وسط الشّارع خانقين السيّارات خنقا.
    أسأل و أكرّر الرّدود في البيت خاوي البطن عمدا.
    يقول الجدار:
    "الثّورة تضيع و شبابنا يهاجر للموت" 
    و آخر يقول "الشّباب قبل الأحزاب"
    و أسأل ماجد الحلاّق عن رأيه فيما يجري فيجيب:
    - لا تصدّق ما يروّجون فوق الطّاولات البلّوريّة..لقد تخلّى النّاس عن المذهب الصّحيح،و إلاّ لأدركوا أنّها سحابة غيث أرسلها الله إلى دوابّه لترتوي و تنفض عنها الغبار،ثمّ ترحل بأمره إلى مكان آخر،ليعودوا تحت الرّدم من جديد و هكذا دواليك..و إن كان لديك شأن فعجّل بقضائه مادامت الفرصة سانحة.
    أي يأس هذا؟
    و أسأل بهاء الدّين ،عامل التّطهير،الواقف وسط حفرة تصريف فضلات،فيجيب:
    - لا ثورة،و لا ما يذكّر بثورة..
    سأبوح لك بسرّ،إن كان عليّ ،فقد ضمّنت على حصّتي من البداية ..كأن تقول شملتني الثّورة..و اقتنيت حاسوبا نقّالا لولدي بثمن فأس.
    يبدو أنّ ثورة الحديد و النّار،قد علّمتنا أن نضرب الحديد و هو ساخن!
    تفّاحة آدم لن تشبعك يا وطني الكبير،فلا تصغ إلى هواك فتخسر خلود الكرامة في حبرك و بين مفاصل صخورك و داخل أنفاق مناجمك و مداخن مصانعك و شعب مرجانك..
    طوفانك مربح أكثر من السّياقة دون رخصة،أو أن تركن سيّارتك كما اتّفق،أو أن تمطر موظّف الشّبابيك بوابل من الشّتم لأنّه ابتسم لزميله،أو أن تغلق طريقا بالحجارة لأنّ صوت المارة يزعجك،أو أن تبني كشك سجائر في متنزّه،أو أن تثير رعب الأطفال في حديقة بدرّاجتك النّاريّة الثّقيلة.
      بن علي هرّب أموالا و فرّ فهل هرب بأخلاقنا أيضا ؟ الإجابة لا بالطّبع،التّفسير بسيط و لكنّي سأحاول تعقيده؛ ثمّة فرق كبير بين أن تكون شجاعا أصيلا و بين أن تزول من حولك أسباب الجُبن دفعة واحدة.

      شغلنا الحاضر و القادم ،هو الصّدق في الرّسالة و الوحدة من أجل الحضارة و السّلام و قمع الذّاتيّة و التّعالي و هذه هي الثّورة،أمّا في حال آثرنا الفتات فسيكون مثلنا كمثل قوم تفصل بينهم و بين ضفّة الخصب هوّة سحيقة.مدّوا جسرا بعدما راح ضحيّته الكثيرون،و لمّا استوى حدّث كلّ واحد منهم نفسه بالعبور و ملامسة الأرض الأخرى،فرحة و فضولا و نكهة،فوجدوا أنفسهم و قد صعدوا فوقه كافّة.ارتعبوا.و لكنّ أحد منهم لم يتراجع أو يتنازل،عندها حدّث كلّ واحد منهم نفسه بقطع المسافة مرّة واحدة و ليتحطّم بعدها الجسر.و نسوا أنّهم خلّفوا وراءهم نساءهم و أطفالهم و مواشيهم.
    لو رضينا بهذا،فسوف لن يكون هناك عدوّ نحاربه آنذاك غير أنفسنا،و سنضطر للخروج في هبّة أخرى يكون شعارنا فيها:
    الشّعب يريد إسقاط الشّعب.




    محمد فطّومي
    11 نيسان 2011

    الجمعة، 10 أوت 2012

    جلد الثّور



    نُشر هذا النص في مجلّة طيف الالكترونيّة قبل ثورة 17 ديسمبر بأربعة أشهر



     
     * يحدُث أن يُفني الواحد فينا عمره متحاملا على قتلة جدّه..

        لم يكن للسيّد صفوان شاربان قبل أن تلامس أقدامه المدرّج..و كانت له أسنان ناصعة يعتزّ بها،و لم يكن لما عداه من الرّجال سوى شعر مُرتجل لا يخضع لأيّ منطق ..ربّما لأنّهم لا يجدون الوقت الكافي لتصفيفه و العناية به و لا الرّصيد الكافي لتنسيقه،فمهمّتهم هي أن يصنعوا الظّروف الطيّبة و يغتربوا داخلها جياعا، مهمّشين،أقزم من أعقاب سجائرهم،يكاد الخجل يفتك بهم ،عفّة ،كلّما تسلّلت إلى وجوههم الدّافئة سحنة صقيع،أو بذخ مسكين ..و كان السيّد صفوان و عائلته الشّريفة يسكنون أحد الأحياء ،فأصبحوا يسكنون أرقى الأحياء.و التفت إلى الوراء و إذا ببقيّة الرّجال يقطنون أبدا داخل الضّريبة و الصّفيح،لا يلبث الواحد فيهم أن يؤدّ دينا حتّى يبرز له آخر،سعادتهم هلام،و مصائبهم حقيقة.و منذ ذلك اليوم لم يكرّر الالتفات إلى الوراء أبدا . ربّما لذلك السّبب نبت الشّعر في وجوههم و رؤوسهم عشوائيّا مبعثرا،عكس ما أرادوا.و لكن عند أوّل شدّة عنيفة منه سينتبهون حتما إلى أنّهم كانوا إنّما يُطعمون عدوّا و أنّه الغبن يطفو على صفحة صاحبه ،و سيزيلون أثره في الحال و سينتقمون..هذا أكيد..
        إنّهم لا أكثر من أخيلة لرجال أبت مدنهم إلاّ أن تبني بهم قناطرها و سدودها و رموزها و أنصابها و ملاهيها و من ثمّ تحيلهم على المجاز و ترسلهم إلى خنادقهم من جديد..إنّك لتشرب ماء السّدود فترتوي و لكن ما إن تمرّر يدك على أحدهم مصافحا حتّى تخترقه يداك،كهيكل ضوئيّ ملوّن مثّلّث الأبعاد.تلك المدن التّي رصّفوا بقلوب نقيّة بيضاء حجارتها فيما مضى،هي بعينها باتت اليوم دهاءً تتعقّب الغزال خطو حلزون ،منذ علّمها السيّد صفوان و بقيّة  الغيلان أن تفرّق بين الفرز من عدّة ،و تكرار ذات الاسم على ورقات مطويّة عدّة لتأتي البنيّة البريئة وسط جمع من الدّمى العملاقة و تستلّ من بينها الفائزين طيلة القرن تباعا،ثمّ  مباشرة يمرّرون لهم على صفحاتها الغبيّة ومضة لمسحوقه السّحريّ و هو يعالج ما استعصى من دراهم في جيوبهم الهزليّة ..ها هنا منزلكم فلا تبرحوه؛أنتم في خدمتي ، و خدمة مصالحي و ذرّيّتي ما حييت،فيبتسم الواحد منهم لمدينته حنوّا و صفحا و عتبا،تماما كما كان سيفعل لو أنّ أحد أبنائه عضّ قلبه..هؤلاء لا أمثلة لديّ عليهم،و لا تقل لم أبحث..بلى بحثت طويلا و لكنّي لم أعثر ،و أنا أتصفّح أيّامنا التي أينما قذفت بخيالك في حقلها أصبت واقعا،على من تجاوزت قصّته مكتوبة السّطر الواحد:إنّ المدن ما راودك و أنت تُطرد منها، فليلبسني بلدي إذن مظلّة من سعف ،و ليحتمي بي من الحرّ و القرّ، مادمت غير قادر على توفير ثمنها لعلّي أتوسّمها و أتباهى بها أيّام الزّينة أمام بقيّة الأقطار..حقّا لا أجد ما أصنعه من أجلهم أكثر من ترديد أنشودتهم تلك؛أنا البائس الذي لا يملك النّفع لنفسه،يحيى و يموت متمنّيا أن تدخل الأمطار يوما في عاداته..
       و لكن ،في المقابل ،بوسعي الحديث طويلا عن السيّد صفوان و عصابته،و عمّن تصنعهم الظّروف و تؤاتيهم الهزيمة و النّكسة عموما،كرابطة عنق أو حذاء مستورد،و عن أناقتهم و البهجة التي يُغدقون بها على أبعد الأقارب ساعة اغتصبوا منّا رقعة جلد الثّور و فرشوا بها صالة قصر النّزهة و كيف تُزفّ إليهم خيبة الشّعب كخبر سعيد أو ليته وباء يغربل النّاس فلا يرشح سوى المنعّمون فوق أرائك من الجلد الطّبيعيّ الخالص لآدميّين يعبّدون الجبال دون مقابل،و لا يزالون حتّى ساعة ذبحهم يتقنون إنجاب العمّال و الابتسام دون أفيون..ألم أقل لك إنّي عاجز عن العثور على أحدهم..و كيف لي أن أفعل و جلودهم تحملها السيّدة آمال زوجة السيّد المحترم صفوان عبد البرّ حقيبة تسع للعديد من الأغراض و المراهم و الأكياس الأخرى دون أن تتقطّع..الأكياس؟فيم السّؤال؟ حسن ..بداخلها مستحضر لن تُبالغ الصّحافة كثيرا في عتابها على حمله في حال ضبطت معها،سيقولون :– و ما أشدّ ما يُدهشني ترويضهم للمصطلحات – مجرّد أعشاب طبيعيّة مسلّية،و ستُلقّب التُّهمة آنذاك بتعاطي بضاعة غير خالصة معلوم الجمارك !،و يمشي فوق جلودهم السيّد صفوان أيضا حصيرا أصليّا تلقّاه من صديق له جمعته به هواية الصّيد ؛مع كلّ طلقة ،فرصة عمر..من قال أنّ الفرصة تطرق باب صاحبها مرّة واحدة في العمر..سينتعش كثيرا و هو يمشي فوقها و سيتبجّح باقتناصها متباهيا بما تٌقدّمه له من وجاهة مُستعارة، هو الذي مكث طويلا في بيته ينتظر حتّى يخرس أزيز الرّصاص،و تسنح الفرصة ليُطلّ برأسه ،فتراه غدرا يحتسيها جاهزة مبرّدة،و تراها تواطؤا تتدفّق و تعلو وجهه كنبيذ نام في القبو حتّى تبدّلت العملة؛وقتها فقط يُطلق شاربين.و يرتقي درجات المنصّة و يُقرّر:
    - تحلّقوا حولي أدثّركم و نزدهر،أحتاجكم،أحتاج أصواتكم..سأنفخ الحياة في أحيائكم الرثّة.
    و ترجمتها كونوا لي أنتم و متاعكم،و لوّثوا ما استطعتم،فليس في السّوق ما هو أقدر على إحداث الرّغوة كصابون زوجتي و مساحيقها العجيبة.. أفسدوا ،و خرّبوا..ردّوا غيظكم في كراسي الحدائق و الملاعب و مصابيح الشّوارع،و إسفلتها و إشاراتها المروريّة..اكتبوا على الجدران ما شئتم.. سنصلحها..لا عليكم،مصانعي و مقاولات صهري في خدمة الأهالي..
     جاءه ذكر بعد ثلاث بنات و طول انتظار ،و ليس الذّكر كالأنثى..حدث عظيم يستحقّ أن يطلق لشاربيه العنان أكثر من أجله.ثمّ بعد ذلك صار حاكما،فاستطال الشّاربان أكثر دون أمر من سيّدها،و لم يمانع و عدّ ذلك مؤشّرا ينبؤ بخير كثير..ثمّ تدفّق الخير،سيلا لا رادّ له،ربّما السّعد الذي جلبه الولد ،أو ربّما الحَجّة السياحيّة التي أدّاها و التي لم ينله من فوائدها المحسوسة حال انتهائه من شعائرها سوى شبر إضافيّ لشاربيه، و وُهب ألف قصر و ألف سيّارة و ألف سائق باستطاعة رقبة الواحد فيهم أن تدور إلى الخلف دورة كاملة لو أراد ،و ككلّ أصدقائه صار له أيضا أسطول طائرات لتهريب العرق،و عشرين مليون زيتونة فضلا عن بحر و قبّعة قماشيّة حسب التّقاليد ،تماما كالتي كان يحملها المستكشفون الأنجليز عقود نهب الآثار بحجّة دراستها ،و صار لديه يخت أبيض سمّاه "حرّيّة"..و كان كلّما تطاول في المدرّج كلّما ازداد شارباه طولا.
        و كبرت البنات بسرعة و صرن صبايا، التحقت كبراهنّ بجامعة خاصّة في كندا،فأجاب شارباه نيابة عنه فخرا ،و امتدّت إلى الأسفل ذراعا آخر..و حصل دون نيّة مسبقة على نابي فيل آسوي و نمر حقيقيّ محنّط،و إبريقا صينيّا من عهد العائلة الحادية عشرة،و شارك بقّالا في دكّانه خوفا على مصلحته، خصوصا و أنّ  جبهته بدأت تبشّر بقرون.و غنم أيضا محض فوز بريء من إحدى طاولات القمار على سيف هارون الرّشيد ،و ارتقى السلّم أكثر و كان كلّما صعد أكثر كلّما ازداد شارباه طولا..لم يعارض نموّها بل باركه بالعناية و لم يكن ليبخل عليها بأغلى أصناف العقارات و الزّيوت المستوردة،و صنع لها جيوبا خاصّة داخل معاطفه ،و بنطلوناته أثناء الصّيف..إنّها هي بعينها لو جاز لي مدحها الجيوب الحسّاسة التي استقالت عن مهمّة حفظ النّقود لمّا ناءت بحملها،و تنازلت عليها نبلا لبنوك سويسرا..و هناك من رجاله من تطوّع لينفخ التّنين المطّاطيّ الأبله لولده الصّغير طيلة الصّيف ،تماما كما تطوّع هو أن ينفخ الحياة في أحقر الأزقّة.لكنّ نافخ التنّين صدق،و نفخ بإخلاص حتّى كادت أوداجه تتمزّق،حتّى أنّ شاربي السيّد صفوان أشفقا عليه و كافآه بشبر طول زيادة،فيما كذب السيّد صفوان و اكتفى فقط بتسمية كلّ بيت في المدينة بلوحة نحاسيّة تكفّل بجلبها بنفسه،كي لا تُخطأ رسائل الأحبّة  طريقها إلى الأهالي،و ترجمتها: الفواتير..و طاف على الّلوحات طائف ليلا و النّاس نيام ليسرقها جميعها ،ممّا اضطرّ السيّد صفوان إلى إعادة الصّفقة من جديد و لكنّه استبدل النّحاس بالرّخام هذه المرّة.
    و استمرّ هو  و شارباه في تسلّق السلّم،و كان كلّما ارتقى درجة،ازدادت طولا و هيبة و رجولة.إنّ الرّجولة تقاس بعدد الدّرجات على سلّم الشّوارب.
     و يوم صارت للسيّد صفوان عشيقة ككلّ الأصدقاء،فرح كثيرا و رقص أمامها،و عاد النّوم يطرق جفنيه من جديد دون منوّم ،و أخذه الحماس أبعد فأقدم بعدما عصف به التردّد سنين عديدة على إنقاذ لوحة فسيفساء بيزنطيّة عملاقة من متحف إحدى البلدات التّابعة لعطفه ،و أكرمها بالإقامة في قصر النّوم و كفلها و عدّها واحدة من أبنائه ..حينها خرج شارباه عن السيطرة و امتدّا حتّى لامسا القاع..و بخيط وهن يقف بين الزّور و البراءة ظلّ صفوان و تابعوه و الأذيال يستدرجون الذّهب و ما إليه من غنائم،و يُفحمون المُستنكرين ،فلست تمسك عليهم برهانا و ليس يبغي شقّ على الخيط.تماما كشمس صيف ثاقبة لا ترضى أن تسطع على زجاج الحافلة ،و الحيلة معدومة ،إلاّ عبر الشّريط الضيّق الذي يفصل السّتائر و تنتهي عنده صلاحيّة كليهما على السّتر أكثر..
          استمرّ السيّد صفوان في نفخ القهر..و خرج غسيله اليوميّ  لأسنانه من عاداته كلّيّا..
       و فيما كان يتلذّذ النّوم دون مهدّئات كما تمنّى دائما أن يفعل،عادت ابنته الصّغرى عقب اللّيل بصحبة صديق لها بعد سهرة أنفقت فيها ضعفي دخل مدرّسها الشّهريّ..فتحت البوّابة الضّخمة للفيلاّ بجهاز تحكّم يتدلّى مع مفاتيحها..نزلا من السيّارة و ترجّلا..سمع الكلاب فارتعب..ضحكت و قالت:لا تخف أيّها الجبان إنّها مربوطة..قال منزعجا:إنّ سيّارة والدك هنا..هو في البيت إذن؟عندها ابتسمت بثقة و أطلقت شعرها بغنج و ارتياح و أمسكت بيده تجرّه و بمرح قالت :اطمئنّ و لا بأس عليك..إنّ أمّي لا تنس أن تقيّد بابا من شاربيه على سيقان تختهما أيّام السّبت و الإربعاء...


    محمد فطّومي
    20-8-2010
                                                                                                                          

    الخميس، 9 أوت 2012

    الدموع




    قصّة لـ" ألفونس آلّي"
    تعريب : محمّد فطّومي



    يحجب نفسه خلف اسم مستعار:"بالتزار".كان شابّا في مقتبل العمر،و شخصيّة ذات شهرة واسعة في الأوساط الجامعيّة الفرنسيّة آنذاك..بدافع ودّ و صداقة و عرفان، خصّني بعمل أنيق و ثريّ جدّا،كان قد انتهى من تأليفه،و هو عبارة عن مادّة أدبيّة موضوعها الدّموع.
     نَشْرُ الأثر برمّته سيشوّه بداخلي ميلي الفطريّ للهزل و حتما سيخرج بي عن عالم الدّعابة الخفيف الذي أحبّه.لذا سأكتفي بتلخيصه محاولا قدر الإمكان الحفاظ على نكهته النّادرة و فرادة الإبداع الذي يحفّه.
     كان السيّد بلتزار – لنحافظ له على هذا الاسم مادامت تلك رغبته - ،أستاذ فلسفة عملته الأثيرة :" لا تحصل الفائدة إلاّ بطرح الأسئلة ".و كان يطرح آلافا منها، لكن أبدا لم يكن يهتمّ بالبحث لها عن إجابة.كأنّ بثّ الحيرة في ترتيباته غاية في حدّ ذاته.
     قال لطلبته يوما في آخر المحاضرة:
    - هل فيكم من تساءل يوما و هو يبتلع دموعه :لم طعمها مالح؟
    و انتهى الوقت،و انصرف الأستاذ،و كان ذلك آخر عهد له بتلاميذه.
    و انطلق بلتزار الشابّ فورا يبحث عن تفسير مقنع للمعضلة،و اتّخذ منها قضيّة تحدّ و تسلية في آن،و أقسم أن يفكّ الّلغز مهما كلّف ذلك.تفرّغ بلتزار تماما و انكبّ يعمل.فتّش مكتبات بأسرها،قلبها رأسا على عقب،اطّلع على جميع مراجع "وونت" لفزيولوجيا النّفس،و دروس "بويزو" لميكانيكا جريان السّوائل،و قصائد "لؤلؤ و دمع" للشّاعر النّرويجيّ العبقريّ "بيجورسن" ،و انتبه في النّهاية أنّ رهانه خام و أنّ أحدا لم يتناوله بالدّرس من قبل لا من قريب و لا من بعيد.
    عقول سطحيّة مائعة أجابت بأسلوب رخو كسول:
    - و لكن ،عجبا،الدّموع مالحة لأنّها تحتوي بنسبة عالية على الأملاح القلويّة.."
    - نعلم ذلك أفضل منكم أيّتها الرّؤوس السّخيفة.القضيّة لا تكمن في كيمياء الدّموع و مقادير المكوّنات.السّؤال الحقيقيّ أعمق من بذلك بكثير: لم منح نظام الطّبيعة المعقّد،المتقن المتفهّم لاحتياجات أعضائه و عناصره ،الدّموع مذاقا مالحا دون المذاقات الأخرى؟هذا ما يجدر بنا السّعي للعثور عليه.
    اتّبع بلتزار منهجيّة إقصاء ما لا يتماسك به اليقين،بعدما اتّضح له هدفه بدقّة ،و حدّث نفسه:
    لنبرهن أوّلا على حتميّة أن يكون للدّموع مذاقا ما،ثمّ بالتّالي نبيّن أنّ كلّ مذاق خلاف المالح لن يقدّم سوى مساوىء تتخطّفها الرّداءة من يد الفظاعة.
    بالتّأكيد للدّموع طعم ما و إلاّ هل تتخيّل مثلا أمّا تذرف فوق جثّة ولدها دموعا سمجة كالماء لا حرقة فيها؟
    لا ،و ألف لا..ما رأيكم ؟هل يصحّ ذلك؟طبعا لا.
    إذن للدّموع طعم ،و هو بالضّرورة مالح،و هل بيدها أن تكون حامضة؟هل فكّرتم عندئذ مالّذي كان سيحلّ ببعض شخصيّات المجتمع الراقي من غيظ لو أنّ عشيقاتهم المشاغبات رششن على وجوههنّ ،تغنّجا، حامضا أزوتيّا أو حتّى حارقا ؟ بنيّة استمالة جيوبهم؟ثمّ إنّهن تعلمن جيّدا خطورة ذلك على غشائهنّ البصريّ الحسّاس.الخيانة الزّوجيّة ظاهرة طبيعيّة ثابتة،و من غير المعقول أن تقف الطّبيعة عقبة أمام سنّة شائعة.
    لن تكون الدّموع مرّة بأيّ شكل من الأشكال.فلقد استمدّ تراثنا الأدبيّ العظيم من الدّموع المرّة مادّة استعارة واسعة.لا سيّما أنّ المرارة التي ما انفكّ عباقرتنا يزخرفون بها كتاباتهم مجازا بحتا.لن يكون هناك مجاز أو ما يذكّر ببلاغة لو أنّ الدّموع مرّة بالفعل،و سوف لن يتعدّى الأمر آنذاك مجرّد وصف بدائيّ للأشياء.و سيحرم رواتنا من كلّ مجد أو شهرة و سيخسرون صفة الفنّ و فرص إمتاعنا.و من يدري لعلّ صديقنا "أونيي" العظيم لا يدين بأروع صفحاته الأكثر تأثيرا على النّفوس إلاّ لاكتشافه المبكّر بأنّ مضغ المسائل و تكرارها الخاوي هو أكثر آفات البشريّة فتكا بالأدب على الإطلاق..فهل كان نظام الطّبيعة متقن الصّنع ليقف عثرة أمام الّلغة الفرنسيّة؟
    غير مقبول أيضا أن يكون للدّموع مذاق حلو.و إلاّ لما توقّف الأطفال عن البكاء ساعة.و سنكتفي بضرب الصّغير "إميل" عوضا عن مدّه بقطعة نقديّة لاقتناء الحلوى.بل سيكون ذلك ادّخارا مثاليّا على حسابهم..هل تصدّقون أنّ من الحكمة أن تسلب الطّبيعة من الآباء قدرتهم على التّربية؟
      و واصل السيّد بلتزار عمله على هذا النّحو المنطقيّ الصّارم.و شرح خطوة بعد أخرى بثقة و سلاسة عجيبة كيف أنّ مذاق الدّموع لا يحتمل أن يكون شبيها بطعم الجبن و لا الزّيت و لا الفلفل  و لا التّبغ ...
       و كانت خلاصته بجدّ واحدة من أجمل ما حبّره كاتب فرنسيّ طيلة العشرين عاما المنقضية.        

      
    ****
     Les larmes
    من مجموعة
    Deux et deux font cinq
    ألفونس آلّي كاتب و صحفيّ نرمانديّ ساخر (1854-1905)
    يعتبر آلّي من أكبر الأدباء المهتميّن بنظريّات التّجريد بين معاصريه.
    أطلق آلّي آخر نكتة له حين أسرّ لصديق حميم أنّه سيموت غدا و كان يعاني فعلا من اضطرابات في رئتيه،قال:" غدا أموت،ستجدون ذلك مضحكا،لكنّي لن أضحك..غدا أموت ".
    و مات في اليوم الموالي.

    الثلاثاء، 7 أوت 2012

    حضرة العاقل،حضرة العاقلة



    باستطاعتك أن تحجب القمر ببنانك من موقعك لو أردت

    فهلاّ زحزحته عن موقعه قليلا أيّها العزيز الفصيح ..؟


        
                   
    ****

    الاثنين، 6 أوت 2012

    أنياب صديقة





          *  إذا تقاطع ضوءان على طريق واحد،اختفى عن الأبصار ما بينهما..



      حين فرغ عمد قرى منطقة "أمّ اللّحاف" من صلاة العصر مجتمعين،توجّهوا مباشرة إلى مكتب نائب المنطقة اثنين،اثنين و قد صرّوا برانيسهم و معاطفهم الطّويلة،كي لا تعطّلهم و هم يدخلون من بابه الضيّق.كان بانتظارهم و قد رسم ابتسامة مزيّفة ،أصبح في الآونة الأخيرة يشكّ بأنّها لا تزال تختلهم ،دلّت عليها قسمات وجهه غير المنسجمة، ففيما كانت شفتاه منفرجتان و أسنانه مصرورة كأنّه يمسك بها مسمارا دقيقا،كانت عيناه تلقي بريقا وقحا.أراهن أن لو أجبر على الحفاظ على قسماته مشدودة كذلك ساعة زمن لأجهش باكيا بعد تمامها..وقف النّائب إجلالا لهم باسطا يده،ليسلّم عليهم دون أن يحدّد لها مسارا و تقافزت وسط التّحيّة أصوات مرحة،و بعض عبارات العتاب المشحونة بالودّ،التي إنّما أراد أصحابها أن يتبارزوا بها أمام بعضهم متباهين بمقدار الحميميّة التي تربط كلّ واحد منهم بالنّائب.في الحقيقة ،المسألة  فطريّة و غير مقصودة، تماما كتلك الرّكلة التي تقوم بها الفرس – حتّى غير المدرّبة - مع أوّل ضربة على الطّبل..و ما من أحد يفسّر سلوكهم ذاك على هذا النّحو سوى من لفرط تكرار المشهد صار ظاهرهم و باطنهم مألوفا شفّافا لديه لا يغشّه أبدا.
    الرّيح القويّة في الخارج مقوّسة مضطربة و محمّلة بأتربة الطّبقة العلويّة لأراضي الزّياتين التي تحدّ المدينة و رمل الوادي المحاذي لها.ممّا جعل الذين يلبسون معاطف طويلة و خشنة ،بعد أن اصطبغت باللّون البنّي ،يبدون تحت ضوء مصباحي مكتب النّائب الأبيضين كأنّهم جنود سفيات أيّام الحرب الثّانية.
      كانوا عشرة أنفار،و الكراسي المحيطة بطاولة الاجتماعات كانت على أعدادهم بالضّبط .دعاهم النّائب للجلوس ،ففعلوا مستعينين ببعض كلمات الاستغفار و التّوحيد،غير المتشابهة في معظمها،لكنّهم اتّفقوا جميعهم على أن يرسلوا معها زفرة ارتباك، بدت كأنّها:" هيّا تكلّم و أرحنا ؟ أيّ مصيبة جعلتك تبعث وراءنا بهذه السّرعة و على غير العادة؟"
      وضع النّائب مرفقيه على المكتب و شبك أصابعه وشرد قليلا و هو ينظر إلى حافظة أوراق مغلقة أمامه،و ران صمت مزعج على القاعة كان كفيلا بأن يمحو ما بقي من ابتسامات منسيّة على وجوه البعض،و تناهت إلى المسامع من بعيد أغنية رديئة كالنّحيب من تلك المسلوقة جيّدا في استوديوهات التّسجيل،حتّى لكأنّ ديكا أو قطّا يغنّيها.
    تمنّى النّائب في سرّه لو أنّها تتوقّف،حتّى لا تشوّه هيبة المجلس،و اشتغلت بديهته و أذناه المدرّبتان في جزء من الثّانية  فأدرك أنّها من ذاك النّوع الذي لا ينتهي أبدا،عندها رفع رأسه و قال و قد غلب التّأثّر على صوته.تأثّر يشبه إلى حدّ بعيد لحن الوعظ و الأسف المزوّر،الذي يُلبسه غالبا المنتفعون من ضرر لهم من ورائه غنم كبير لعلّهم يضيّعون عفونة نواياهم :
     - تعلمون يا سادة أنّي أعوّل عليكم كثيرا في تسيير شؤون المنطقة و أمن العشائر،و تعلمون أيضا أنّي لا أرضى لكم بأقلّ من الكرامة و الوقت الطيّب..و يشهد الله أنّي في غيابكم لا أدع مناسبة إلاّ و أشدت بكفاءتكم ..و..
       أومأ الكثير منهم برؤوسهم إيجابا،و توزّعت تمتمات عرفان ،و سعال خفيف هنا و هناك، ثمّ أضاف :..و يعلم الله وحده مدى معزّتكم و علوّ شأنكم عندي..و لكن..
    (تحرّكت بعض الأحذية على الأرض،تعلن نيابة عن أصحابها نفاد صبرهم).
       تناول النّائب من جهاز الفكس على يمينه ورقة كان بعث بها لنفسه ذات الصّباح. الورقة في مكانها كأنّها مبعوثة للتوّ..طبعا ،شعور الخوف من المجهول و الحيرة و ثقل الموقف كلّها عوامل صرفت العمد عن مجرّد الانتباه إلى حمق أن يكون النّائب قد قرأ المراسلة داخل الجهاز،أو أن يكون قد أعادها إليه بعد قراءتها.
     ثمّ واصل:..و لكن وصلني هذا القرار بالأمس..الأوامر هي الأوامر كما تعلمون. و أردف  بنبرة تحامل :إنّهم يطلبون منّي أن أتخلّى عن خمسة منكم، لأسباب واهية لست أصدّقها..يقولون بأنّهم ينوون ضمّ القرى و العشائر ضمن حيّز واحد..و..و لكنّي لن أسكت،أعدكم أنّي لن أسكت أبدا..لن أطاوعهم ..إن هم سوّلت لهم أنفسهم أن يستغنوا عن خمسة منكم،فأنا لا غنى لي عنكم..و لن أرضى بأقلّ من عشرة،و ليس هذا فقط،بل و أنتم بالذّات..
    هنا في هذه اللّحظة سمح بعض العمد لأنفسهم وسط حماس النّائب بالقليل من الفوضى،يحثّونه على التّشبّث بما وعد.فأشار بيده يعيد الهدوء للمجلس ،ثم قال بحزم أكبر:
    - سأصنع المستحيل من أجل إبقائكم لا تخافوا..غدا سأذهب لألتقي المسؤولين بنفسي(مشيرا ببنانه إلى الأعلى)..و لن أعود إن شاء الله إلاّ بأخبار تسرّكم...إلاّ إذا..
    عادت الفوضى و الصّخب من جديد،ففضّل النّائب أن ينهي الاجتماع و يودّعهم..و اعتبره ناجحا.
    أقلّ ما يمكن أن نصف به المعادلة التي بفضلها استطاع العمد أن يسوقوا هداياهم ليلتها إلى بيت النّائب من غنم و دنان زيت و عسل،فرادى و دون أن يصادف أحدهم الآخر،هو أنّها معقّدة ، مع ذلك قد يريحنا تشبيهها  بالحيل التي يطوّرها البسطاء بوسائل بدائيّة و لا يفسّرها إلاّ العلماء.
        التأم مجلسهم  مرّة أخرى بعد أيّام ثلاث تغيّب خلالها النّائب عن المنطقة. طمأنهم بأنّه قاتل من أجلهم و هدّد المسؤولين باستقالته إن هم نفّذوا قرارهم و حدّثهم بشراسة بأن لا معنى لوجوده دون نصف العمد،و بشّرهم بأنّه نجح بضراوة في افتكاك أماكنهم و الحفاظ عليهم جميعا.و علم الشّيخ محمود بعد أسابيع أنّ النّائب كان في ضيافة أحد أصدقائه القدامى طوال الأيّام التي تغيّبها و استغلّها في صيد طير " الحبارة " ، و بأنّ ساقه لم تطأ المحافظة،و حدّث بذلك بقيّة الشّيوخ كلّما التقى أحدهم،و طلب منه الشّيخ العيّاشي لمّا التقاه في السّوق الأسبوعي ردّا على النّحس الذي بدأ يكتسح ضيعته غير عابىء بما جاء يُخبره به ،أن يستبدل معه التيس بالتّيس؛يقول إنّه يودّ تغيير عتبة الحظّ..و كان للشّيخ محمود تيس جامح شرود،لا يستكين من قفز أو جري،فأجابه فورا:ماذا تقول يا عيّاشي؟و صفّق يدا بيد متعجّبا و قال: تيس كتيس يا عيّاشي ،تيس كتيس و المطاردة ذخر..و أصبحت كلماته تلك مثلا متداولا بين النّاس..و علم النّائب بالقصّة و أحاط بالموضوع ما يستحقّه من اهتمام و تركيز..أن يصنع البدو – قاع الهرم - مثلا يتداولونه بينهم، فهذا يعادل قيام حزب معارض في قمّة الهرم..و النّائب لا يغفل على خطر من هذا القبيل..بل ما نفعه إذن لو غفل؟
       صفّق العمد في مكتب النّائب و هلّلوا فرحا و تداولوا على تقبيله و شكره،و ساد جوّ من الضّحك و العناق.قطعه رنين هاتف النّائب.صمتوا.تناول النّائب السمّاعة و هو يضع سبّابته فوق شفتيه و أتمّ المكالمة واقفا:- كيف حالك سيّدي..نعم سيّدي..خيرا إن شاء الله..حاضر سيّدي تأمرون..احترامي..
       ثم أعاد السمّاعة إلى مكانها بعصبيّة،ممتعضا و تهالك على كرسيّه و رفع وجها شاحبا ..و حدّق في الشّيخ ابراهيم حتّى ظنّ أنّ المكالمة كانت بشأنه.و قال الشّيخ في نفسه :معقول أن تكون حوريّة قد اشتكت؟ و آثر أن يسكت و يطأطىء رأسه..
      و تكلّم الشّيخ الطّالب ،يحفّزه المال الذي جمعه بنفسه تبرّعا لأحد المهدّدين بالسّجن من أبناء قريته إن لم يسدّد نفقة طليقته في غضون عشرة أيّام،و قرّر في سرّه أن يحتفظ بها لنفسه،ففرح لما توصّل إليه و قال : خيرا سيّدي النّائب ، لا بأس؟
     ردّ النّائب بعد صمت قصير ،بصوت خافت ،دون أن يحوّل عينيه على الشّيخ ابراهيم ،و قد ارتسمت على وجهه سحنة الواقع في كمين كان ساهم في نصبه:
       - حضرة الوالي يقول بأنّ كلّ نوّاب المنطقة الجنوبيّة مدعوّون غدا في مكتبه لأمر طارىء..   


    الأحد، 5 أوت 2012

    على حافّة الحياة






    قصّة لـ"كلود شنيرب"
    تعريب :محمّد فطومي



    يومها مات "جوناس إيفيان" للمرّة الأولى..باغته الأمر..كان يتجوّل بين أروقة سوق الزّهور،إلاّ أنّ واحدة من بائعات الزّهور المرحات لم تناده أو حتّى تحاول لفت انتباهه.و ليس هناك ما يوحي بأنّهنّ يتعمّدن ذلك.أصلا لا يوائمهنّ التكلّف.
     لا تبدو على "جوناس" ملامح مميّزة أو مثيرة للفضول.شاربان قصيران،و بشرة يميل لونها إلى الزّيتون الأخضر،و إن جاز القول بتحفّظ شديد و من بعيد بأنّ بدلته الرّماديّة غير المنتعشة قد تزوغ به عن كونه رجلا لا تلحظه الأبصار.
     ربّما كان غائبا ما يكفي ليبدو كأنّه انسحب من بنيته الجسديّة..أمّا بائعات الزّهور فقد أحسسن بذلك منذ الوهلة الأولى بفضل ذائقة الشمّ المرهفة التي خلّفتها لديهنّ حرفتهنّ.أو ربّما المراس و طول عشرتهنّ لزهور مقطوفة تجهل أنّها ميّتة هي التي كوّنت لديهنّ حدسا بإمكانه أن يلتقط شعاع الحياة الذي يفصلهنّ عنه.
     جلس على صخرة حارّة و تراءى له أنّه يمتطيها و أنّها تقلّه إلى أعلى ؛إلى فوق ؛إلى ما بعد السّماء. بلغ بخواطره إلى حافّة خياليّة لم يعد بوسعه معها أن يحدّد وظيفة هذا العالم الوضيع.
     يعلم "جوناس" جيّدا أنّه يجلس على رصيف سوق الزّهور،فقط ثمّة شعور غامض سيطر عليه ذاك المساء؛ باقة زهور واحدة كانت كفيلة بأن تجعله يغوص وسط خيط من العطور و غمرته نشوة عارمة.
     لم يكن كالعائد إلى الحياة كما يشاع،بقدر ما كانت حياته أصلا رتيبة،جامدة،لا حراك فيها.
      مرّ من أمامه طفل صغير. وحين وصل إلى مستواه توقّف و سأله عن الفرق بين المغنولية(1) و بين الكلب الأزرق النيليّ. لمّا لم يحظ بإجابة واصل طريقه..(ماذا يحدث..؟ لا شكّ أنّها واحدة من تلك الأحاجي البلهاء التي تحمل في مضمونها رسائل و مؤشّرات مخيفة).لم يكن دماغه يعمل بصورة طبيعيّة ،لذلك فإنّ السؤال الذي قذف به الطّفل إليه اتّخذ شكل رنّة جاوزت قدرته على التحمّل و الاستيعاب.
    ثمّ اختفى سوق الزّهور تاركا خلفه روائح من كلّ الأصناف.إنّنا لنحرص على وضع الزّهور فوق القبور دائما،كدأب ورثناه عن آبائنا و لكن لا أحد بوسعه أن يشرح لم ننثر حول الميّت بتلات كأفكار أو كأشياء مؤسفة.إنّ التّفسير الوحيد لظاهرة اختفاء سوق الزّهور في تلك الّلحظة هي أنّ جوناس أغمض عينيه.
      راح يمشي من ساعتها وسط بقعة قاحلة مجهولة دون أن يفهم ما الذي عزله فجأة عن شعبه و أهله الذين اعتاد دفء القرب منهم..هناك لم تكن ترى لا شجرا و لا حجرا و لا نباتا.
    منطقة تضيء بنور ليس له نقطة يبدأ منها أو كأنّه ممنوع من المصدر،ككلّ تلك الّلوحات الهولنديّة التي لا نعرف أيّ رسّام يقف وراءها..
    تمدّد على الأرض و نام أيّاما و ليالي لا يمكن عدّها ؛ هذا على فرض أنّ تقويمنا الأرضي جدير بثقتنا،  أيقظه ملاك بخفقة من جناحه.أصاخ السّمع  فتسلّلت إليه لغته الموسيقيّة الخرساء الحزينة، أصابته بكدر و امتعاض،و عصفت به رغبة ملحّة ليسأله عن الفرق بين المغنولية و بين الكلب الأزرق النّيليّ،ثمّ سرعان ما تنبّه إلى أنّ الإجابة في مكان كذاك لن تكون سوى
    " لا فرق".. تراجع الملاك.شاهده "جوناس" وهو يبتعد على امتداد المكان الاّمتناهي،و نادى ذكريات سوق الزّهور.تعلّق خياله بأروقته و مدرّجات العرض الحديديّة و البائعات و برك ماء البحر التي ألقى بها سمّاكو الميناىء.
     تفطّن "جوناس" إلى أنّه بصدد التّنازل عن واحدة من الحدائق الآسرة و الملائمة جدّا لعطور الزّهور أو على الأقلّ للنّور الذي تعكسه برك الصيّادين.
    ثمّ فتح عينيه من جديد،فألفى الصبّي ّالذي واصل طريقه،لا يزال على بعد أمتار قليلة..
    ..المناسبة القادمة التي سيموت فيها "جوناس" ، حتما ستكون الأخيرة.

                                                     ****
    (1)المغنولية :
    شجرة ذات أوراق دائمة الخضرة و زهرات كبيرة، جميلة، فوّاحة العبير، بيضاء أو صفراء أو قرنفلية أو أرجوانية تتفتّح في أوائل الربيع.


    مجموعة :
    Aux bords de la vie
    الإصدار سنة 1999

    كلود شنيرب : كاتب فرنسيّ (1914-2007)،أحد مؤسّسي مجلّة " الفصل الجديد" ،نشر العديد من المقالات النّقديّة الأدبيّة في الصّحف الفرنسيّة و غيرها،و تطرّق في دراسات عديدة له للسّينما و المسرح.
    شنيرب أديب جامع كتب المقالة و الرّواية و القصّة و المسرحيّة و الشّعر.
    شارك في الحرب العالميّة الثّانية .سجن و هرب مرّات عديدة و أُعيد.قلّدوه وسام الحرب و النّجمة البرنزيّة و ميداليّة الفارّين من السّجون.



    الجمعة، 3 أوت 2012

    بيتُنا المُستعار



       

    آخِرَ مرّة دخلتُ فيها قاعة المسرح كان عمري ستّة أعوام،إن لم تخنّي الذّاكرة، فأمّي لم تكن مهتمّة بمسألة المقعد الأماميّ إلاّ في عامي الأوّل بالمدرسة.بعدها صرت أسمع في البيت حديثا مشحونا بعصبيّة هادئة عن الجيش أو ما شابه..و سنة بعد أخرى صرت أتخيّر بنفسي ما شئت من المقاعد الخلفيّة في الفصل،و أبالغ أحيانا..و الألعاب السّحريّة التي حضرتها في ذلك الوقت في هذا المكان بالذّات لا تزال راسخة في مخيّلتي بالتّفصيل كما لو أنّي شاهدتها منذ قليل.هذا يعني أنّي كنت بالفعل جالسا في المقعد الأماميّ.إذن لم أكن مخطئا.كان عمري ستّة أعوام..و حديث والديّ عن الجيش ترتّب في ذهني بعد سنين على نحو خاطف  و متسامح أيضا،لمّا انتقلت إلى المرحلة الثّانويّة  و أصبح طابور السيّارات الخضراء الفخمة الرّابض في الخارج مألوفا لديّ.
     كنت أنظر ناحيتهم بمزيج من النّقمة و الخوف.الخوف من قتامة لون السيّارات و هيكلها العابس،أمّا النّقمة فلأنّ واحدة منهنّ لا تدع لي الفرصة لأتحدّث قليلا مع فتاة أحببت مشيتها كثيرا.
      في هذه القاعة بالتّحديد كانت تُعرض التمثيليّة على النّاس ؛
     صفقات البلديّة : السّوق و المسلخ و محطّة سيّارات الأجرة كانت تسلّم لسمسار واحد في المدينة.الاتّفاق بين التجّار  و بين السّلطة يعقد في الكواليس،ثمّ بعد ذلك يشرعون في مزايدة شكليّة.كانت حاجة النّاس إلى متابعة العرض أكثر من فضولهم لمعرفة النّتيجة.و يعاد الطّقس بداية كلّ سنة جديدة. ربّما لهذا السّبب يسمّيها جيل أبي إلى اليوم دارَ الشّعب باسمها القديم.
    و فرقة المسرح الحرّ بالمدينة هي التي تسبّبت في إغلاق دار الشّعب لسنوات عديدة بعد عرض ممنوع قدّمته في غفلة من السّلطة،أو ما يشار إليه اليوم بضبابيّة و من بعيد بعبارة " الأطراف المعنيّة ".كان العرض يتحدّث عن عمّال المناجم.بعدها اكتشف أفراد الفرقة أنّ الرّكح ليست في أعقابه السّنبلة كما يقول جدّي. فقاطعوه إلى الأبد،و صار لديهم زيّ خوخيّ موحّد..وصار بإمكانك أن تتحسّس في أدائهم حرقة دفينة على ما أضاعوه من عمر في غير التمرّن على الإنشاد الدّيني.  
    ***
       جلستُ في آخر صفّ من الكراسي،كان انحدار المَدْرَجِ ضعيفا حتّى أنّ الذي أمامي حجب عنّي برأسه جزءا كبيرا من الخشبة،لحسن الحظّ فقد حجب عنّي أيضا منبر الخطاب.كان المنبر يحمل مضخّم صوت رقيق و مقوّس كما اتّفق.و كان صامتا و مهجورا و أبله كعجل مربوط بجانب حانوت جزّار..
    يقتلني أن تبدو الظّواهر في نظري مكتظّة بالبراهين و أكثر حياة ممّا ينبغي..
      لم يعدّل القائد فيما بعد شيئا من وضعيّة المصدح،و خمّنت أنّها مدروسة بعناية من قِبل نخبته الموالية،وفقا لمستوى شفتيه.المنبر كان قريبا جدّا من المُدرَّج المؤدّي إلى خشبة المسرح،       و قلت في نفسي :طبعا لا يجب أن يقطع الرّجل المهمّ مسافة طويلة كي يصل إليه ثمّ منه،و إلاّ فسيبدو كتلميذ يكرّم يوم العلم.
       كلّ الشّعارات المتدليّة من السّقف و المعلّقة على الجدران من الجوانب الأربع تنفي بشدّة أن تكون قد كُتبت بصيغة " لفتي جيّد فاشتروه ".القاعة مليئة بالمتأنّقين و ليس هناك مقاعد شاغرة.لمّا بدأ الرّجل المهمّ يتحدّث كنت أنصت إليه باهتمام مزيّف،ثمّ سرعان ما غرقتُ في حالة من عدم الفهم المطبق،و ارتحت لفكرة أن لا فرق بين ما يقوم به  و بين من يكتب أعدادا فلكيّة بلسان القلم.ثمّ بعد ذلك انصبّ تركيزي على الحضور و بدأت أحدّق في الوجوه التي تظهر لي سحناتها دون أن ينتبه أصحابها لنظراتي.كنت متردّدا حتّى تلك الّلحظة بشأن المصارحة.. أعني بشأن اعتذاري من صديقي عن عدم رغبتي في الانضمام كقياديّ في الحزب.كان هو من منحني الدّعوة إلى حضور المؤتمر - كما يحلو له أن يردّد -.لكن لمّا تبيّن لي أنّهم جادّون في الإصغاء إلى زعيمهم،أو على الأقلّ ليسوا مكرهين مثلي،و ارتفع إلى ذهني ذاك السّيناريو الذي جعلته فيه يقطع حديثه فجأة و يقول :" لم النّكد بربّكم ؟ الموت  للسّياسة  و للزّراعة  و للمشاريع..! دعونا نرقص ..لقد جلبت معي ما يلزم من الأشرطة..فما رأيكم ؟ "
    و تخيّلت كيف أنّهم سيرحّبون بالفكرة بهرج و فرح لا مثيل لهما ،عندها فقط أدركت أنّ رأسا كالّذي أحمله لن أفلح في إقناعه بالقبول حتّى من باب المسايرة. سيتعبني صديقي بإلحاحه        و موقفه العدائيّ المغلّف باحترامهم للرّأي المخالف كحزب نزيه، لكنّ رأسي سيتعبني بصورة متعِبة،نعم هو ذاك،هذا هو التّعبير المناسب..
    لديّ قناعة بأنّ الوقت سيضيق و سيُدلّس أكثر ممّا هو عليه الآن،و أنّ البشريّة ستبدع حينها أعظم اختراع في تاريخها: أن يُحرق المنظّرون للسّعادة كتبهم بأنفسهم و يعترفوا علنا أمام العالم بأنّهم حزانى و متعبون جدّا..سيكون عرضا مدهشا أكثر من طاقة تحمّلنا،لذا سيروق للدّنيا أن تنتهي بعده مباشرة.و السّيناريو الذي تخيّلته ليس مجنونا و لا مستحيلا ؛كلّ ما في الأمر أنّه مبكّر...
    و قرّرتُ مصارحة الصّديق عند أوّل لقاء قادم بيننا..
       ها هو يتجوّل بين الأروقة تارة و يهمس في الآذان تارة أخرى كأخت العريس..العرس أيضا عرض مذهل،ربّما تكلّمت عنه يوما.الوقت ضيّق و لن  يسع الحديث عن كلّ العروض..
    و تساءلتُ بذِلّة من ضحك عاليا لمّا فاز بجولة أثناء لعبة ورق ،ثمّ  خسر في النّهاية:
    متى و كيف سينفعني رأسي الّلعين ؟ لو أنّ الحزب جمع ما يكفي من الأصوات لصار صديقي، فورا و بدماغ مغسولة،رجلا مهمّا هو الآخر..و ربّما احتجته يوما لتجديد جواز سفري في وقت وجيز،أو  لتسهيل خروجي من السّجن بكفالة لو أنّي كسرت ذراع أحد الباعة الذين يعرضون معاطفهم للبيع على حسابي..أكره أيّام الثّلاثاء لأنّها تضعني في اختبار دائم للفحولة أمام زوجتي.يعلّقون السّراويل و الأغطية و المعاطف على سور بيتي، فلا أحتجّ إلاّ إذا كانت هي تسمعني..أميّز بيتي من بين البيوت المجاورة له و المطابقة له تماما بالغريزة،تماما كما تميّز أمّ التّوائم أبناءها و  يتحوّل هو أيضا إلى شاشة عرض،يوما في الأسبوع.
      شاشات في كلّ مكان..شاشات تتناسل من عقلي و من بعضها كالبكتيريا..الأرض تنزّ شاشات   و توجيهات و أجسام بأزياء غريبة و لوحات دعائيّة عملاقة و دروس..و كضيف يدخل مرحاضا قبالة غرفة معيشة، أُصاب بالحرج و التّفاهة و أنا أمرّ من تحتها كي لا ألفت انتباهها..تحاصرني عيونها الخبيثة من كلّ اتّجاه..أحثّ خطاي  و أودّ لو أن الوقت يمرّ بسرعة ،فيحلّ الظّلام          و تنطفىء أغلبها  و أجد نفسي في بيتي..
    ***
       صديقتي التي تتهمني زوجتي بخيانتها معها،لا تعرف وجهي و لا أعرف وجهها ،عمرها أربعة قرون .منذ أوّل حوار بيننا  و أنا أتوسّد صداقتها كما كنت أفعل بملابس العيد و أنا بعدُ طفلا ،يكره الحليب المغليّ و يحلم بأن يتحوّل المنديل بين يديه إلى أرنب.كانت تطوي رسائلي إليها :عروضي الوحيدة التي أجيد تقديمها،كما تفعل الأمّ بملابس ولدها العائد.أو هكذا أتصوّر. و أحيانا أشكّ أنّها من اختراعي.كانت تفهم أنّي بحاجة إلى بعض الزّوغان  السّافل،و كانت تلتمس لي الأعذار دون شفقة.و تجيز لي و لنفسها التفكير كما نشاء.و صديقي الذي دعاني لحضور اجتماع الحزب       و لبّيت ثمّ تراخيت ،شاشة تركض ورائي..شاشة لا تتوقّف عن النّباح  و بثّ المواعظ             و الشّرح..تذكّرني طوال الوقت بأنّي حقير دون حدّ أدنى من النفوذ..تركض خلفي..تعضّني ،تنهشني ..تمزّق ملابسي..أتعثّر و أكاد أسقط..أنجح في الهرب..أختبىء في بيتي،و عوضا عن مصارحة الشّاشة،أصارح زوجتي بأنّي لا أصلح للسّياسة، فتّتهمني بالخيانة،و بأنّي أحرمها من فرصة الصّعود إلى السّطح..سطح ماذا؟
    لا تجيب.
    ***
       نعم أحببت امرأة أخرى و أنا متزوّج ..كنت بحاجة إلى علاقة صحّيّة..ادّخرت لها وحدها كلماتي الوحيدة التي لم يتنكّر لترتيباتي حرف واحد منها..زرتها في بيتها..كانت بانتظاري دون موعد..كنت مخمورا..جَلَسَتْ إلى جانبي..مسحت على جبيني..ألقيت على مسامعها الكلمات        و خبّأت رأسي بين شعرها و رقبتها و أغمضت عيني ..رائحة شعرها قتلت الوقت..ردَّدَتْ ورائي:
    "سأكون مستعدّا دائما لأهبك لساني كلّما اُضطُرِرتَ لتأكل الشّوك يا وطني،بيد أنّي سأكون في غاية الأسف لأجلك  و لأجلي لو علمتُ أنّك دثّرت أعداءك بمعطفي أثناء غيابي."
      لا أدري كيف زالت تلك المرأة..لم أحاول أن أسأل عنها .. زالت دون أن أفطن ،ككلّ العروض الشيّقة التي كنت أهواها..
    لم تتّهمني زوجتي يوما بأنّي أخونها مع هذه المرأة رغم أنّي كنت مفضوحا إلى أبعد حدّ..         اتّهمتني بخيانتها مع صديقتي التي لا أعرفها ؛ و صارت تقول :أنتَ دون كلّ الرّجال.
    ***
     شاشات في كلّ مكان،في حلقي ،بين أجفاني،في البالوعات،على الجدران..المعلّقات تجعلني أنحني كي أعبر..اللاّفتات تحجب عنّي ذاكرتي و الملصقات تفقدني صوابي لفرط ما التصق منها بساقاي و وجهي..
    أفضّ رسالة صديقتي و أجري بها بعيدا ككلب يهرب بجلد أرنب لا يزال يقطر بالدّم:
    " لا تعقّد المسائل..بذلة و رابطة عنق أنيقة و علكة في الفم،هذا كلّ ما تحتاجه.ستلاحظ الفرق يا صديقي..المعادلة سهلة و رخيصة مقارنة بما سينالك من مزايا الالتفات في كلّ الاتّجاهات  و أنت تسير في شارع يزدحم بالنّوايا الممتعة..لم تسمّيها عيونا خبيثة ؟ اجمعها و احتفظ  بها كما يفعل المراهقون بطوابع البريد. و لا تعقّد الأمور...".
    ما أدراها بأنّ دار الشّعب قد غصّت بالمتأنّقين ؟
    صرت أشكّ فعلا بأنّ صديقتي من اختراعي..
    أجيبها:
    القضيّة ليست قضيّتي وحدي ؛ يجب أن نوفّر للملصقات الرّاحة كي تلزم جدرانها و إلاّ ترجّلت    و غزت الشّوارع و عاثت فسادا في كلّ شيء .
    حينها لن نجد ملاذا غير الحرب. سأكون متحاملا عليها كفاية كي أقاتل بشراسة.
    أفضّ رسالتها و أجري بها بعيدا ككلب معتاد:
    " الحرب ليست الحلّ المناسب أيّها الصّديق..أنت تثرثر كثيرا بلا جدوى..العداوات أمر طبيعيّ للغاية..هذه حقيقة ، كما أنّ أطفال المزابل حقيقة،كالرّصاص و المواخير و قوارير الخمر المكسورة تحت الأنفاق،و العجل المربوط بانتظار أن يذبح،و المنبر الأبله،و ككلّ المبالغ المدفوعة آخر كلّ عرض ...".
    أضحك و لا أفكّر بشيء..
    ***
       خفّ ضغط الصّديق لمّا أدرك أنّي لن أسأله عن نشاط الحزب أبدا.و بدأ حماسه يفتر من جانبي، و أدركت أنّه بدأ يعلو و يقترب من السّطح كما تقول زوجتي ،و أنّه في طريقه ليصبح من المهمّين الذين يَجلسُ أولادُهم في المقاعد الأولى في الفصل دون معاناة أو توصية،و أنّه سيصبح عمّا قريب من أصحاب العروض.أدركت ذلك في البداية لمّا غيّر ضحكته الأكثر اعترافا من كلّ شيء بأنّ الصّرامة بشكل عامّ مسألة مزعومة. تلك الضحكة التي ينفرج لها أنفه  و يبرز ذقنه قليلا على نحو يقول بوضوح:تبّا لقد افتضح أمري..ثمّ تيقّنت من ذلك لمّا لم يعد يكترث بإسماعي – من قبيل البروفا - ما سيقوله للمدير بعد لحظات..كان زميلي بالمكتب..و كانت وظائفنا سخيفة.

       نسيتُ صديقتي و نسيتني..لم أتلقّ منها رسالة واحدة منذ ضاق الزّمن..الصّور و المعلّقات تزداد اقترابا من الرّؤوس..كتبت أسطرا أطلب فيها نقلي إلى أيّة قرية نائية..أعرف سلفا أنّ زوجتي ستمتنع عن مرافقتي..سأزعم أنّي عُوقبت..أدخلت الورقة في الظرف،و أحكمت إغلاقه ثمّ قرّبت سلّة المهملات بساقي ،و بصقت فيها مرّات دون صوت ما تكوّن في فمي من ريق نتيجة لعق الطّوابع و الظّرف..و كتبت على ظهره عنوان الوزارة،ثمّ قلبته لأكتب عنواني، لكنّي لم أجد ما أكتب ،فأنا بلا عنوان.. عندها انتبهت بهدوء قاس أنّ صديقتي من اختراعي.. فتحت محفظتي لأضع فيها الظّرف،و إذا بداخلها تفّاحة و قطعة حلوى..لم تجد زوجتي غير تلك الوسيلة كي تطلب منّي الصّفح دون أن تظهر ضعيفة أمامي..لم أهتمّ كثيرا بما اكتشفت بقدر ما كنت حريصا على إخراج التفّاحة و قطعة الحلوى  و  وضعهما في الدّرج دون أن يفطن الصّديق.كان غارقا في مراجعة القائمة الاسميّة التي ستمثّل مكتبهم ،و ستعلّق في كافّة شوارع المدينة.أخفيت تفّاحتي   و قطعة الحلوى في الدّرج بخفّة و لم ينتبه.
      لم أجد أمامي غير تلك الوسيلة كي أنتقم من الجميع..كنت حزينا جدّا لأنّ الشّعب أضحى مثلي بلا دار.. 
    ـــــــــــــــــــ



    محمد فطومي