• الرئيسيّة

  • الجمعة، 3 أوت 2012

    بيتُنا المُستعار



       

    آخِرَ مرّة دخلتُ فيها قاعة المسرح كان عمري ستّة أعوام،إن لم تخنّي الذّاكرة، فأمّي لم تكن مهتمّة بمسألة المقعد الأماميّ إلاّ في عامي الأوّل بالمدرسة.بعدها صرت أسمع في البيت حديثا مشحونا بعصبيّة هادئة عن الجيش أو ما شابه..و سنة بعد أخرى صرت أتخيّر بنفسي ما شئت من المقاعد الخلفيّة في الفصل،و أبالغ أحيانا..و الألعاب السّحريّة التي حضرتها في ذلك الوقت في هذا المكان بالذّات لا تزال راسخة في مخيّلتي بالتّفصيل كما لو أنّي شاهدتها منذ قليل.هذا يعني أنّي كنت بالفعل جالسا في المقعد الأماميّ.إذن لم أكن مخطئا.كان عمري ستّة أعوام..و حديث والديّ عن الجيش ترتّب في ذهني بعد سنين على نحو خاطف  و متسامح أيضا،لمّا انتقلت إلى المرحلة الثّانويّة  و أصبح طابور السيّارات الخضراء الفخمة الرّابض في الخارج مألوفا لديّ.
     كنت أنظر ناحيتهم بمزيج من النّقمة و الخوف.الخوف من قتامة لون السيّارات و هيكلها العابس،أمّا النّقمة فلأنّ واحدة منهنّ لا تدع لي الفرصة لأتحدّث قليلا مع فتاة أحببت مشيتها كثيرا.
      في هذه القاعة بالتّحديد كانت تُعرض التمثيليّة على النّاس ؛
     صفقات البلديّة : السّوق و المسلخ و محطّة سيّارات الأجرة كانت تسلّم لسمسار واحد في المدينة.الاتّفاق بين التجّار  و بين السّلطة يعقد في الكواليس،ثمّ بعد ذلك يشرعون في مزايدة شكليّة.كانت حاجة النّاس إلى متابعة العرض أكثر من فضولهم لمعرفة النّتيجة.و يعاد الطّقس بداية كلّ سنة جديدة. ربّما لهذا السّبب يسمّيها جيل أبي إلى اليوم دارَ الشّعب باسمها القديم.
    و فرقة المسرح الحرّ بالمدينة هي التي تسبّبت في إغلاق دار الشّعب لسنوات عديدة بعد عرض ممنوع قدّمته في غفلة من السّلطة،أو ما يشار إليه اليوم بضبابيّة و من بعيد بعبارة " الأطراف المعنيّة ".كان العرض يتحدّث عن عمّال المناجم.بعدها اكتشف أفراد الفرقة أنّ الرّكح ليست في أعقابه السّنبلة كما يقول جدّي. فقاطعوه إلى الأبد،و صار لديهم زيّ خوخيّ موحّد..وصار بإمكانك أن تتحسّس في أدائهم حرقة دفينة على ما أضاعوه من عمر في غير التمرّن على الإنشاد الدّيني.  
    ***
       جلستُ في آخر صفّ من الكراسي،كان انحدار المَدْرَجِ ضعيفا حتّى أنّ الذي أمامي حجب عنّي برأسه جزءا كبيرا من الخشبة،لحسن الحظّ فقد حجب عنّي أيضا منبر الخطاب.كان المنبر يحمل مضخّم صوت رقيق و مقوّس كما اتّفق.و كان صامتا و مهجورا و أبله كعجل مربوط بجانب حانوت جزّار..
    يقتلني أن تبدو الظّواهر في نظري مكتظّة بالبراهين و أكثر حياة ممّا ينبغي..
      لم يعدّل القائد فيما بعد شيئا من وضعيّة المصدح،و خمّنت أنّها مدروسة بعناية من قِبل نخبته الموالية،وفقا لمستوى شفتيه.المنبر كان قريبا جدّا من المُدرَّج المؤدّي إلى خشبة المسرح،       و قلت في نفسي :طبعا لا يجب أن يقطع الرّجل المهمّ مسافة طويلة كي يصل إليه ثمّ منه،و إلاّ فسيبدو كتلميذ يكرّم يوم العلم.
       كلّ الشّعارات المتدليّة من السّقف و المعلّقة على الجدران من الجوانب الأربع تنفي بشدّة أن تكون قد كُتبت بصيغة " لفتي جيّد فاشتروه ".القاعة مليئة بالمتأنّقين و ليس هناك مقاعد شاغرة.لمّا بدأ الرّجل المهمّ يتحدّث كنت أنصت إليه باهتمام مزيّف،ثمّ سرعان ما غرقتُ في حالة من عدم الفهم المطبق،و ارتحت لفكرة أن لا فرق بين ما يقوم به  و بين من يكتب أعدادا فلكيّة بلسان القلم.ثمّ بعد ذلك انصبّ تركيزي على الحضور و بدأت أحدّق في الوجوه التي تظهر لي سحناتها دون أن ينتبه أصحابها لنظراتي.كنت متردّدا حتّى تلك الّلحظة بشأن المصارحة.. أعني بشأن اعتذاري من صديقي عن عدم رغبتي في الانضمام كقياديّ في الحزب.كان هو من منحني الدّعوة إلى حضور المؤتمر - كما يحلو له أن يردّد -.لكن لمّا تبيّن لي أنّهم جادّون في الإصغاء إلى زعيمهم،أو على الأقلّ ليسوا مكرهين مثلي،و ارتفع إلى ذهني ذاك السّيناريو الذي جعلته فيه يقطع حديثه فجأة و يقول :" لم النّكد بربّكم ؟ الموت  للسّياسة  و للزّراعة  و للمشاريع..! دعونا نرقص ..لقد جلبت معي ما يلزم من الأشرطة..فما رأيكم ؟ "
    و تخيّلت كيف أنّهم سيرحّبون بالفكرة بهرج و فرح لا مثيل لهما ،عندها فقط أدركت أنّ رأسا كالّذي أحمله لن أفلح في إقناعه بالقبول حتّى من باب المسايرة. سيتعبني صديقي بإلحاحه        و موقفه العدائيّ المغلّف باحترامهم للرّأي المخالف كحزب نزيه، لكنّ رأسي سيتعبني بصورة متعِبة،نعم هو ذاك،هذا هو التّعبير المناسب..
    لديّ قناعة بأنّ الوقت سيضيق و سيُدلّس أكثر ممّا هو عليه الآن،و أنّ البشريّة ستبدع حينها أعظم اختراع في تاريخها: أن يُحرق المنظّرون للسّعادة كتبهم بأنفسهم و يعترفوا علنا أمام العالم بأنّهم حزانى و متعبون جدّا..سيكون عرضا مدهشا أكثر من طاقة تحمّلنا،لذا سيروق للدّنيا أن تنتهي بعده مباشرة.و السّيناريو الذي تخيّلته ليس مجنونا و لا مستحيلا ؛كلّ ما في الأمر أنّه مبكّر...
    و قرّرتُ مصارحة الصّديق عند أوّل لقاء قادم بيننا..
       ها هو يتجوّل بين الأروقة تارة و يهمس في الآذان تارة أخرى كأخت العريس..العرس أيضا عرض مذهل،ربّما تكلّمت عنه يوما.الوقت ضيّق و لن  يسع الحديث عن كلّ العروض..
    و تساءلتُ بذِلّة من ضحك عاليا لمّا فاز بجولة أثناء لعبة ورق ،ثمّ  خسر في النّهاية:
    متى و كيف سينفعني رأسي الّلعين ؟ لو أنّ الحزب جمع ما يكفي من الأصوات لصار صديقي، فورا و بدماغ مغسولة،رجلا مهمّا هو الآخر..و ربّما احتجته يوما لتجديد جواز سفري في وقت وجيز،أو  لتسهيل خروجي من السّجن بكفالة لو أنّي كسرت ذراع أحد الباعة الذين يعرضون معاطفهم للبيع على حسابي..أكره أيّام الثّلاثاء لأنّها تضعني في اختبار دائم للفحولة أمام زوجتي.يعلّقون السّراويل و الأغطية و المعاطف على سور بيتي، فلا أحتجّ إلاّ إذا كانت هي تسمعني..أميّز بيتي من بين البيوت المجاورة له و المطابقة له تماما بالغريزة،تماما كما تميّز أمّ التّوائم أبناءها و  يتحوّل هو أيضا إلى شاشة عرض،يوما في الأسبوع.
      شاشات في كلّ مكان..شاشات تتناسل من عقلي و من بعضها كالبكتيريا..الأرض تنزّ شاشات   و توجيهات و أجسام بأزياء غريبة و لوحات دعائيّة عملاقة و دروس..و كضيف يدخل مرحاضا قبالة غرفة معيشة، أُصاب بالحرج و التّفاهة و أنا أمرّ من تحتها كي لا ألفت انتباهها..تحاصرني عيونها الخبيثة من كلّ اتّجاه..أحثّ خطاي  و أودّ لو أن الوقت يمرّ بسرعة ،فيحلّ الظّلام          و تنطفىء أغلبها  و أجد نفسي في بيتي..
    ***
       صديقتي التي تتهمني زوجتي بخيانتها معها،لا تعرف وجهي و لا أعرف وجهها ،عمرها أربعة قرون .منذ أوّل حوار بيننا  و أنا أتوسّد صداقتها كما كنت أفعل بملابس العيد و أنا بعدُ طفلا ،يكره الحليب المغليّ و يحلم بأن يتحوّل المنديل بين يديه إلى أرنب.كانت تطوي رسائلي إليها :عروضي الوحيدة التي أجيد تقديمها،كما تفعل الأمّ بملابس ولدها العائد.أو هكذا أتصوّر. و أحيانا أشكّ أنّها من اختراعي.كانت تفهم أنّي بحاجة إلى بعض الزّوغان  السّافل،و كانت تلتمس لي الأعذار دون شفقة.و تجيز لي و لنفسها التفكير كما نشاء.و صديقي الذي دعاني لحضور اجتماع الحزب       و لبّيت ثمّ تراخيت ،شاشة تركض ورائي..شاشة لا تتوقّف عن النّباح  و بثّ المواعظ             و الشّرح..تذكّرني طوال الوقت بأنّي حقير دون حدّ أدنى من النفوذ..تركض خلفي..تعضّني ،تنهشني ..تمزّق ملابسي..أتعثّر و أكاد أسقط..أنجح في الهرب..أختبىء في بيتي،و عوضا عن مصارحة الشّاشة،أصارح زوجتي بأنّي لا أصلح للسّياسة، فتّتهمني بالخيانة،و بأنّي أحرمها من فرصة الصّعود إلى السّطح..سطح ماذا؟
    لا تجيب.
    ***
       نعم أحببت امرأة أخرى و أنا متزوّج ..كنت بحاجة إلى علاقة صحّيّة..ادّخرت لها وحدها كلماتي الوحيدة التي لم يتنكّر لترتيباتي حرف واحد منها..زرتها في بيتها..كانت بانتظاري دون موعد..كنت مخمورا..جَلَسَتْ إلى جانبي..مسحت على جبيني..ألقيت على مسامعها الكلمات        و خبّأت رأسي بين شعرها و رقبتها و أغمضت عيني ..رائحة شعرها قتلت الوقت..ردَّدَتْ ورائي:
    "سأكون مستعدّا دائما لأهبك لساني كلّما اُضطُرِرتَ لتأكل الشّوك يا وطني،بيد أنّي سأكون في غاية الأسف لأجلك  و لأجلي لو علمتُ أنّك دثّرت أعداءك بمعطفي أثناء غيابي."
      لا أدري كيف زالت تلك المرأة..لم أحاول أن أسأل عنها .. زالت دون أن أفطن ،ككلّ العروض الشيّقة التي كنت أهواها..
    لم تتّهمني زوجتي يوما بأنّي أخونها مع هذه المرأة رغم أنّي كنت مفضوحا إلى أبعد حدّ..         اتّهمتني بخيانتها مع صديقتي التي لا أعرفها ؛ و صارت تقول :أنتَ دون كلّ الرّجال.
    ***
     شاشات في كلّ مكان،في حلقي ،بين أجفاني،في البالوعات،على الجدران..المعلّقات تجعلني أنحني كي أعبر..اللاّفتات تحجب عنّي ذاكرتي و الملصقات تفقدني صوابي لفرط ما التصق منها بساقاي و وجهي..
    أفضّ رسالة صديقتي و أجري بها بعيدا ككلب يهرب بجلد أرنب لا يزال يقطر بالدّم:
    " لا تعقّد المسائل..بذلة و رابطة عنق أنيقة و علكة في الفم،هذا كلّ ما تحتاجه.ستلاحظ الفرق يا صديقي..المعادلة سهلة و رخيصة مقارنة بما سينالك من مزايا الالتفات في كلّ الاتّجاهات  و أنت تسير في شارع يزدحم بالنّوايا الممتعة..لم تسمّيها عيونا خبيثة ؟ اجمعها و احتفظ  بها كما يفعل المراهقون بطوابع البريد. و لا تعقّد الأمور...".
    ما أدراها بأنّ دار الشّعب قد غصّت بالمتأنّقين ؟
    صرت أشكّ فعلا بأنّ صديقتي من اختراعي..
    أجيبها:
    القضيّة ليست قضيّتي وحدي ؛ يجب أن نوفّر للملصقات الرّاحة كي تلزم جدرانها و إلاّ ترجّلت    و غزت الشّوارع و عاثت فسادا في كلّ شيء .
    حينها لن نجد ملاذا غير الحرب. سأكون متحاملا عليها كفاية كي أقاتل بشراسة.
    أفضّ رسالتها و أجري بها بعيدا ككلب معتاد:
    " الحرب ليست الحلّ المناسب أيّها الصّديق..أنت تثرثر كثيرا بلا جدوى..العداوات أمر طبيعيّ للغاية..هذه حقيقة ، كما أنّ أطفال المزابل حقيقة،كالرّصاص و المواخير و قوارير الخمر المكسورة تحت الأنفاق،و العجل المربوط بانتظار أن يذبح،و المنبر الأبله،و ككلّ المبالغ المدفوعة آخر كلّ عرض ...".
    أضحك و لا أفكّر بشيء..
    ***
       خفّ ضغط الصّديق لمّا أدرك أنّي لن أسأله عن نشاط الحزب أبدا.و بدأ حماسه يفتر من جانبي، و أدركت أنّه بدأ يعلو و يقترب من السّطح كما تقول زوجتي ،و أنّه في طريقه ليصبح من المهمّين الذين يَجلسُ أولادُهم في المقاعد الأولى في الفصل دون معاناة أو توصية،و أنّه سيصبح عمّا قريب من أصحاب العروض.أدركت ذلك في البداية لمّا غيّر ضحكته الأكثر اعترافا من كلّ شيء بأنّ الصّرامة بشكل عامّ مسألة مزعومة. تلك الضحكة التي ينفرج لها أنفه  و يبرز ذقنه قليلا على نحو يقول بوضوح:تبّا لقد افتضح أمري..ثمّ تيقّنت من ذلك لمّا لم يعد يكترث بإسماعي – من قبيل البروفا - ما سيقوله للمدير بعد لحظات..كان زميلي بالمكتب..و كانت وظائفنا سخيفة.

       نسيتُ صديقتي و نسيتني..لم أتلقّ منها رسالة واحدة منذ ضاق الزّمن..الصّور و المعلّقات تزداد اقترابا من الرّؤوس..كتبت أسطرا أطلب فيها نقلي إلى أيّة قرية نائية..أعرف سلفا أنّ زوجتي ستمتنع عن مرافقتي..سأزعم أنّي عُوقبت..أدخلت الورقة في الظرف،و أحكمت إغلاقه ثمّ قرّبت سلّة المهملات بساقي ،و بصقت فيها مرّات دون صوت ما تكوّن في فمي من ريق نتيجة لعق الطّوابع و الظّرف..و كتبت على ظهره عنوان الوزارة،ثمّ قلبته لأكتب عنواني، لكنّي لم أجد ما أكتب ،فأنا بلا عنوان.. عندها انتبهت بهدوء قاس أنّ صديقتي من اختراعي.. فتحت محفظتي لأضع فيها الظّرف،و إذا بداخلها تفّاحة و قطعة حلوى..لم تجد زوجتي غير تلك الوسيلة كي تطلب منّي الصّفح دون أن تظهر ضعيفة أمامي..لم أهتمّ كثيرا بما اكتشفت بقدر ما كنت حريصا على إخراج التفّاحة و قطعة الحلوى  و  وضعهما في الدّرج دون أن يفطن الصّديق.كان غارقا في مراجعة القائمة الاسميّة التي ستمثّل مكتبهم ،و ستعلّق في كافّة شوارع المدينة.أخفيت تفّاحتي   و قطعة الحلوى في الدّرج بخفّة و لم ينتبه.
      لم أجد أمامي غير تلك الوسيلة كي أنتقم من الجميع..كنت حزينا جدّا لأنّ الشّعب أضحى مثلي بلا دار.. 
    ـــــــــــــــــــ



    محمد فطومي

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق