• الرئيسيّة

  • الأحد، 19 أوت 2012

    عازف الكمان





        موعدنا كان الخامسة ركضا نحو الشّرفة، من كلّ مساء،أراقبها تمشي مسرعة بمحاذاة البناية المقابلة لشقّتي بالحيّ اللاّتيني بباريس ،و قد التهم معطفها الأسود الطّويل سواد حقيبتها اليدويّة الصّغيرة و ما تمرّد من شعرها المشدود إلى أعلى. كنت ربّما اكتفيت بهذا المشهد،حتّى لفح آخر،لو لا أنّي صادفتها تخرج من محلّ هاتف عموميّ.كانت جذّابة  و ملحّة الجمال إلى الحدّ الذي يجعلك تبادرها بالتّحيّة أو تسألها إن كانت تحتاج إلى شيء ما، إلى مغامرة ما ،إلى مجازفة ما ربّما.و وددت لو أشكرها لأنّها حوّلت إيقاع حياتي إلى وقع حيّ .و اختصم في عينيها لحظة اختلطت بعينيّ ،المقام العصبيّ و الذّبحة السمفونيّة و قالت مغادرة بحياء ارتباكة خطواتنا :- عفوا سيّدي.  كدت أجيبها:أنا أيضا أحبّك سيّدتي..و لكنّي تمنّيت لها يوما طيّبا و لي يوما آخر.و بقيت للحظة أشيّعها بعيني فاغرا أربعيني أمام نبوغ أنوثتها،و صدق جسدها.
          لا يوقظ من  إغماءة الزّمن سوى حبّ حقيقيّ،أو وهم مقنّع أنيق ،دُلّني على من يملك صلابة تكذيبه..فالصّحوة كالبعث لابدّ لها من نوبة قلبيّة أو صرخة مدوّية في الأذن مباشرة كي تتحقّق.يأتي مصادفة حلوة،له طعم المكافأة أو التّكريم وأحيانا يتّخذ لنفسه شكل التّعاطف معك و الانضمام إلى صفّك و الإشفاق عليك في أسوء الأحوال.صحوة تحوّل ما قبلها من عمر إلى مشي أثناء النّوم لا أكثر.و لا ندري لم اختار ذلك التّوقيت بالذات  و لا أين كان متواريا،و لا لماذا انتظر كلّ تلك السّنوات ليظهر هكذا فجأة، كأنّه تنازل لنا عن شيء ما أو كأنّه كان طوال المدّة يمتحن إخلاصنا له سلفا و بأنّنا تماثلنا للنضج،أو كأنّه كان يهيّئنا للحدث كي ما يراق جزافا بين أيد عابثة شقيّة،لا مستقبل له بينها سوى الضّياع. كلّ هذه التساؤلات ليست من حقّنا و لا دخل لنا في صروفها.و طرحها في نظري،في حال تحقّقت الأنشودة،ضرب من التّخمة و الفساد و الانشغال عن الطّعام بوصفه ساعة الجوع.
        فترى أين تعلّمتْ أن تقول كلّ شيء في ضحكة سريعة واحدة،أخذتها معها، تاركة وراءها عطرها الفصيح،غير المستعجل،يواسيني و يحدّثني نيابة عنها؟
    المرأة التي تعوّدت أن أتأمّلها من فوق،كانت منذ قليل أمامي وجها لوجه،أهو "سعي الدّهر بيننا" على حدّ قول الشّاعر،أم مجرّد حادث عابر،ليست هناك من مدينة أخرى على وجه الأرض تجيد ارتكابه مثل باريس؟
       و تتالت الأيّام دون أن أخلف موعدي اليوميّ معها،دون أن أعرف وجهتها و لا من تكون و لا أين تقيم،و تدريجيّا صرت أحسّ بوجع أن تكون واحدا من جمهور يعدّ بالآلاف و أنت تشاهد حفل أوبرا لأحد العظماء.شعور فضيع بالدّون و النّقص لا مثيل له.و كان لا بدّ أن أجد لي مكانا بجانبها على الخشبة،أرافقها و أتحرّر من غصّة الفرجة،و حدّة أن أكون رأسا سيساهم فيما ستسمّيه هي فيما بعد بقاعة مكتظّة. إنّها تمسرح الدّنيا في عيني متّخذة دور البطولة رغم حضورها الضّعيف ،و ما عدت أقدر على المشاهدة من بعيد كمتفرّج مثقّف مهذّب مكانه في الجهة المظلمة من القاعة،محاطا بآلاف الوجوه التي سيكتفي نجم السّهرة فيما بعد ذات تصريح صحفيّ باختزالهم في كلمتين :"عزيزي المشاهد ".و كان لابدّ أن أجدّد لها اعترافي بالجميل لأنّها لم تشوّه صورة سوزان في مخيّلتي.قبل أن تستفحل بي قوانين اللّعبة.سوزان التي لم أحبّ سواها و نذرت لها فنّي،و تمرّدتُ من أجلها على ابنة الجيران و تركتها،و أعلنت بأنّي مادمت قد راهنت على وجودها فإنّها حتما ستلبّي و ستنتظرني و ستعيد صياغة ما ضاع من عمر قضّيته بعيدا عنها.سوزان التي تتقن جميع فنون التّجدّد و تسلّق الأعصاب.امرأة من كريستال تلمّع نفسها بنفسها، تعرف كيف تكون جميلة متوهّجة و متى تصبح متّقدة ذكيّة و إلى أيّ حدّ يجب أن تقتلني رميا بالحياة حتّى الموت و تفهم لم تعقّبتها من قبل حتّى أن أعرفها.و تعرف جيّدا ما الفرق بين النّزول عند الشّهوة امتثالا للعرف و بين الصّعود إلى مرتبة  اتّخاذ قرار في العشق ساعة لا يبقى من الملاجىء سواه.  
     امرأة لا تحتاج أن تتجسّس عليّ أو تنصب لي محاكمة مقيتة صعودا و نزولا،مادامت تضع حزني تحت المراقبة ليل نهار،و دقّتي الثّالثة تحت التّصنّت.امرأة تطوف حولي وحين تسكن غربتي،ترحل دون ذريعة،رحيلا دون التفاتة،كانت تدرك منذ البداية أنّه أروع ما جئت أطلبه في القصّة.انقضاءً  سوف يظلّ يتردّد بداخلي،يجوبني مدى الحريق.امرأة لا تحفر ،لأنّها ببساطة تملك جميع مفاتيح السلّم.امرأة تضع رغبتي في امتلاكها نصب تاريخها و هي تجادلني..
     و لكي أعلن لها عن وجودي و بأنّها حوّلتني منذ انتبهت إليها إلى نازف كمان بعدما أمضيت عمرا عازف كمان أجمع نفسي مسافرا بين المطاعم و الحانات،دوري فيها لا يتعدّى أن يكون وسيلة تساعد على الهضم.يشدّني من بذلتي السمفونيّة  السّوداء حاجتي إلى الاستمرار كمسوّغ لقمة محترف،و من الجهة الأخرى أرباب المحلاّت و هم يستدرجون مصيري علّي أصير لقمة سائغة .قرّرت أن أدنو منها أكثر ما يمكن ،و كنت على يقين تامّ بأنّ هذا لن يتحقّق إلاّ إذا كرّرت لقائي بها على الرّصيف متّخذا الوجهة العكسيّة لسبيلها نحو مشوارها اليوميّ.و كنت في كلّ مرّة ألقي عليها التحيّة محاولا تحويل وجهة اللّقاء إلى مصادفة عجيبة تجعلنا نتقابل كلّ يوم في نفس المكان.
     إلى أن لمحتها يوما و أنا أمارس كذبتي المسائيّة تتعّثر محاولة إبعاد شيء ما من أمام وجهها و قد سترته بحقيبتها باليد الأخرى.وقفت أمامها و كدت أقول لها :"سيّدتي هل كلّ شيء على ما أحبّك" و لكنّي سألتها:هل أنت بخير سيّدتي؟
    حينها رفعت عينيها نحوي و أجابت و قد علت خدّها حمرة خجل طفيفة .ذاك الخجل الذي لا تضعنا فيه سوى الأجسام الضّئيلة:نعم ..شكرا ..كانت تحوم حولي نحلة..و أضنّها ابتعدت..
    ابتسمت في وجهها و أنهيت الحوار كي لا أكون ثقيل ظلّ و تمتمت:..لحسن الحظّ..
    ما أريد أن أبوح لها به طويل، بل لا ينتهي. كانت أمنيتي أن أجعلها سعيدة..أن أطرب جميع حواسّها مرّة واحدة..أن نصبح صديقين..أن أمتلكها..و تمنّيت أيضا لو كان باستطاعتي أن أمرّر كلّ ما بداخلي لها، امرأة  مستعجلة على الدّوام..أن أقول لها على الأقلّ"سيّدتي أنت لا تمرّين إذ تمرّين،أنت تتدفّقين،أنتِ لا تُسمعين إذا تكلّمت،فمثلك صوته يندلق و لا ينساب..
        في اليوم الموالي تلقّيت مكالمة من صاحب مطعم "الكهف" يؤكّد لي فيها ضرورة مجيئي مع السّاعة التاسعة ،فالسيّد "ألفونسو" قد حجز المطعم ليحتفل بعيد زواجه و بأنّه أصرّ بأن أكون أنا مرافق العشاء،و بأنّه سيمرّ لاصطحابي بنفسه.
     الاسم لا يذكّرني بشيء،و لكنّ الطّريقة التي نطقه بها صاحب المحلّ و اهتمامه المبالغ بالأمر يدلانّ على أنّه أحد الشّخصيّات الرّاقية جدّا.و كونه طالب بي فذاك يعود إلى أنّ هناك معالم سياحيّة و رموز ،و خصائص معدّة للتّرفيه، اعتاد النّاس أن يجدوها ثابتة لا تتغيّر في انتظارهم متى حلّوا لزيارتها،و مهما طال غيابهم عنها و مهما طرأ من أحداث منذ آخر عهد لهم بها،تماما مثل ابتسامة الموناليزا،فالمسكينة يجب أن تظلّ محافظة على ملامحها كي لا تخرق ما جئت من أجله،أو كتمثال الرّجل مخترق الجدران بمون مارتر،أو كالدّمى العملاقة بمدينة "ديسني لاند"،أو القردة "صوفيا" بالحديقة العامّة..أنا أيضا يجب أن أكون في الموعد مثلهم.و غير مسموح لنا أن نغادر أدوارنا التّرفيهيّة،أو أن نتّخذ أشكالا أخرى،كيما نخيّب آمال السّواح.
        المطعم كان أقرب إلى قطعة من أحد أسواق العصر العبّاسي،جدرانه كانت حجارة طبيعيّة مصقولة عارية على طبيعتها،و الإضاءة ضعيفة،كأنّ مصدرها الشّمع،و كانت تنبعث من المكان رائحة نديّة خفيفة،أذكر أنّي أحببتها كثيرا لمّا دخلت المكان لأوّل مرّة.اليوم ما عدت أشمّها و ما عادت تحرّك شيئا بداخلي،صار المكان عاديّا و مألوفا بالنّسبة لي،تماما كما هو منطفىء جمال الأنهار و الشلاّلات الشّاهقة في عيون أهل تلك القرية.
     الطّاولة الوحيدة كانت تتوسّط القاعة و كانت مجهّزة بعناية و حرفيّة كبيرة و ليس في سقف القاعة أو جدرانها ما يشي بالمناسبة،و كنت قد اتّخذت مكانا غير بعيد عن الطّاولة أنتظر الحبيبين،و انشغلت لبعض الوقت في دوزنة الكمان،أوصيه بالحماس،و تقمّص الوظيفة كما ينبغي لرجل نبيل راهن عليها من دون الأخريات.و تناهت إلى مسامعي كلمات ترحيب و ضحكات و مجاملات،استطعت أن أميّز بينها الضحكة النّقديّة لصاحب المحلّ،و ظهر الزوجان متوجّهين نحو الطّاولة يتقدّمهما النادل.
     ألقى عليّ الرّجل تحيّة دبلوماسيّة ،فيما ألقت عليّ زوجته نظرة فضول كتلك التي ألقتها على لوحة عملاقة لخيول برّيّة كانت معلّقة على الجدار، و بدت غير مهتمّة لوجودي ولا كأنّها رأتني من قبل.
    هاهي ذي أمامي لا تفصل بيننا سوى بضع خطوات و مسافة خيبة مرّة،و قد أصبحت  جمهوري الوحيد،هاهي ذي أمامي و قد تعذّر عليّ وصفها جالسة غير مستعجلة كعادتها. و انصرفتُ إلى كماني أقول لها كلّ ما أشتهي موته،و كان عليّ في الآن نفسه أن أمّحي كلّيّا و أنطمس و أتحوّل من لحظتي إلى جهاز حيّ لصنع الموسيقى،مؤجّلا انسياب الدّم في شراييني إلى ما بعد.
      و راقصها على أنغام جلجلة أساور أمّي في معصميها و هي تعجن الخبز رحيل كلّ عتمة .و لم تنسى هي أن تفتح حقيبتها و تخرج ورقة نقديّة و تدسّها في جيبي عملا بالأصول، لمّا همّ زوجها بدفع الحساب.شكرتها و جدّدت ترحيبي بهما .و قبلت عملتها السّهلة كي لا أعكّر صفو ليلتها السّعيدة،و لأجل أن يصدق ظنّها بي ككائن خلق ليكون في الخدمة دائما ،لا شيء يفرحه أكثر من بضع فرنكات ..قبلت الهديّة.
                                                                                                            
     










    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق