• الرئيسيّة

  • الجمعة، 10 أوت 2012

    جلد الثّور



    نُشر هذا النص في مجلّة طيف الالكترونيّة قبل ثورة 17 ديسمبر بأربعة أشهر



     
     * يحدُث أن يُفني الواحد فينا عمره متحاملا على قتلة جدّه..

        لم يكن للسيّد صفوان شاربان قبل أن تلامس أقدامه المدرّج..و كانت له أسنان ناصعة يعتزّ بها،و لم يكن لما عداه من الرّجال سوى شعر مُرتجل لا يخضع لأيّ منطق ..ربّما لأنّهم لا يجدون الوقت الكافي لتصفيفه و العناية به و لا الرّصيد الكافي لتنسيقه،فمهمّتهم هي أن يصنعوا الظّروف الطيّبة و يغتربوا داخلها جياعا، مهمّشين،أقزم من أعقاب سجائرهم،يكاد الخجل يفتك بهم ،عفّة ،كلّما تسلّلت إلى وجوههم الدّافئة سحنة صقيع،أو بذخ مسكين ..و كان السيّد صفوان و عائلته الشّريفة يسكنون أحد الأحياء ،فأصبحوا يسكنون أرقى الأحياء.و التفت إلى الوراء و إذا ببقيّة الرّجال يقطنون أبدا داخل الضّريبة و الصّفيح،لا يلبث الواحد فيهم أن يؤدّ دينا حتّى يبرز له آخر،سعادتهم هلام،و مصائبهم حقيقة.و منذ ذلك اليوم لم يكرّر الالتفات إلى الوراء أبدا . ربّما لذلك السّبب نبت الشّعر في وجوههم و رؤوسهم عشوائيّا مبعثرا،عكس ما أرادوا.و لكن عند أوّل شدّة عنيفة منه سينتبهون حتما إلى أنّهم كانوا إنّما يُطعمون عدوّا و أنّه الغبن يطفو على صفحة صاحبه ،و سيزيلون أثره في الحال و سينتقمون..هذا أكيد..
        إنّهم لا أكثر من أخيلة لرجال أبت مدنهم إلاّ أن تبني بهم قناطرها و سدودها و رموزها و أنصابها و ملاهيها و من ثمّ تحيلهم على المجاز و ترسلهم إلى خنادقهم من جديد..إنّك لتشرب ماء السّدود فترتوي و لكن ما إن تمرّر يدك على أحدهم مصافحا حتّى تخترقه يداك،كهيكل ضوئيّ ملوّن مثّلّث الأبعاد.تلك المدن التّي رصّفوا بقلوب نقيّة بيضاء حجارتها فيما مضى،هي بعينها باتت اليوم دهاءً تتعقّب الغزال خطو حلزون ،منذ علّمها السيّد صفوان و بقيّة  الغيلان أن تفرّق بين الفرز من عدّة ،و تكرار ذات الاسم على ورقات مطويّة عدّة لتأتي البنيّة البريئة وسط جمع من الدّمى العملاقة و تستلّ من بينها الفائزين طيلة القرن تباعا،ثمّ  مباشرة يمرّرون لهم على صفحاتها الغبيّة ومضة لمسحوقه السّحريّ و هو يعالج ما استعصى من دراهم في جيوبهم الهزليّة ..ها هنا منزلكم فلا تبرحوه؛أنتم في خدمتي ، و خدمة مصالحي و ذرّيّتي ما حييت،فيبتسم الواحد منهم لمدينته حنوّا و صفحا و عتبا،تماما كما كان سيفعل لو أنّ أحد أبنائه عضّ قلبه..هؤلاء لا أمثلة لديّ عليهم،و لا تقل لم أبحث..بلى بحثت طويلا و لكنّي لم أعثر ،و أنا أتصفّح أيّامنا التي أينما قذفت بخيالك في حقلها أصبت واقعا،على من تجاوزت قصّته مكتوبة السّطر الواحد:إنّ المدن ما راودك و أنت تُطرد منها، فليلبسني بلدي إذن مظلّة من سعف ،و ليحتمي بي من الحرّ و القرّ، مادمت غير قادر على توفير ثمنها لعلّي أتوسّمها و أتباهى بها أيّام الزّينة أمام بقيّة الأقطار..حقّا لا أجد ما أصنعه من أجلهم أكثر من ترديد أنشودتهم تلك؛أنا البائس الذي لا يملك النّفع لنفسه،يحيى و يموت متمنّيا أن تدخل الأمطار يوما في عاداته..
       و لكن ،في المقابل ،بوسعي الحديث طويلا عن السيّد صفوان و عصابته،و عمّن تصنعهم الظّروف و تؤاتيهم الهزيمة و النّكسة عموما،كرابطة عنق أو حذاء مستورد،و عن أناقتهم و البهجة التي يُغدقون بها على أبعد الأقارب ساعة اغتصبوا منّا رقعة جلد الثّور و فرشوا بها صالة قصر النّزهة و كيف تُزفّ إليهم خيبة الشّعب كخبر سعيد أو ليته وباء يغربل النّاس فلا يرشح سوى المنعّمون فوق أرائك من الجلد الطّبيعيّ الخالص لآدميّين يعبّدون الجبال دون مقابل،و لا يزالون حتّى ساعة ذبحهم يتقنون إنجاب العمّال و الابتسام دون أفيون..ألم أقل لك إنّي عاجز عن العثور على أحدهم..و كيف لي أن أفعل و جلودهم تحملها السيّدة آمال زوجة السيّد المحترم صفوان عبد البرّ حقيبة تسع للعديد من الأغراض و المراهم و الأكياس الأخرى دون أن تتقطّع..الأكياس؟فيم السّؤال؟ حسن ..بداخلها مستحضر لن تُبالغ الصّحافة كثيرا في عتابها على حمله في حال ضبطت معها،سيقولون :– و ما أشدّ ما يُدهشني ترويضهم للمصطلحات – مجرّد أعشاب طبيعيّة مسلّية،و ستُلقّب التُّهمة آنذاك بتعاطي بضاعة غير خالصة معلوم الجمارك !،و يمشي فوق جلودهم السيّد صفوان أيضا حصيرا أصليّا تلقّاه من صديق له جمعته به هواية الصّيد ؛مع كلّ طلقة ،فرصة عمر..من قال أنّ الفرصة تطرق باب صاحبها مرّة واحدة في العمر..سينتعش كثيرا و هو يمشي فوقها و سيتبجّح باقتناصها متباهيا بما تٌقدّمه له من وجاهة مُستعارة، هو الذي مكث طويلا في بيته ينتظر حتّى يخرس أزيز الرّصاص،و تسنح الفرصة ليُطلّ برأسه ،فتراه غدرا يحتسيها جاهزة مبرّدة،و تراها تواطؤا تتدفّق و تعلو وجهه كنبيذ نام في القبو حتّى تبدّلت العملة؛وقتها فقط يُطلق شاربين.و يرتقي درجات المنصّة و يُقرّر:
    - تحلّقوا حولي أدثّركم و نزدهر،أحتاجكم،أحتاج أصواتكم..سأنفخ الحياة في أحيائكم الرثّة.
    و ترجمتها كونوا لي أنتم و متاعكم،و لوّثوا ما استطعتم،فليس في السّوق ما هو أقدر على إحداث الرّغوة كصابون زوجتي و مساحيقها العجيبة.. أفسدوا ،و خرّبوا..ردّوا غيظكم في كراسي الحدائق و الملاعب و مصابيح الشّوارع،و إسفلتها و إشاراتها المروريّة..اكتبوا على الجدران ما شئتم.. سنصلحها..لا عليكم،مصانعي و مقاولات صهري في خدمة الأهالي..
     جاءه ذكر بعد ثلاث بنات و طول انتظار ،و ليس الذّكر كالأنثى..حدث عظيم يستحقّ أن يطلق لشاربيه العنان أكثر من أجله.ثمّ بعد ذلك صار حاكما،فاستطال الشّاربان أكثر دون أمر من سيّدها،و لم يمانع و عدّ ذلك مؤشّرا ينبؤ بخير كثير..ثمّ تدفّق الخير،سيلا لا رادّ له،ربّما السّعد الذي جلبه الولد ،أو ربّما الحَجّة السياحيّة التي أدّاها و التي لم ينله من فوائدها المحسوسة حال انتهائه من شعائرها سوى شبر إضافيّ لشاربيه، و وُهب ألف قصر و ألف سيّارة و ألف سائق باستطاعة رقبة الواحد فيهم أن تدور إلى الخلف دورة كاملة لو أراد ،و ككلّ أصدقائه صار له أيضا أسطول طائرات لتهريب العرق،و عشرين مليون زيتونة فضلا عن بحر و قبّعة قماشيّة حسب التّقاليد ،تماما كالتي كان يحملها المستكشفون الأنجليز عقود نهب الآثار بحجّة دراستها ،و صار لديه يخت أبيض سمّاه "حرّيّة"..و كان كلّما تطاول في المدرّج كلّما ازداد شارباه طولا.
        و كبرت البنات بسرعة و صرن صبايا، التحقت كبراهنّ بجامعة خاصّة في كندا،فأجاب شارباه نيابة عنه فخرا ،و امتدّت إلى الأسفل ذراعا آخر..و حصل دون نيّة مسبقة على نابي فيل آسوي و نمر حقيقيّ محنّط،و إبريقا صينيّا من عهد العائلة الحادية عشرة،و شارك بقّالا في دكّانه خوفا على مصلحته، خصوصا و أنّ  جبهته بدأت تبشّر بقرون.و غنم أيضا محض فوز بريء من إحدى طاولات القمار على سيف هارون الرّشيد ،و ارتقى السلّم أكثر و كان كلّما صعد أكثر كلّما ازداد شارباه طولا..لم يعارض نموّها بل باركه بالعناية و لم يكن ليبخل عليها بأغلى أصناف العقارات و الزّيوت المستوردة،و صنع لها جيوبا خاصّة داخل معاطفه ،و بنطلوناته أثناء الصّيف..إنّها هي بعينها لو جاز لي مدحها الجيوب الحسّاسة التي استقالت عن مهمّة حفظ النّقود لمّا ناءت بحملها،و تنازلت عليها نبلا لبنوك سويسرا..و هناك من رجاله من تطوّع لينفخ التّنين المطّاطيّ الأبله لولده الصّغير طيلة الصّيف ،تماما كما تطوّع هو أن ينفخ الحياة في أحقر الأزقّة.لكنّ نافخ التنّين صدق،و نفخ بإخلاص حتّى كادت أوداجه تتمزّق،حتّى أنّ شاربي السيّد صفوان أشفقا عليه و كافآه بشبر طول زيادة،فيما كذب السيّد صفوان و اكتفى فقط بتسمية كلّ بيت في المدينة بلوحة نحاسيّة تكفّل بجلبها بنفسه،كي لا تُخطأ رسائل الأحبّة  طريقها إلى الأهالي،و ترجمتها: الفواتير..و طاف على الّلوحات طائف ليلا و النّاس نيام ليسرقها جميعها ،ممّا اضطرّ السيّد صفوان إلى إعادة الصّفقة من جديد و لكنّه استبدل النّحاس بالرّخام هذه المرّة.
    و استمرّ هو  و شارباه في تسلّق السلّم،و كان كلّما ارتقى درجة،ازدادت طولا و هيبة و رجولة.إنّ الرّجولة تقاس بعدد الدّرجات على سلّم الشّوارب.
     و يوم صارت للسيّد صفوان عشيقة ككلّ الأصدقاء،فرح كثيرا و رقص أمامها،و عاد النّوم يطرق جفنيه من جديد دون منوّم ،و أخذه الحماس أبعد فأقدم بعدما عصف به التردّد سنين عديدة على إنقاذ لوحة فسيفساء بيزنطيّة عملاقة من متحف إحدى البلدات التّابعة لعطفه ،و أكرمها بالإقامة في قصر النّوم و كفلها و عدّها واحدة من أبنائه ..حينها خرج شارباه عن السيطرة و امتدّا حتّى لامسا القاع..و بخيط وهن يقف بين الزّور و البراءة ظلّ صفوان و تابعوه و الأذيال يستدرجون الذّهب و ما إليه من غنائم،و يُفحمون المُستنكرين ،فلست تمسك عليهم برهانا و ليس يبغي شقّ على الخيط.تماما كشمس صيف ثاقبة لا ترضى أن تسطع على زجاج الحافلة ،و الحيلة معدومة ،إلاّ عبر الشّريط الضيّق الذي يفصل السّتائر و تنتهي عنده صلاحيّة كليهما على السّتر أكثر..
          استمرّ السيّد صفوان في نفخ القهر..و خرج غسيله اليوميّ  لأسنانه من عاداته كلّيّا..
       و فيما كان يتلذّذ النّوم دون مهدّئات كما تمنّى دائما أن يفعل،عادت ابنته الصّغرى عقب اللّيل بصحبة صديق لها بعد سهرة أنفقت فيها ضعفي دخل مدرّسها الشّهريّ..فتحت البوّابة الضّخمة للفيلاّ بجهاز تحكّم يتدلّى مع مفاتيحها..نزلا من السيّارة و ترجّلا..سمع الكلاب فارتعب..ضحكت و قالت:لا تخف أيّها الجبان إنّها مربوطة..قال منزعجا:إنّ سيّارة والدك هنا..هو في البيت إذن؟عندها ابتسمت بثقة و أطلقت شعرها بغنج و ارتياح و أمسكت بيده تجرّه و بمرح قالت :اطمئنّ و لا بأس عليك..إنّ أمّي لا تنس أن تقيّد بابا من شاربيه على سيقان تختهما أيّام السّبت و الإربعاء...


    محمد فطّومي
    20-8-2010
                                                                                                                          

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق