• الرئيسيّة

  • الثلاثاء، 26 جوان 2012

    وسوسة أخيرة



     عندما كان الأمر متاحا كان بإمكانك بدافع الملل من الأحاديث العاديّة مثلا،أن تحاولَ إثبات العكس،أو على الأقلّ أن تعثر على صفة أخرى أكثر اختزالا و ملاءمة للسيّد نجيب الناوي من كونه جسدا سليما شغفه الوحيد أن يمضي بلحظته الرّاهنة إلى التي تليها بأقلّ الأضرار، أو أن يكون قد خصّص وجوده ليحصّن عاداته ضدّ أيّ شخص أو أيّ عامل متهوّر قد يجرّها رغم أنفه نحو وجهة غريبة عنها.و إذا حدث و حصل ذلك فإنّ عليه أن يعالج ما انكسر قدر ما يستطيع و حبّذا لو خرج من التّجربة بفائدة ما و لا بأس إن كانت درسا يجنّبه مطبّات أكبر،و هذا هو الأهمّ في تقديره..و لكن حذار،يجب أن يتمّ ذلك بسرعة قبل أن يعوي الصّوت الّلعين السّاخر الكاوي الذي بأعماقه.و الصّوت يقدّر ضعفه فيمهله قليلا من الوقت ليتدارك أمره.و الويل له إن لمس منه نزعة حمقاء لصرف النّظر أو عدم ملاحقة ثأر الّلحظة المنكوبة التي استثمرها غيره..و سيندم..سيندم كثيرا ،و ربّما مات من شدّة النّدم.
      و في المناسبات النّادرة التي تحتّم عليه فيها النّهوض  و مغادرة الفراش في عمق الّليل ليقضي حاجته أو يشرب،كان يفعل مغمض العينين كي يعاود النّوم و ليس في رصيده من الهزائم سوى الخطوات التي اضطر أن يمشيها و الحركات التي تحسّس بها الجدران و حسب.و كان دائما يقول في نفسه حين يصادف أن تتعرضّ تفاصيله إلى عرقلة ما جرّاء ارتباطها بشأن خارج عن إرادته أو انتهاك مفاجىء من قبيل الشّرط: " إن كان لابدّ من السّير جنبا إلى جنب مع أحد المرتخين،فمن الأفضل أن أحمله على ظهري.. سيتبدّد تصلّب ساقيّ بعد سويعات لكنّي لا أضمن أن تبرأ أعصابي.."
      أمّا في استراحة الظّهيرة أيّام الصّيف فكان عليه - حتّى تجهز وجبته المعتادة - أن يقف عند أبعد نقطة ممكنة لا يطالها الوهج المندفع من المحلّ ،ليس اتّقاء لحرّه ،بل خشية أن  يكون قد ساهم في مضاعفة ثروة صاحبها و شاركه فوق كلّ ذلك معاناته لبعض الوقت.
     و لقد سمع يوما حوارا دار بين اثنين من روّاد المحلّ أمام المصرف و قد ارتسمت على وجهيهما حمرة الشّبع:
    - كيف لم أرك؟
    - كنت محشورا بالدّاخل..غلبني صحن الدّجاج فتركته.       
    - و الله يا أخي،ليتني فعلت مثلك..
      و تعجّب السيّد نجيب كيف يحسد متخمٌ متخما آخر فيما وصل به إلى التّخمة،و قرّر:
    "هذا ينقصني !".
      لا شيء يُذكر من حياة السيّد نجيب عدا موته..و لم يترك الرّجل في أعقابه ما يُآخذ أو يشكر عليه. لم يكن جشعا يسعى للرّبح و تكديس الأموال كما قد يتبادر إلى ذهنك و أنت تلاحظ مقتنياته الضّئيلة و المدروسة بعناية فائقة،بقدر ما كان مشغولا بالحفاظ على طوباته الأربع مصفّفة في ذهنه كما أراد لها.و لم يكن طيّبا بمعنى الطّيبة التّلقائيّة التي تسمح لصاحبها بأن يواسي أو يقدّم خدمة عفويّة بدافع نبل محض، و إن كان يُجبر أحيانا على إدخال البهجة على قلب أحد المقرّبين إليه ،لو علم يقينا أنّ أحد الغرباء قد انتفع من ورائه بشكل أو بآخر.يكره السيّد نجيب أن تُلوى ذراعه على ذلك النّحو لكن لا بأس ما دامت تلك هي الوسيلة الوحيدة ليخرج من الحادثة بأقلّ الأضرار.
        مرّ نجيب النّاوي بتجربة الزّواج،ليبدّد شكوكا كثيرة أخبره الصّوت بأنّها بدأت تُنسج حوله،و لأنّ همس النّاس في نظره أكبر ضررا من الهفوة،فقد اختار الهفوة..تزوّج فتاة من الضّيعة،ثمّ باغتها من اللّيلة الأولى برفضه لمسألة الإنجاب..لم تتحمّل الشابّة طويلا ،و انفصلا في الأخير. و فكّر:" صحيح أنّي لم أحقّق خطوة إلى الأمام ،لكنّي بالمقابل استطعت أن أوقف عودتي إلى الوراء في الوقت المناسب".
       دام الزّواج سبعة أشهر،تناول خلالها أصهاره طعام العشاء عنده في بيته المأجور ثلاث مرّات متفرّقة.و كان عليه في كلّ مرّة كي يُبعد الخطر عن طوباته الأربع المصفّفة في ذهنه بعناية،أن يزور أخته و بين ذراعيه كيس به مؤونة شهر من العجين.و حدّث نفسه بأنّه ينبغي على كلّ عاقل أن يكون جاهزا ليخسر المزيد كي يخرج بأقلّ الأضرار،إن كان لا مفرّ من الخسارة.
    أمّا مسألة الأطفال فمشطوبة من حياته منذ زمن،و ليس عليه أن يقدّم تبريرا لأيّ كان.و قال:
    "  الأنثى حمل وارد. في هذه الحالة سأكون قد مَنحتُ أختا  و ابنة،و لم أُمنح  سوى واحدة.."
     و يعتقد نجيب أنّ صديقه راعي الغنم الذي اعتاد أن يسلّم عليه كلّما التقاه يسوق قطيعه وسط المدينة بكلّ جرأة و كبرياء،منكوبا كفاية ما يجعله يحظى من جهته ببعض الودّ المجانيّ.و يقول نجيب حَالَمَا يخرج الرّاعي من إطار مرآته العاكسة:"مسكين ؛ إنّ المساكين نعمة ! ". و يقول الرّاعي بعدما تتلاشى ابتسامته الواسعة:"هذا الرّجل نعم النّاس".
      و كثيرون باستثناء أخته و زوجها و صديقه الرّاعي،ممّن سمعوا بنبىء وفاته قالوا كما لو أنّهم لُقّنوه معا:
    " لا خاب فأس هوى على هراوة !"
      كان موظّفا بدائرة التّعاون الدّوليّ.تقتصر مهمّته على تحرير جداول بأسماء  المتقدّمين لبعثات الخارج كلّ حسب مؤهّلاته و سلكه.و هو مكلّف أيضا بالتّأكّد من استيفاء الملفّات جميع الوثائق المطلوبة،ثم يعاد له الأمر فيما بعد ليحرّر جداول ليس فيها سوى الحاصلين على موافقة مبدئيّة.تقوم كاتبة القسم باستدعائهم ليوقّعوا أمام أسمائهم كدليل على أنّه قد تمّ إعلامهم.لا يبتسم نجيب في وجوههم و لا يسلّمهم القلم يدا بيد،كي لا يتسلّل إليه صوت من داخله خادشا :" أهبل ! كيف تزيده فوق سعادته بشاشة من عندك،ألا يكفي أنّه ذاهب ليجني الذّهب؟ ".
     و لنجيب رئيس في العمل يتلقّى منه الأوامر.و خمّن من خلال حاجبيه الكثّين و منكبيه العريضين أنّ ظهره مكسوّ بالشّعر و أنّ له شخيرا مزعجا إذا نام.و اعتبره المسؤول و لا ريب عن مساءات الأحد التي صار يمضيها كآخر يوم من إجازة جنديّ، و عن حالة الحقارة التي ما انفكّت تزدرده سنة بعد أخرى ،لفرط ما أنصت منه لقصص يصبّ  معظمها في كونه قد حُرم من حدث ممتع بسبب آخر لا يقلّ عنه متعة،أو هكذا كان يسمّيها:
    " خسارة! كنت أنوي هذه السّنة قضاء العطلة في موناكو، و هاهي ابنتي تعود من الكويت و معها ابنتها التي ولدت هناك   و لم أرها بعد.."
     و فكّر نجيب بأنّه لن يمقت الذين سينهالون عليه سخرية لو أنّ أحدا ما غرّر به يوما،بحجم ما يكنّه من كراهية لهذا الذي يطلّ عليه بين الحين و الآخر بوجه ضبع جثّته بدأت تتحلّل من شدّة الحنق،لمجرّد سقوطه درجة من منزلة فوز عظيم إلى منزلة فوز و حسب..
     و قرّر أن يطرده من ذهنه قبل أن يستعمره الشّعور بأنّه محقّ بعض الشّيء..و حدّث نفسه مرّة و إلى الأبد:
    " إنّ السيّد خالد هيأة رديئة،و الأشياء السّيئة عموما جُعلت كي لا نكونها،لذا يجب أن أفرح ما دمت رأيت ما لا يجب أن أكون ".
      و لقد اضطرّ يوما و هو عائد من عمله مستقلاّ سيّارته ذات التّصميم الرّوسي العلميّ و حسب ،أن يبدّل مساره الأقصر بآخر أطول و أكثر منعطفات لوجود حشد من المتظاهرين أمام مبنى الإذاعة و قال :"لابدّ أنّهم اقترفوا ما يجعلهم يستحقّون وقفتهم المقزّزة تلك"  ،قال تلك العبارة لأنّها أقلّ وطأة على نفسه من كون المسألة مجرّد وقود إضافيّ من أجل لا شيء.. ثمّ ركن بمحاذاة مكتبة نسي أين سمع بأنّ مجلّة "فصول" لا تباع إلاّ بها،و اشتراها على الرّغم من سعرها الباهظ.
       كان لحادثة المجلّة الفضل في القضاء نهائيّا على الأثر الذي خلّفه في نفسه ثمنها ، فقد خطر له كاكتشاف و هو يتصفّحها أنّ بوسعه التّنكيل بجداوله و الخروج من بلادتها المريعة بأقلّ الأضرار لو أنّه قرأ قصيدة كلّ مرّة ينتهي فيها من جدول.
     ثمّ أصبح يقتني صحفا تقدّم نفس المزيّة بسعر أرخص بكثير.  و مع مرور الوقت صارت المدينة في نظره شلاّلا من الجنون و الوحدة،و بدأ يقلق و قرّر مساء أحد بذيىء،أن يتزوّج من صاحبة البيت و ليكن ما يكون و فكّر:
    "لا ينقصها الجمال،و لا أظنّها تمانع بالاكتفاء بولدها،ثمّ إنّي سأتخلّص من دفع الإيجار."
     رحّبت السيّدة فردوس صاحبة البيت بيسر،و باع نجيب السيّارة..كانت خاطرة العرس ببهرج قد استولت على تفكيره..كان بحاجة ليفرح دون قيد.و لم يندم. سار على قدميه باتّجاه منزلها.. لم يتعب .ظرف النّقود في جيب السّترة.نسي أنّ هناك أسبابا وراء زواجه منها ،و لم يبق في ذهنه و هو في طريقه إليها سوى أنّه منهك بسبب كلّ ما مرّ عليه.و خطر له كالوميض أن يدسّ وجهه بين شعرها و رقبتها و يبكي عند أوّل فرصة يختلي بها.مشى  بمحاذاة بناية عالية.لم ينتبه إلى الأشغال و لا إلى نداءات العمّال.كان سعيدا دون قيد هذه المرّة.. خشبة سقطت فوق رأسه فمات..
      في تلك الأثناء كانت السيّدة فردوس قد انتهت من فرش الحشايا بأغلفة إحدى الصّديقات.. صديقتها تلك بالذّات تألّمت لأجلها و قالت تواسيها :
    " أعرف أنّ وقع الصّدمة كان قاسيا عليكِ..لكن تذكّري أنّ ما حدث كان بالنّسبة لكِ أقلّ الأضرار..!


                                                                                      محمد فطومي

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق