• الرئيسيّة

  • الخميس، 9 أوت 2012

    الدموع




    قصّة لـ" ألفونس آلّي"
    تعريب : محمّد فطّومي



    يحجب نفسه خلف اسم مستعار:"بالتزار".كان شابّا في مقتبل العمر،و شخصيّة ذات شهرة واسعة في الأوساط الجامعيّة الفرنسيّة آنذاك..بدافع ودّ و صداقة و عرفان، خصّني بعمل أنيق و ثريّ جدّا،كان قد انتهى من تأليفه،و هو عبارة عن مادّة أدبيّة موضوعها الدّموع.
     نَشْرُ الأثر برمّته سيشوّه بداخلي ميلي الفطريّ للهزل و حتما سيخرج بي عن عالم الدّعابة الخفيف الذي أحبّه.لذا سأكتفي بتلخيصه محاولا قدر الإمكان الحفاظ على نكهته النّادرة و فرادة الإبداع الذي يحفّه.
     كان السيّد بلتزار – لنحافظ له على هذا الاسم مادامت تلك رغبته - ،أستاذ فلسفة عملته الأثيرة :" لا تحصل الفائدة إلاّ بطرح الأسئلة ".و كان يطرح آلافا منها، لكن أبدا لم يكن يهتمّ بالبحث لها عن إجابة.كأنّ بثّ الحيرة في ترتيباته غاية في حدّ ذاته.
     قال لطلبته يوما في آخر المحاضرة:
    - هل فيكم من تساءل يوما و هو يبتلع دموعه :لم طعمها مالح؟
    و انتهى الوقت،و انصرف الأستاذ،و كان ذلك آخر عهد له بتلاميذه.
    و انطلق بلتزار الشابّ فورا يبحث عن تفسير مقنع للمعضلة،و اتّخذ منها قضيّة تحدّ و تسلية في آن،و أقسم أن يفكّ الّلغز مهما كلّف ذلك.تفرّغ بلتزار تماما و انكبّ يعمل.فتّش مكتبات بأسرها،قلبها رأسا على عقب،اطّلع على جميع مراجع "وونت" لفزيولوجيا النّفس،و دروس "بويزو" لميكانيكا جريان السّوائل،و قصائد "لؤلؤ و دمع" للشّاعر النّرويجيّ العبقريّ "بيجورسن" ،و انتبه في النّهاية أنّ رهانه خام و أنّ أحدا لم يتناوله بالدّرس من قبل لا من قريب و لا من بعيد.
    عقول سطحيّة مائعة أجابت بأسلوب رخو كسول:
    - و لكن ،عجبا،الدّموع مالحة لأنّها تحتوي بنسبة عالية على الأملاح القلويّة.."
    - نعلم ذلك أفضل منكم أيّتها الرّؤوس السّخيفة.القضيّة لا تكمن في كيمياء الدّموع و مقادير المكوّنات.السّؤال الحقيقيّ أعمق من بذلك بكثير: لم منح نظام الطّبيعة المعقّد،المتقن المتفهّم لاحتياجات أعضائه و عناصره ،الدّموع مذاقا مالحا دون المذاقات الأخرى؟هذا ما يجدر بنا السّعي للعثور عليه.
    اتّبع بلتزار منهجيّة إقصاء ما لا يتماسك به اليقين،بعدما اتّضح له هدفه بدقّة ،و حدّث نفسه:
    لنبرهن أوّلا على حتميّة أن يكون للدّموع مذاقا ما،ثمّ بالتّالي نبيّن أنّ كلّ مذاق خلاف المالح لن يقدّم سوى مساوىء تتخطّفها الرّداءة من يد الفظاعة.
    بالتّأكيد للدّموع طعم ما و إلاّ هل تتخيّل مثلا أمّا تذرف فوق جثّة ولدها دموعا سمجة كالماء لا حرقة فيها؟
    لا ،و ألف لا..ما رأيكم ؟هل يصحّ ذلك؟طبعا لا.
    إذن للدّموع طعم ،و هو بالضّرورة مالح،و هل بيدها أن تكون حامضة؟هل فكّرتم عندئذ مالّذي كان سيحلّ ببعض شخصيّات المجتمع الراقي من غيظ لو أنّ عشيقاتهم المشاغبات رششن على وجوههنّ ،تغنّجا، حامضا أزوتيّا أو حتّى حارقا ؟ بنيّة استمالة جيوبهم؟ثمّ إنّهن تعلمن جيّدا خطورة ذلك على غشائهنّ البصريّ الحسّاس.الخيانة الزّوجيّة ظاهرة طبيعيّة ثابتة،و من غير المعقول أن تقف الطّبيعة عقبة أمام سنّة شائعة.
    لن تكون الدّموع مرّة بأيّ شكل من الأشكال.فلقد استمدّ تراثنا الأدبيّ العظيم من الدّموع المرّة مادّة استعارة واسعة.لا سيّما أنّ المرارة التي ما انفكّ عباقرتنا يزخرفون بها كتاباتهم مجازا بحتا.لن يكون هناك مجاز أو ما يذكّر ببلاغة لو أنّ الدّموع مرّة بالفعل،و سوف لن يتعدّى الأمر آنذاك مجرّد وصف بدائيّ للأشياء.و سيحرم رواتنا من كلّ مجد أو شهرة و سيخسرون صفة الفنّ و فرص إمتاعنا.و من يدري لعلّ صديقنا "أونيي" العظيم لا يدين بأروع صفحاته الأكثر تأثيرا على النّفوس إلاّ لاكتشافه المبكّر بأنّ مضغ المسائل و تكرارها الخاوي هو أكثر آفات البشريّة فتكا بالأدب على الإطلاق..فهل كان نظام الطّبيعة متقن الصّنع ليقف عثرة أمام الّلغة الفرنسيّة؟
    غير مقبول أيضا أن يكون للدّموع مذاق حلو.و إلاّ لما توقّف الأطفال عن البكاء ساعة.و سنكتفي بضرب الصّغير "إميل" عوضا عن مدّه بقطعة نقديّة لاقتناء الحلوى.بل سيكون ذلك ادّخارا مثاليّا على حسابهم..هل تصدّقون أنّ من الحكمة أن تسلب الطّبيعة من الآباء قدرتهم على التّربية؟
      و واصل السيّد بلتزار عمله على هذا النّحو المنطقيّ الصّارم.و شرح خطوة بعد أخرى بثقة و سلاسة عجيبة كيف أنّ مذاق الدّموع لا يحتمل أن يكون شبيها بطعم الجبن و لا الزّيت و لا الفلفل  و لا التّبغ ...
       و كانت خلاصته بجدّ واحدة من أجمل ما حبّره كاتب فرنسيّ طيلة العشرين عاما المنقضية.        

      
    ****
     Les larmes
    من مجموعة
    Deux et deux font cinq
    ألفونس آلّي كاتب و صحفيّ نرمانديّ ساخر (1854-1905)
    يعتبر آلّي من أكبر الأدباء المهتميّن بنظريّات التّجريد بين معاصريه.
    أطلق آلّي آخر نكتة له حين أسرّ لصديق حميم أنّه سيموت غدا و كان يعاني فعلا من اضطرابات في رئتيه،قال:" غدا أموت،ستجدون ذلك مضحكا،لكنّي لن أضحك..غدا أموت ".
    و مات في اليوم الموالي.

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق