• الرئيسيّة

  • الثلاثاء، 10 جانفي 2017

    حكم الله / شاهر جوهر - سورية


    نُدف الثلج الكبيرة تتساقط بغزارة حول مخفر الشرطة ، ترسم طبقات رقيقة فوق سطح المخفر والبيوت والأشجار المحيطة ، بعد لحظات ستركن سيارة الشرطة في المكان، يترجّل منها الشرطي "إيوان" وسيّده "معروف"، قبل أن يُخرجا شاباً مذلولاً من الباب الخلفي للسيارة، غرس "إيوان" بيده الثخينة نطاق سروال الشاب من الخلف وأمسكه بعزم، في حين سحبه "معروف" من ياقة قميصه بقرف وقذفاه في زنزانته .
    كان عوشر فلاحاً بسيطاً عشرينياً ناحلاً ، نمى الشعر بتعب على وجهه المرعب، وانسدلت من تحت منديله المتّسخ الذي يغطي رأسه خصلة شعر طويلة متلبّدة يبدو أنها لم تمشّط منذ زمن بعيد ، في حين دَكّ نهايات سرواله المرقّع في جزمته الطويلة التي فاخت منها رائحة زبل البقر الزّنخة.
    في الزنزانة سجين متأنق في منتصف العقد الثالث من العمر ، يلف ساق فوق ساق ويحدّث نفسه طوال الوقت، وبين فينة وأخرى يفرّ واقفاً ليدور في زاوية الغرفة ، وتحسبه يضرب أخماساً بأسداس ويستغرق في تفكيرٍ عميق .
     
    جلس عوشر بالقرب من الباب كليلاً، يلتفت حوله ببسور ، ثم يفكر بنفسه  "ما الذي فعلته بنفسي ، ليتني لم أسمع كلامها.. "
    أشار إليه السجين بيده :
    - هيه أنت ..؟
    بنزق رمقه عوشر :
    - هل تحدثني ..؟
    نظر إليه السجين ثم أخذ يقلّب ناظريه حوله :
    - وهل يوجد مجرمَين غيري وغيرك في هذا القصر المنيف ؟
    - نعم يوجد أصدقاؤك العفاريت من تكلمهم منذ دخلت "قصرك" اللعين هذا .
    ضحك السجين بطريقة تنم عن اعتلال في الشخصية :
    - هئ ، هئ ، تعال ، تعال واحكِ لي حكايتك .
    سمع عوشر كلامه ومزاجه المتقلب وإلاّ أنّه مكث في مكانه دون أن يراعي دعوته. تململ الرجل ، ثم اقترب منه ومدّ يده ليصافحه :
    - اسمي "أدهم" من العاصمة وأعمل محامياً ، أسكن في هذه البلدة منذ سنة تقريباً ، أي منذ أن قامت القوات الحكومية بتهجير سكان بلدتي . وأنت ؟
    استوى عوشر في جلسته ، وقام بمصافحته بتثاقل :
    - وأنا عوشر من سكان هذه القرية.
    - مممم ، يبدو أن جنايتك كبيرة حتى أنك لا تقوى على الكلام . أنا محامي يا هذا وأعرف جيداً قوانين هؤلاء الرجال ، تكلم وسأساعدك ... هل هي المرة الأولى التي تصبح فيها سجيناًتُسجَنُ فيها ؟
    - نعم .
    - وماذا فعلت ? هل قتلت ، انتهكت الأعراض ، اعتديت على أحدهم ؟
    - بل سرقت .
    - أوه ، هذا فعل سيء يا رجل ، على كلٍ حدثني بالتفصيل حتى أساعدك ، هيا لا تفرغ صبري ، أنا "أدهم جاد الله" أكبر محامي في العاصمة قبل الثورة بأعوام ، كما أنّي كاتب وأديب ، هيا تكلم لعلي أجد في قصتك ما يستحق الكتابة وأساعدك .
    كوّر عوشر جسده من البرد ، ثم أخذ ينفث أنفاسه الدافئة في يديه :
    - لم أكن أريد فعل ذلك صدقني ، زوجتي هي السبب .
    - لا تحدثني عن النساء يا أخي ، أعرف أنهن ماكرات في كل شيء ، حتى أني لأعتقد جازماً أن هذه الحرب هن من أشعلنها .

    سكت أدهم قليلاً ثم أخذ يتأوه :
    - أهٍ ما أجمل النساء .. أكمل يا رجل أكمل ، وما علاقة زوجتك بوجودك هنا .
    - هي طلبت مني أن أسرق كيسين من الحصى الموجودة على أطراف الشارع حتى أفترشها لبقرتنا في الزريبة ، فهذا الشتاء قاسٍ وزريبتنا تكاد تغص بالطين .
    - أوه ، هل تقصد أنك سرقت من الأملاك العامة.. يا إلاهي !؟
    - جمعت كيسين فقط من الحصى المتناثرة على أطراف الشارع ، فهو زائد عن حاجة الشارع ولم تقل البلدية أن ذلك مال عام . كما أن رئيس البلدية قام ببناء بيته الجديد من المواد المخصصة لتعبيد الشارع ، زوجته قالت لزوجتي ذلك ، والكل في القرية يعلم ذلك ، لكن لا أحد يستطيع ذكر الأمر جهارة لأن رئيس البلدية مدعوم بفصيل عسكري كبير ..
    دمدم أدهم ، ثم فرّ واقفاً ، وعاد يتجول في الزنزانة :
    - أعذرني يا هذا لا أستطيع مساعدتك ، فهذا لا يبرر لك السرقة ..
    قال ذلك وعاد إلى مكانه في زاوية الزنزانة . سمع ذلك عوشر ، وزحف بالقرب من أدهم :
    - وهل جنايتي عويصة إلى هذا الحد ? أنت محامٍ وتعرف في القانون ؟

    عاد أدهم للتأوه من جديد :
    - آه ماذا أقول ، مسكين أنت أيها الشاب .
    قال عوشر وفي لهجته تسخيف لكلامه :
    - سأسجن ؟ سأدفع لهم ثمن الكيسين وتنتهي القضية .
    - أنت تسرق المال العام ، هل تعي ما أقول ؟ و ستحاكم وفق قانون ديني لا لعب فيه ، أتضن أنك لازلت محكوماً بأهواء وقوانين الحزب الحاكم ، سلطة الحزب انتهت في هذه القرية و أنت تعيش تحت حكم الله و سلطة الثورة وهي سلطة لا مراء بها . أم أنك تعترض على سلطة الثورة ؟

    تبدلت حال عوشر ، وتغير حبره وسبره  :
    - لا أعوذ بالله .. لكن .. هل تقصد أنهم من الممكن أن يقتلوني ? ألأجل كيسين من الحصى أُقتل؟ إنك تهذي يا هذا ؟ لم أسمع أنهم قتلوا أحداً لمثل هذا ؟
    أخذ أدهم يضحك لكلامه :
    - هئ ، هئ ، أنت تنشل المال العام ، وهذين الكيس>ن من مال المسلمين ، انتهينا ، قد صدر حكم الله فيك، بعد قليل سيستدعونك للتحقيق ولن يصدقوا روايتك ، وستُسأل عن جماعتك . كم عددكم ، لأي جهة عسكرية أو سياسية تنتمون ، وما هي الأماكن التي قمتم بسرقتها طوال هذه المدة؟
    - جماعتي !؟ بماذا تهذي يا رجل ، أقول لك أني أخذت كيسين من الحصى الفائض عن حاجة الشارع لأفترش زريبتي ، وتسألني عن جماعتي ، هل أنت محامي أم محقق ؟
    - هئ، هئ ، اهدأ ، سأحاول مساعدتك ، أخبرني من هو صاحب الدعوة ؟
    تنهد عوشر الصعداء بتوتر :
    - رئيس البلدية ، وقد قال أن الشارع اختلّ تقويمه بسببي .
    سكت أدهم ، ونام على بطنه وهو يضحك :
    - هئ ، هئ ، لن تنجو يا رجل ، لن تنجو .

    تركه عوشر وعاد إلى مكانه ، يتفكر في كلامه غير مقتنع بما دار من حديث ، في ذات الوقت عاد أدهم واستقام في جلوسه وتربع في جلسته ، وقال بجديّة :
    - هيه أنت ، إن العرب إن عفت عن لصهم ضربوا بسيوفهم ناصيته ، كنت اتمنى مساعدتك ، فلتسامحني على ذلك.
    ثم زمّ شفتيه ورفع يديه دليل عجزه ، ولم يقوَ على كبح فمه عن الضحك بهستيرية.
    بعد لحظات فُتح باب الزنزانة ، وتم استدعاء عوشر للتحقيق معه ، بقي قرابة الساعة في التحقيق ، وعندما عاد ، جلس ولم يتفوه بحرف . و بينما أدهم مستلقٍ على ظهره وقد أسند ساقيه على الجدار ودون أن يلتفت إليه ، قال :
    - ها ، لم تصدقني . ما قلته لك لم يكن تلفيق كاتب ولا اختلاق شاعر .. قلت لك أنا محامٍ .. محامٍ
    وكمن يحدّث نفسه ، طأطئ عوشر رأسه :
    - لم يصدقوا أنها المرة الأولى التي سرقت بها ، وقد سألوا إن كنا عصبة نمتهن اللصوصية والاحتيال ، لكنهم لم يضربوني ، وعندما سألتهم إن كانوا سيقتلونني ضحكوا ملء معاطسهم ، حتى أن رئيس المخفر انقلب على ظهره من شدة الضحك ، وقال رفيقه ببرودة "سنقتلك فقط !؟ بل سيتم تقطيعك وربما حرقك ، هههه هاي".
    قال عوشر ذلك و أخذ يبكي حتى ابتل شعر وجهه ، ثم التفت إليه أدهم وأخذ ينظر إليه بحدّة :
    - هيه ، أتبكي مثل النساء وأنت رجل بدويّ، على كلٍ هناك مخرج وحيد  كي تنجو .
    - وما هو ؟
    سأل عوشر بسرعة ، وبوشوشة اقترب منه أدهم  :
    - بعد ثلاثة أيام سيتم نقلك إلى المحكمة الشرعية وسيصدر بحقك الحكم ، وفور خروجك من باب هذا المخفر سيكون بإمكانك الهرب ، أركض ، أركض ولا تلتفت خلفك .
    عوشر وهو يمسح دموعه :
    - لكنهم سيطلقون النار عليّ  .
    - لن يفعلوا ، صدقني هذه فرصتك الوحيدة ، وأنا أعي ما أقول ، كما أنه ليس أمامك أي خيار آخر ، وإلا سينفّذ فيك حكم الله.
    قال ذلك وراح يضحك كعادته ويعوي كالذئاب .
        و في صباح اليوم الثالث فتح "إيوان" باب الزنزانة ، وهو يرتدي بيجامته و يتمطى من النعاس ، ثم صرخ :
    - عوشر ، جهز نفسك سوف تخرج .
    رد عوشر ، والذي لم ينم ليلته تلك وهو يتفكر بكيفية الهرب :
    - إلى أين ?
    - إلى أين يا أبله ! للإعدام ، ههه هاي ، هيا أيها الأبله ، لقد خنقتنا برائحة الزبل المنبعث من لباسك .
    خرج عوشر ، وما إن وصل باب المخفر حتى أطلق ساقاه للريح و ركض حتى انقطعت أنفاسه ، وخلفه يقف "إيوان" على باب المخفر واضعاً يداه في جيوبه ويصرخ مستغرباً وضاحكاً :
    - توقف يا مجرم ..
    سمع عوشر صراخه ودون أن يلتفت عَبَر الشارع وهو يتمتم (صدر حكم الله .. صدر حكم الله) ، فجأة تصدمه سيارة مسرعة . ليسقط متضعضعاً مهشم الوجه على الأرض ، هرع الجميع نحوه ، أسرع "إيوان" وقد احتضنه  بكلتا ذراعيه :
    - لماذا هربت يا مجنون .. كنا نريد إيصالك لبيتك وزوجتك ..
    تسايل الدم من أنف عوشر ، وراح ينشج بلوعه :
    - كنت .. كنت أريد أن أهرب من حكم الله .. لكن أين المفر ، نحن الجناة الضعفاء لن نستطيع أن نهرب من حكمه ..
    كثر الهرج حوله ، وارتفع صوت إيوان  :
    - أحضروا مسعفاً .. إسعاف .. أين الإسعاف ..
    بكى إيوان ، وتخضبت سترته بدماء عوشر الذي سرعان ما جفأت عيناه .



    تمت في ٩ يناير 2017

    هناك تعليق واحد:

    1. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
      بدءا أحيّي الصّديق القاصّ شاهد جوهر على هذه القصّة الرّائعة و أشّد على يديه.
      في بلد باتت تحكمه الصّدفة و لم يعد بالإمكان فيه تمييز الصّواب من الخطإ. المزاح من الجدّ. الآمر من المأمور. العقل من الجنون. الصّديق من العدوّ. أو حتّى ما إذا كانت الحياة حقّا أفضل من الموت؛ بلد انقسم فيه النّاس شِيَعا تتنازع –عجبا- ملكيّة الله. يروي لنا القاصّ السّوري شاهد جوهر قصّة شابّ مُعدم يُلقى عليه القبض بتهمة سرقة كيسين من الحصى و يُلقى به في السّجن. بدويّته وطيبته و جهله بمصيره يجعلونه يُصدّق معتوها أشار عليه بالهروب لحظة يُفتح الباب مؤكّدا له أنّها الطّريقة المضمونة الوحيدة إذا أراد أن ينجو من "حكم الله"(الإعدام الذي ينتظره). فيفرّ الشابّ كما حدّثه المعتوه ليتّضح بأنّه إنّما سارع لاحتضان الموت لشدّة خوفه منها و أنّ هروبه كان من الحرّيّة في نهاية الأمر.
      أشكر القاصّ و أقترح عليه تحويل قصّته هذه إلى مسرحيّة فإنّ لديها جاهزيّة ركحيّة و دراميّة عالية لذلك.


      ردحذف