• الرئيسيّة

  • الأربعاء، 11 جانفي 2017

    مقال نقدي حول مجموعة (جل ما تحتاجه زهرة قمرية) / صحيفة العرب

    قصص تونسية تغامر بالكلمات وراء أثر الفراشة

    • القصة حدث غريب كما يعرّفها تشيخوف، وهي أن تختار قول الأشياء من خلال حدث، وبالتالي فإن القاص هو مبدع اختار أن يكون نصّا، وفي هذا الإطار تشهد القصّة التّونسيّة بروزا لأسماء جديدة لها فرادتها وطرافتها من حيثُ أنماطها الكتابية والمناخات التي تشكّلها كتابا بعد آخر.

    العرب أشرف القرقني [نُشر في 2017/01/12، العدد: 10510، ص(14)]

    شخصيات مختلفة مأهولة بعوالم مغايرة (لوحة للفنان نذير إسماعيل)

    تنسج المجموعة القصصية “جل ما تحتاجه زهرة قمرية”، للكاتب التونسي محمد فطومي، في تعاضدها، عالما صغيرا ومخصوصا، تظلّ تنفتح منه كوّة إلى أسفل تشير إلى الأعماق الممكنة والمتاحة والتي نقدّر أنّ صاحبها سيمضي فيها كتابا بعدَ آخر حفرا ونحتا لصوت فنّيّ أصيل.
    الهامشي نمط الكتابة
    المجموعة، التي تضم واحدة وعشرين قصة، والتي يهديها صاحبها إلى القارئ معرّفا بألف ولام ومفتوحا على الأمكنة والأزمنة المختلفة، تتّسم بلغة تتماسّ مع الشّعريّ دون أن تغادر طراوتها السّرديّة التي من خلالها يبنى الحكي وتتقدّم الحبكة. وعنوان الكتاب يظلّ شاهدا على هذه الشّعريّة دون أن نحسم في دلالته أو مدى نجاعته في اختزال دلالات الكتاب ورؤيته.
    عنوان مفتوح على إمكانات تأويليّة شاسعة لعلّها ليست شيئا آخر سوى انفتاح الإمكانات الفنّيّة لتجربة قصصيّة تفتتح أثرها الأوّل بملامح مميّزة.
    المجموعة تنسج عالما صغيرا ومخصوصا تظل تنفتح منه كوة إلى أسفل تشير إلى الأعماق الممكنة والمتاحة
    يملك السّارد -قناع المؤلّف- في أقاصيص المجموعة صوتا هادئا ورصينا. هو لا يصرخ بشعارات وإنّما يحياها على نحو مختلف في نسيج النّصّ. الشّخصيّات التي يحدّثنا عنها جميعها شخصيّات ثانويّة أو هامشيّة من حيث حضورها في الفضاءات التي تقيم بها. فمن نحّات إلى شاعر إلى فنّانة تشكيليّة إلى رجال غريبةٌ سماتهم، لهم مواهبُ خاصّة تظلّ تضفي عليهم دلالة الفنّ وإن على نحو سكوتيّ. هذه الشّخصيّات المختلفة المأهولة بعوالم مغايرة وسط المدينة أو البلدة تتحرّك في معظم الأحيان جهة اليمين، خلف الخطّ الأحمر الذي يحدّ الهامش عن المركز في كرّاس الوطن.
    يختار محمّد فطّومي، في مجموعته القصصية، الصادرة عن دار “زينب للنشر”، بتونس، ألاّ يصرخ بهذا أو غيره كما يفعل الكتّاب الذين يحبّهم المركز ويصطفيهم. هو يومئ إلى حدث صغير جدّا وينفخ فيه من روحه حتّى يصير عالما برمّته. وتكون له شجاعة أن يراهن عليه وسط الأبواق الكبيرة. يقول في قصة (المتأنقون) “شدّت انتباهي تلك الحركة التّافهة التي قام بها. لم يتجعّد قميصه من جهة الحزام، بل ظلّ موتورا كما لو أنّه يرتدي بدلة غوص. سخيف أن أذكر ذلك، لكن ها أنا ذا أفضي به حدثا عظيما قد يغيّر يوما ما شكل العالم”.
    يبدو كما لو أنّه يقيم في استعارة أثر الفراشة الفيزيائيّة. يحرّك جناحي فراشة في الصّين ويُحلِمُنا بتحوّلها إلى عاصفة في أقصى الجهة الأخرى من الأرض سواء كان ذلك الآن أم في آن آخر يلي. يفاجئنا سارده بأفكار مباغتة وتأمّلات في مثل هذا. فيلقي علينا جملا ملغومة وقادحة للتّأمّل “لم أبحث من قبل عن شروح لكلمة ‘الآن’ كما هو مطروح الآن. كما لا أعرف عنها غير أنّ ما يليها نسخة أكثر فأكثر تشوّها”.
    هناك تنويع داخليّ بين القصص التي تتضمّنها المجموعة، لكنّ الملاحَظ في ما تشترك فيه، أنّها تستند في الخلفيّة إلى غلاف شفّاف ممّا هو اجتماعيّ وسياسيّ. تدور أحداث القصص في مسرح أو بيت زوجيّ يزوره شاعر، لكنّ الحبكة في وحدتها تمثّل استعارة تشير إلى التّحوّلات التي شهدها البلد وتغرز في لحمها مخلبا ناقدا.

    سرد يسطر الخط الأحمر

    كود للجميع ولا لأحد
    في قصّة “المزاد” يحاول زوج أن يقتني جميع الأشياء التي كانت من قبل في السّاحة والتي تعرضها البلديّة الآن للبيع عن طريق المزاد. الزّوج متعلّق بتمثال الدّلفين الذي أهداه له ولزوجته، شاعرٌ استضافه في بيته إذ قال له “كدتَ تنسيني الهديّة سيّد عبدالرّحيم. أرأيتما ساحة النّافورة تلك. إنّي أهديكما إيّاها. ستكون أنت الدّلفين الباسم والسيّدة جليلة الماء الرّاقص المنبعث من فمه…هل تقبلانها؟”.
    يهدي الشّاعر ما لا يملكه، السّاحةَ العامّة. أو لعلّه يملكها على نحو مّا. لا يمزح سيّد عبدالرّحيم مع الاستعارات والمجازات. لذلك يحاول ما استطاع أن يشتري أشياء السّاحة المعروضة في المزاد الذي يقيمه “متعهّدو بلده الجدد”. وإذ يفشل يعود في عياء وحزن إلى البيت. تقول له الزّوجة “لو لم تكن قد نسيتَ لما حمّلتَ نفسكَ كلّ هذا العياء..”، باهتمام سألها “نسيتُ ماذا”؟، أجابت “أنّ السّاحة لنا دائما”.
    قصّة “الكود” في مجموعة محمّد فطّومي تمثّل بنجاح نموذجا لخياراته الفنيّة وخصوصيّته في كتابة القصّة. هناك حبكة رمزيّة تصاغ في لغة تتشكّل عند الحدود القائمة بين لغة الشّعر ولغة السّرد دون أن تغادره النّبرة السّاخرة الرّصينة. إنّها سخرية تتقدّم مثل ظلال خافتة للكلمات حتّى تصير شيئا فشيئا كلّ ما يرشح في الفضاء موجّهة مخالبها لتشوّهات عالمنا الكثيرة. “الكود” رقم سرّي لاستخدام الآلة الطّابعة من المفترض ألاّ يعرفه سوى الوزير وكاتبته. هذا هو البروتوكول الذي يقدّسه الجميع ظاهرا وادّعاء وينتهكونه على حدّ السواء. “الوزير لن ينزل من عليائه لينسخ ورقة لكنّه البروتوكول”. حرفيّته تجعله يخبر المستشار. “والمستشار لا يخفي سرّا عن سائق الوزير لأنّ السّوّاق في الموروث الإنسانيّ رفاق مخلصون…”.
    ينتشر الكود بين الجميع. كلّهم يعرفونه، لكن لا أحد منهم يستطيع أن يغادر مسرحيّة جهله بطبيعته. فيتكلّفون القصص والحيل حتّى يستخدموا الآلة الطّابعة دون كشف حقيقة معرفتهم به. “الكود” مثل الحقيقة يعلمها الجميع ويخفيها الجميع عن بعضهم احتراما للزّيف المقدّس. وهو مطوّق بالبروتوكول، الصّنم الذي يبطنُ له الجميع خلافَ ما يظهرون. يذهبُ فطّومي بحبكته وسخريته إلى آفاقها البعيدة. فيطالعنا سارده مغرما بالاستنتاجات الرّياضيّة “كافّة الموظّفين يعرفون ‘الكود’. مئة وثمانية عشر منهم يجهلونه. هذا يعني إمّا أنّ اثنين تساوي مئة وعشرين أو أنّ اثنين لا تساوي مئة وعشرين ناقص مئة وثمانية عشر. الآن إذا أضفنا إليها عنصر الشّغب المتمثّل في عدم انتقاص مستوى الحبر، لأصبحت لدينا في الملخّص كارثة وطنيّة: العدد الحقيقيّ للموظّفين هو صفر”.

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق