• الرئيسيّة

  • الأحد، 5 أوت 2012

    على حافّة الحياة






    قصّة لـ"كلود شنيرب"
    تعريب :محمّد فطومي



    يومها مات "جوناس إيفيان" للمرّة الأولى..باغته الأمر..كان يتجوّل بين أروقة سوق الزّهور،إلاّ أنّ واحدة من بائعات الزّهور المرحات لم تناده أو حتّى تحاول لفت انتباهه.و ليس هناك ما يوحي بأنّهنّ يتعمّدن ذلك.أصلا لا يوائمهنّ التكلّف.
     لا تبدو على "جوناس" ملامح مميّزة أو مثيرة للفضول.شاربان قصيران،و بشرة يميل لونها إلى الزّيتون الأخضر،و إن جاز القول بتحفّظ شديد و من بعيد بأنّ بدلته الرّماديّة غير المنتعشة قد تزوغ به عن كونه رجلا لا تلحظه الأبصار.
     ربّما كان غائبا ما يكفي ليبدو كأنّه انسحب من بنيته الجسديّة..أمّا بائعات الزّهور فقد أحسسن بذلك منذ الوهلة الأولى بفضل ذائقة الشمّ المرهفة التي خلّفتها لديهنّ حرفتهنّ.أو ربّما المراس و طول عشرتهنّ لزهور مقطوفة تجهل أنّها ميّتة هي التي كوّنت لديهنّ حدسا بإمكانه أن يلتقط شعاع الحياة الذي يفصلهنّ عنه.
     جلس على صخرة حارّة و تراءى له أنّه يمتطيها و أنّها تقلّه إلى أعلى ؛إلى فوق ؛إلى ما بعد السّماء. بلغ بخواطره إلى حافّة خياليّة لم يعد بوسعه معها أن يحدّد وظيفة هذا العالم الوضيع.
     يعلم "جوناس" جيّدا أنّه يجلس على رصيف سوق الزّهور،فقط ثمّة شعور غامض سيطر عليه ذاك المساء؛ باقة زهور واحدة كانت كفيلة بأن تجعله يغوص وسط خيط من العطور و غمرته نشوة عارمة.
     لم يكن كالعائد إلى الحياة كما يشاع،بقدر ما كانت حياته أصلا رتيبة،جامدة،لا حراك فيها.
      مرّ من أمامه طفل صغير. وحين وصل إلى مستواه توقّف و سأله عن الفرق بين المغنولية(1) و بين الكلب الأزرق النيليّ. لمّا لم يحظ بإجابة واصل طريقه..(ماذا يحدث..؟ لا شكّ أنّها واحدة من تلك الأحاجي البلهاء التي تحمل في مضمونها رسائل و مؤشّرات مخيفة).لم يكن دماغه يعمل بصورة طبيعيّة ،لذلك فإنّ السؤال الذي قذف به الطّفل إليه اتّخذ شكل رنّة جاوزت قدرته على التحمّل و الاستيعاب.
    ثمّ اختفى سوق الزّهور تاركا خلفه روائح من كلّ الأصناف.إنّنا لنحرص على وضع الزّهور فوق القبور دائما،كدأب ورثناه عن آبائنا و لكن لا أحد بوسعه أن يشرح لم ننثر حول الميّت بتلات كأفكار أو كأشياء مؤسفة.إنّ التّفسير الوحيد لظاهرة اختفاء سوق الزّهور في تلك الّلحظة هي أنّ جوناس أغمض عينيه.
      راح يمشي من ساعتها وسط بقعة قاحلة مجهولة دون أن يفهم ما الذي عزله فجأة عن شعبه و أهله الذين اعتاد دفء القرب منهم..هناك لم تكن ترى لا شجرا و لا حجرا و لا نباتا.
    منطقة تضيء بنور ليس له نقطة يبدأ منها أو كأنّه ممنوع من المصدر،ككلّ تلك الّلوحات الهولنديّة التي لا نعرف أيّ رسّام يقف وراءها..
    تمدّد على الأرض و نام أيّاما و ليالي لا يمكن عدّها ؛ هذا على فرض أنّ تقويمنا الأرضي جدير بثقتنا،  أيقظه ملاك بخفقة من جناحه.أصاخ السّمع  فتسلّلت إليه لغته الموسيقيّة الخرساء الحزينة، أصابته بكدر و امتعاض،و عصفت به رغبة ملحّة ليسأله عن الفرق بين المغنولية و بين الكلب الأزرق النّيليّ،ثمّ سرعان ما تنبّه إلى أنّ الإجابة في مكان كذاك لن تكون سوى
    " لا فرق".. تراجع الملاك.شاهده "جوناس" وهو يبتعد على امتداد المكان الاّمتناهي،و نادى ذكريات سوق الزّهور.تعلّق خياله بأروقته و مدرّجات العرض الحديديّة و البائعات و برك ماء البحر التي ألقى بها سمّاكو الميناىء.
     تفطّن "جوناس" إلى أنّه بصدد التّنازل عن واحدة من الحدائق الآسرة و الملائمة جدّا لعطور الزّهور أو على الأقلّ للنّور الذي تعكسه برك الصيّادين.
    ثمّ فتح عينيه من جديد،فألفى الصبّي ّالذي واصل طريقه،لا يزال على بعد أمتار قليلة..
    ..المناسبة القادمة التي سيموت فيها "جوناس" ، حتما ستكون الأخيرة.

                                                     ****
    (1)المغنولية :
    شجرة ذات أوراق دائمة الخضرة و زهرات كبيرة، جميلة، فوّاحة العبير، بيضاء أو صفراء أو قرنفلية أو أرجوانية تتفتّح في أوائل الربيع.


    مجموعة :
    Aux bords de la vie
    الإصدار سنة 1999

    كلود شنيرب : كاتب فرنسيّ (1914-2007)،أحد مؤسّسي مجلّة " الفصل الجديد" ،نشر العديد من المقالات النّقديّة الأدبيّة في الصّحف الفرنسيّة و غيرها،و تطرّق في دراسات عديدة له للسّينما و المسرح.
    شنيرب أديب جامع كتب المقالة و الرّواية و القصّة و المسرحيّة و الشّعر.
    شارك في الحرب العالميّة الثّانية .سجن و هرب مرّات عديدة و أُعيد.قلّدوه وسام الحرب و النّجمة البرنزيّة و ميداليّة الفارّين من السّجون.



    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق