• الرئيسيّة

  • الأربعاء، 15 أوت 2012

    تونس الثّورة..تفّاحة نيوتن و آدم من بعده.

    نُشر هذا المقال في مجلة مواجهات الالكترونية بتاريخ أفريل 2011
    بعد عدّة محاولات فاشلة لنشره بالصّحافة التّونسيّة ،بأنواعها الثّلاث : صحافة المعارضة،الصّحافة الملتزمة،صحافة العملاء السّابقين الثّوريّين الجدد.
    و لم أكن إذّاك قد صمّمت المدوّنة بعدُ، حين فرغتُ من كتابة المقال بدا لي أنّي قسوتُ قليلا على بلادي ،لكنّي اليوم أرى أنّي وقتها لم أتعدَّ كوني دلّكتُ على الحقيقة كما بمرهم ترطيب للبشرة.


    تونس الثّورة: تفّاحة نيوتن
    و آدم من بعده!


    الحال ثورة و الطّابور طويل و أشعث و الأعناق ممدودة و النّظرات ملؤها الذّعر و الطّمع،و الجباه مسفوعة بحبّات عرق كرمل الشّطآن.أبحث عن بريق يوحي بثّورة في أعين النّاس فلا أجد شيئا.أتحوّل إلى أذن كبيرة لعلّي أسمع دقّاتها من رنّة الحناجر،فلا يصلني غير الثّغاء.
    تسرح بي الخواطر و أنا أراقب هضبة الهرج الحارّة بأسف شاعر ضبط حبيبته في ركن مظلم تغازل حارس ملهى ليليّ.و أُصاب بالصّمم لبرهة و أتخيّل نفسي صاحب المخبز،فأعلّق البيع و أنتصب فوق خشبة المصرف و أخطب:
    - أيّها الشّعب الحرّ،إنّ سخطك أسمى من سدّ الرّمق و الهذر في الأسواق بما لم يكن لسانك يجرؤ على تفجيره.فالعظماء تجوع قلوبهم،لا بطونهم..إنّ خبز الثّائرين الحلم..أم تراك لم تثر أصلا؟ 
    فيهجموا على المخبز في هبّة واحدة،و يسلبوه على آخر ذرّة طحين ثمّ يجرّدونني ملابسي و يطرحونني أرضا ،و يأتي بعدهم فريق آخر فيقتلعوا الخشب و يغنموا عربة طهي العجين المتفحّمة و يفرّوا..أكلتم اليوم،فمن يزوّدكم بالخبز غدا؟ أستيقظ..و ألتحم بالحشد و أحدّث نفسي بأنّي لست خيرا منهم و بأنّ الموقف عظيم بالفعل و محترم و يستحقّ الكثير من القلق و التّضحية و الرّوح القتاليّة.يحيّرني أنّي على استعداد رغم التّهديد بأزمة،للانصراف فارغ اليدين،و أتمنّى لو يلبسني شيطان غبيّ همجيّ فأرفس الجميع بساقيّ و أنتزع رغيفي عنوة،وأبتعد سعيدا و أنا أنتفض ككلب مبتلّ..
    لا يسعفني أيّ شيطان فألوذ بالشّعير.
    ليت أبناء النّسيان و تخوم هذا الوطن يقرؤون هذا و سيقرؤونه ، و ليت أعضاء الهيأة العليا لتحقيق أهداف الثّورة،و أعضاء مجلس حماية الثّورة،و اللابتكارات الحزبيّة الجديدة و خلايا برجوازيّة الثّورة،يقرؤوا هذا.ولن يفقهوه لأنّهم حسموا أمرهم و علم كلّ مشربه.. 
    و أقول للذين ينصّبون أنفسهم أوصياء على الشّعوب،من أنتم حتّى تحموا ثورات تابعتموها عبر شاشات التلفزيون ؟ ثمّ ما معنى حماية الثّورة ؟لقد  سقط لفظ "مفهوم" من الّلقب الذي توسّمتموه.الصّحيح مجلس حماية مفهوم الثّورة .
    ليست الثّورة ميداليّة .و لكنّك للأسف هذا ما تخرج به من آلاف الحلقات الحواريّة و مقالات إمّا أنّها تهجو ميّتا أو أنّها تصف كرنفالا.و كان بوسعي الانحياز إلى مدينتي و أقول إنّها ميداليّة نالتها القصرين في سباق الستّين شهيدا ثمّ انتحرت..و لكن لا يجوز حتّى مع الإخلاص في النيّة أن نحنّطها بهذا الشّكل أو أن نعتبرها اختراعا جاهزا للاستعمال أو أن نردّد مصطلح الحفاظ عليها ،فذلك يعني بأنّ معالمها قد اكتملت كتحفة فنّيّة أتممنا صنعها و ما علينا الآن سوى حضنها في صندوق بلّوريّ و نضع عليها عسسا حذر السّرقة أو التّزييف .
    و كان على الحقوقيّين و الغيورين على هذا الوطن من مناضلين و محامين و مثقّفين ، قبل اقتباس الكلمة    أن يجتمعوا بالشّباب في كلّ نقطة من البلاد و يشرحوا لهم أهداف الثّورة ؛ما تحقّق و ما نحن ماضون لتحقيقه،و أنّ ثورة الحجارة و الدّم قد ولّت برحيل العائلة المطرودة،و أنّ أمامنا ثورة ممارسات و إبداع و مبادرة و ثقة و صبر و ضمير،و أنّنا لن نرضى بأقلّ من بلد بوسع أفقر فرد فيه و أقلّه بختا و أخسره في القرعة و أكثرهم حياء و أبعده سكنا أن يبلّغ صوته فيُسمع في وقت وجيز من قبل أكبر المسؤولين،و لا بأقّل من بيئة لا تستغبي كادحيها أو تكمّم مفكّريها.
    هذا ما قامت عليه الثّورة ،و هذا هو السّبب الذي دفع بالبوعزيزي لإحراق نفسه.و هذا يختزل كلّ المطالب.
    تحرّرت الصّحافة و صار بإمكانها التّعبير دون رقابة أو قصّ أو منع..قول آثم ،أو في أحسن الأحوال غير صحيح،لأنّ التي تحرّرت بالفعل هي تجارة الصّحف.و مضغ التقارير التي تدين الرّئيس الغابر و عائلته و النّبش في الماضي للإبهار و التّسلية ليست حرّية تعبير.
    بالأمس كانت المقالات تروي لنا كيف أنّ قردا ولد بستّة أصابع في "منتينغرو" و ها هي اليوم تؤثّث مواضيعها برسكلة قمامة التّاريخ.
    أمّا المثقّفون و الأدباء فقد سارع كثير منهم ،في سباق مسعور مع الزّمن ،إلى نشر مؤلّفات و دواوين شعر مادّتها الثّورة ؛مؤلّفات تجاريّة شاحبة خاوية،بخمس أسطر في الصّفحة و بخطّ كبير -  لزوم السّرعة - ،لا طائل من ورائها سوى ما قد يجنيه صاحبها وسط فوعة الذّهول هذه.
    كلّ علم مشربه على مرأى و مسمع من الشّباب..
    و هذا بالتّحديد ما خلّف لديهم مأزق ثقة و شعورا بالخسارة،و بأنّ الأمور لن تتقدّم لصالحهم ،و إلاّ بم تفسّر إقدام الآلاف على الموت في عرض البحر؟أليس إجماعا بالآلاف على أنّ مسار ثورتهم قد خيّب رهانهم.
    الثّورة إنجاز ،لا منجز يا سادة؛و أخطر ما قد نرتكبه في حقّ أنفسنا هو الاعتقاد بأنّها كذلك.
    أزحنا عقبة كانت تمنعنا من الحلم و رسم أهداف بعيدة من أجل حياة كريمة .و إزاحة عقبة هو دخول في مرحلة الثّورة بيننا و بين أنفسنا .
    الثّورة نموّ لا يجب أن يتوقّف.
    و ما قمنا به هو أنّنا اقتلعنا الطّفيليّات و غرسنا شتلة كانت محظورة،بعد أيّام تزاحمت أمامها كتل بشريّة لا تحصى للحصول على وريقة منها ،بدافع وطنيّ،على مرأى و مسمع ممّن غرسوها!
    أما كان أولى بهم أن يعفوا عن طفولتها و يشرحوا لمن غرسوها بدافع وطنيّ أكبر ما الذي ستثمره على مدى السّنين؟
    أما كان أولى بهم عوض النّزاع و التّحالف على اقتسام الشّتلة أن يجتمعوا بالشّباب و يبسطوا أمامهم ،و دون أغراض أو ميل لانتماء بعينه أو توجّهات مزاجيّة ،ما النّعيم الذي لن نرضى بأقلّ منه؟
    تدّعي الأنسجة الاجتماعيّة المنبثقة من الثّورة و لن أعدّدها بأنّها ستقدّم للبلد..عفوا و لكنّ ما نحتاجه هو نظام يسمح للبلد أن يتقدّم .
    و الثّورة أيضا كما هي إنتاج و مراجعة لأساليبنا في الإنتاج ،قطع مع النّصب التّذكاريّة و الألبومات العاطفيّة و الأطلال بما فيها الاعتكاف على تمجيد الثّورة نفسها  .علينا أن نحمل زعماءنا الذين أحببناهم في ذاكرتنا ،لا أن نلصقهم على الجدران كآلهة شرقيّة.
    الجدران بريد المنبوذين،و ولاؤنا فقط للبقاء العزيز و الفكر الحرّ دون غيره؛و حدّ السّاعة لا يفارقني ما قاله لنا أحد أساتذتي:
    - لن أصبّ في جماجمكم حلولا لكلّ شيء،سأرشدكم إلى سبيل تهتدون به إلى حلول!
    و هذا ما وجدت البسطاء قد اتّفقوا عليه ،مع حفظ الفرق في التّعبير؛كيف لا وهم قاعدة هذا الوطن و معدنه الخام و حدسه الذي لا يكذب؟
    و أقول لكلّ الذين يعرضون خدماتهم بدافع وطنيّ،دعوا حركة الإصلاح تسير كما ينبغي لبديهة التّكافىء من إعمار و تنمية.ذاك علاج.و الكمّادة الباردة تخفّض من الحرارة و لا تشفي بالضّرورة من الحمّى.و هبّوا لثورة وعي و اختلاف و جمال و نظرة بعيدة و حبّ،تدافع عن النّاس و تضعهم أمام غاياهم.
    علّموا النّاس عوض التّهافت على وظيفة بعد الدّوام،ما الذي سيصيبهم لو أنّهم استمرّوا في بيع عاصفتهم ببعض التّسيّب و انتهاز الجمود الأمنيّ لتفريغ شحنة الشّهوة في الانفلات من قبضة الفولاذ التي أدمت معاصمهم و أفلست مشاريعهم و قصمت ظهورهم بإجراءات إداريّة ميتافيزيقيّة التّعقيد ،لعقود خلت.قولوا لهم أنّ مثلكم لو فعلتم كمثل الذي ذبح بقرة ليشوي كبدها،أو كالذي باع بيته من أجل ثمالة ساعة.
    صوّبوا لهم مفهوم الحريّة ،و أنّ بإمكانهم أن يغنموا أضعاف ما قد تدرّه عليهم نشوة حمولة إطارات و وقود مهرّب باتت تسير دون عوائق.! 
    ما نحتاجه حضارة يكون أفرادها أحرارا بالقانون.
    و لن تقنعنا نزوة حريّة عابرة.
    يوم خرج الملايين في غارة على استبداد النّظام الأطرش كان سلاحهم،أقفاصا صدريّة و أذرعا ملويّة و دماء خثّرها الغلّ و الموانع و الظّلم المفوتر ،و وصمة العار التي تلازم أبناء الدّاخل و التي تورّمت حتّى صارت قنبلة عربيّة.
    و حذار  فالشّرارة لا تتكرّر،فإذا كان قد سقط على الأرض تفّاح بعدد النّجوم،فإنّ تفّاحة واحدة وقعت أمام نيوتن و حوّلها إلى ثورة علميّة.و قياسا لن يولد البوعزيزي ثانية،فلنحدّد مصيرنا و لتكن الصّحافة سلاحنا ،سلاح يقظة بالمعنى النّقدي و التّربويّ و الأخلاقيّ ، لا ألبوم ذكريات و مجرّد رزنامة لعدّ الأيّام.
    و أشفق على وطني لأنّه كأمّ أيتام وضعت مدّخراتها بين يدي أحد من ذوي الجلود النّاعمة ،فبدّدها على نفسه و طمع في جسدها.
    الحال ثورة و الطّابور طويل..
    و أعجب أنّ الواحد منّا صار يفرح لخبزة تمكّن من انتزاعها كبرهان فحولة ،و انتزع معها ابتسامة من شفتي زوجته و هو يلوّح بها من بعيد..
    آثار الرّصاص و الحرق بالقصرين تشهد على غارة الفردوس المفقود.أجوب الشّوارع و أدوّن النّصوص المبعثرة على صفحة الحيطان .نصوص مثقلة بالمعنى بتلقائيّة صادمة ،كتبت على امتداد الأشهر الثّلاث الأولى بعد رحيل الثّقب الأسود عن مجالنا الفلكيّ.أدخل إلى المقاهي و أسأل:
    - تاهت منّي ثورة يا رفاق،فهل من رآها؟
    و تأتيني الإجابة فوريّة،مروّعة كاستسلام متفق عليه ،حين أنتبه و أرى شاه الأسواق لا يزال يحصد الرّحمة من فوق الرّؤوس،يسبقه لسانه السّليط،و صوت طرقعة نعليه يجرّهما على الإسفلت بركاكة،مرفوع الرّأس كأنّه لم يلعق البدلات ،و لا دثّر غربان الأسطح من قبل .يمشي فخورا كأنّه قائد الثّورة ،لا من اندلعت الثّورة من أجل محقه..
    أبحث ،فلا أجد شرحا مقنعا إلاّ أن تكونوا قد بعتموه ذممكم مقابل بعض الأمتار الإضافيّة وسط الشّارع خانقين السيّارات خنقا.
    أسأل و أكرّر الرّدود في البيت خاوي البطن عمدا.
    يقول الجدار:
    "الثّورة تضيع و شبابنا يهاجر للموت" 
    و آخر يقول "الشّباب قبل الأحزاب"
    و أسأل ماجد الحلاّق عن رأيه فيما يجري فيجيب:
    - لا تصدّق ما يروّجون فوق الطّاولات البلّوريّة..لقد تخلّى النّاس عن المذهب الصّحيح،و إلاّ لأدركوا أنّها سحابة غيث أرسلها الله إلى دوابّه لترتوي و تنفض عنها الغبار،ثمّ ترحل بأمره إلى مكان آخر،ليعودوا تحت الرّدم من جديد و هكذا دواليك..و إن كان لديك شأن فعجّل بقضائه مادامت الفرصة سانحة.
    أي يأس هذا؟
    و أسأل بهاء الدّين ،عامل التّطهير،الواقف وسط حفرة تصريف فضلات،فيجيب:
    - لا ثورة،و لا ما يذكّر بثورة..
    سأبوح لك بسرّ،إن كان عليّ ،فقد ضمّنت على حصّتي من البداية ..كأن تقول شملتني الثّورة..و اقتنيت حاسوبا نقّالا لولدي بثمن فأس.
    يبدو أنّ ثورة الحديد و النّار،قد علّمتنا أن نضرب الحديد و هو ساخن!
    تفّاحة آدم لن تشبعك يا وطني الكبير،فلا تصغ إلى هواك فتخسر خلود الكرامة في حبرك و بين مفاصل صخورك و داخل أنفاق مناجمك و مداخن مصانعك و شعب مرجانك..
    طوفانك مربح أكثر من السّياقة دون رخصة،أو أن تركن سيّارتك كما اتّفق،أو أن تمطر موظّف الشّبابيك بوابل من الشّتم لأنّه ابتسم لزميله،أو أن تغلق طريقا بالحجارة لأنّ صوت المارة يزعجك،أو أن تبني كشك سجائر في متنزّه،أو أن تثير رعب الأطفال في حديقة بدرّاجتك النّاريّة الثّقيلة.
      بن علي هرّب أموالا و فرّ فهل هرب بأخلاقنا أيضا ؟ الإجابة لا بالطّبع،التّفسير بسيط و لكنّي سأحاول تعقيده؛ ثمّة فرق كبير بين أن تكون شجاعا أصيلا و بين أن تزول من حولك أسباب الجُبن دفعة واحدة.

      شغلنا الحاضر و القادم ،هو الصّدق في الرّسالة و الوحدة من أجل الحضارة و السّلام و قمع الذّاتيّة و التّعالي و هذه هي الثّورة،أمّا في حال آثرنا الفتات فسيكون مثلنا كمثل قوم تفصل بينهم و بين ضفّة الخصب هوّة سحيقة.مدّوا جسرا بعدما راح ضحيّته الكثيرون،و لمّا استوى حدّث كلّ واحد منهم نفسه بالعبور و ملامسة الأرض الأخرى،فرحة و فضولا و نكهة،فوجدوا أنفسهم و قد صعدوا فوقه كافّة.ارتعبوا.و لكنّ أحد منهم لم يتراجع أو يتنازل،عندها حدّث كلّ واحد منهم نفسه بقطع المسافة مرّة واحدة و ليتحطّم بعدها الجسر.و نسوا أنّهم خلّفوا وراءهم نساءهم و أطفالهم و مواشيهم.
    لو رضينا بهذا،فسوف لن يكون هناك عدوّ نحاربه آنذاك غير أنفسنا،و سنضطر للخروج في هبّة أخرى يكون شعارنا فيها:
    الشّعب يريد إسقاط الشّعب.




    محمد فطّومي
    11 نيسان 2011

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق