• الرئيسيّة

  • الجمعة، 13 جانفي 2017

    مواعدة / قصّة قصيرة - شاهر جوهر (سورية)


    مواعدة

    قصة قصيرة / شاهر جوهر

     المواعدة شيءٌ متعب ، وأنا رجل يحب أن تأتيه الأمور على رويّة ، وعلى تمهّل ، فلا أعلم ما هي مشكلة هذا الجيل الجديد , يبدو أني لا أستطيع التأقلم معه .
    أذكر أني أحببتُ فتاة لم تكن من عشيرتي ، مثقفة ومن الطبقة المتوسطة ، وهو أمر نادر الحدوث في هذه القرية المترعة بالأقاويل والمحظورات، تعلمت منها أشياء وعادات لطالما كانت محظورة لدي، كأن ألتزم في مواعيدي، وأن أستعمل على غير العادة هذا الاختراع الذي يسمى "مشط" على رأس مثقل بمثبتات الشعر يومياً. كما أني ومذ عرفتها لم أعد أتسكع في "سوق الحرامية" ذاك السوق الشعبي الذي احتلته فيما بعد البرجوازية الصاعدة بمحلاّتها التجارية الضخمة مستغلةً فترة التسامح السياسي بداية الألفية الجديدة التي قضت على أحلام كثيرين من بين المهربين والمعدمين ممن كانت هذه القطعة العشوائية هي مصدر انتفاعهم الوحيد .
    لكنني أحببتها. كثيرون حسدوني على مواعدتي إيّاها. كنت أرى ذلك في أعينهم، وهو من الحوادث الطبيعية هنا، فليس في هذه القرية شيء لم يتحاسدوا عليه ولم يتنازعوه حتى " السمعة، الصحة،      و الراحة ".. كل ذلك .
    أعتقد أن ذلك في حدّ ذاته ذاته تمرد واضح، وبما أن عروقي تنتفخ بدم عشيرة بدوية لا تستطيع أن تميز بين اللحم الرديء و اللبن الخالص حدث أني لم أتورط أكثر في هذا التمرد العشقي الفاضح، ولم أستمر معها طويلاً، فهي لا تحب هواياتي، لا تحب ما أقوم به من جمع المفاتيح القديمة وعلب الكبريت الفارغة، وتعتبر "اصطياد الحمام" ليس بذي قيمة في هذا المجتمع، كانت تهينني بذلك، وأكثر ما يمقتني أنها على خلاف الفتيات هنا تمشي برشاقة، وتدور حول نفسها برشاقة، ولطالما حاولت أن أتلوى مثلها بمرونة مقلداً، لكنني ابن عشيرة تحتم على شبابها أن يقصدوا في مشيهم .
     كما أنها تفضّل القانون والشرطة في استرداد حقوقي، وأنا لا أحبذ رفقتهم. فقد طلبت مني ذات مرة أن أتّصل بهم كي يحققوا فيمن سرق منزلي، وعندما وصلوا وفتحت لهم الباب، ذعروا ورفعوا مسدساتهم في وجهي يصرخون (لايزال اللص هنا .. ارفع يديك).

    أرجو ألا يُفهم كلامي بطريقة عنصرية سيئة، لكنها مشكلة أن تكون المذنب والمدان في آن في نظر السلطة فقط عندما يحكموا عليك من سجل عشيرتك الغارق بالمشاكل والخطايا الأخلاقية والقانونية، أو من الندوب والخدوش التي تركتها الحياة في وجهك وجسدك .
    مع ذلك فهي تحب هذه الندوب، وهو الشيء الوحيد الذي أخبرتني أنها تحبه في علاقتنا طوال تسعة شهور مضت .
    أتذكرها الآن وأنا أصطنع الهدوء والسكون، لكن من الحق أنه ليس في هذه الحرب اليوم وهذا الخراب الذي شاركت يداي في صنعه أطيب وأعمر قلباً وأنبل نفساً منها ، فما أن تركتها حتى استشرفت نفسي مشارف القلق والتوتر، لذا أتذكرها اليوم بالذات لأني أهملت في الحرب ما لا ينبغي إهمالُه: "الحب".. هذه الحربُ ينقُصها الحبّ.

    ***
    وجهة نظر في النصّ:

    نصّ لا يخلو من طرافة و شجن عرف صاحبه كيف يُبطّنه السّخرية. كُتِبَ بأرحيّة و عفويّة كبيرة دون تكلّف أو خروج عن المقاصد لصالح رونق الجملة. القاصّ شاهر جوهر يمنح فرصة البوح لشابّ تعود به الذّاكرة إلى الوراء، عندما يُحيله الخراب المُستشري بسبب الحرب و الذي قال إنّه ساهم في جزء منه إلى أعماق عاطفته فيتحرّك حنينه إلى الماضي و يضطرم شوقه إلى بساطة التّفاصيل اليوميّة التي باتت رديفا للسعادة.
    تقوده الذّاكرة إلى حيث كان يواعد حبيبته سرّا و علنا. و في قلب استحضاره لها تُلقي الحرب بظلالها على مُخيّلته فتهتاج و تبتعد أمنياته. ليخلص في الأخير إلى أنّ العتب عليه لأنّه أهمل الحبّ و هنا في نظري تكمن مفارقة القصّة، إذ أليس حريّا أن نلعن الحرب عوض أن نلوم أنفسنا، لكن هل ننسى أنّ الشّوط الذي قطعته الحرب و الفظاعة التي اكتشفها الكون في هذا المخلوق المُسمّى بالإنسان كفيلة بأن تجعل منها حقيقة تُؤخذ مُسلّمة كقضاء و قدر.

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق