• الرئيسيّة

  • الخميس، 7 جوان 2012

    الحديقة التّأديبيّة




    قصّة قصيرة تأليف :محمد بليغ التّركي
    تعريب :محمّد فطومي         



     كان الأطفال يغنّون النّشيد الوطنّي عاقدين أيديهم خلف ظهورهم لصق جدار مغلّف بمعلّقات عليها مأثورات و شعارات تذكّر بواجب الفرد تجاه المجموعة.و كانت المعلّمة تقود الكورال و بيدها عصا.
    فجأة لمحت أحد الأولاد يقتسم لمجة مع جارته و يبادلها الابتسامات.فعجّلت نحو آخر مقعد في الفصل.أمسكت بالطّفل و قذفت به ليرتطم بطاولة صدئة معدّة للتّعذيب.
    نزعت عنه سرواله متشدّقة بصوت حادّ:
    - " سترى،سأجعلك تندم على قلّة أدبك ! "
    - بكى الطّفل :لن أتحدّث ثانية ،سيّدتي ،سامحيني"
    - سترى..صرخت المعلّمة ، و بعنف ألبسته حفّاظة كانت في درجها "
    - لن أتكلّم سيّدتي . دعيني أرتدي ثيابي أرجوكِ..توسّل إليها الطّفل محاولا ستر ساقيه بكلتا يديه.
    - تفرّجوا ،أيّها  الحمقى،تأمّلوه جيّدا،هذا ما ينتظركم لو أنّ أحدا منكم حاول الّلعب معي..هيّا واصلوا النّشيد ! "
    حفرت الحادثة في ذاكرة الصبيّ جرحا غائرا و استقرّ في وجدانه شعور مهين،لم تُفلح في محو أثره دموعه الصّامتة و لا جارته و لا انتقام والده يومها بالذّات.
    كان الفتى أحيانا يسأل أباه:
    - لمَ عرّتني المعلّمة أمام أصدقائي؟
       و في يوم رافق الطّفل والده لزيارة سجين،كان عليهما الانتظار ساعات في ساحة رمليّة محاطَيْنِ بعجائز مقرفصات ، أمام كلّ واحدة منهنّ قفّة مغطّاة بمنديل.
    انشغل الوالد يواسي عجوزا في الثّمانين من عمرها لم تستطع كبح رغبتها في سرد مأساتها.كانت دموعها الضّئيلة تنزل سالكة خطوط وجهها . بينما غطّى الصبّي رأسه بالجزء السّفليّ من بذلة أبيه اتّقاء أشعّة الشّمس و لفح الهواء الحارّ.و شرد يراقب رفرفة علم باهت الّلون ، مهترىء كممسحة قديمة.
     في الرّكن امرأة تقدّم للحارس نقودا و علبة سجائر،يرصّها الأخير بارتباك في حافظة أوراق مليئة بشعارات الوطن و أزرارا لجمعيّات حقوقيّة مختلفة.
     اقترب السجّان من الزّائر ،دون أن يغادره بنظراته،لامبالاة الزّائر أثارت حنقه فنطق .:" ماذا في القفّة؟"
    - كسكسي كالعادة،و كالعادة سيأكله زملاؤك؛ أجاب الزّائر بنبرة جافّة.
    - ها قد أطلّ آخر الأبطال ؛ قال الحارس متظاهرا بعدم الفهم ،ثمّ  تابع بصرامة مفتعلة و بصوت أرفع  :   "لا تُطيلوا !"
    ظهر سجين خلف القضبان،كان وجهه مخيفا و شعره أشعث و لحيته فوضويّة غزاها الشّعر الأبيض.
    قال السّجين: أخي !
    - أهلا أخي،أحضرتُ لك الأوراق، حاولتُ رؤيتك عديد المرّات لكن.."
    - أعرف ..هم على استعداد للقيام بأيّ شيء قد يعزلني عن العالم.
    - صبرا أخي،،ستخرج عمّا قريب ،قال الزّائر.
    - هل تظنّ أنّي سأكون بحال أفضل و أنا معدم،بلا عمل ،و بلا سقف يؤويني..؟ ماذا سأفعل ؟هاه؟ أم تريدني أن أتمسّح على أعتاب الأنذال و ألعق أقدام العاهرات؟
    ابنك بخير؟ أهلا صغيري، كيف تسير الأمور في المدرسة ؟هل يحسنون معاملتك؟
    - لا..المعلّمة أهانتني،اشتكى الطّفل بغصّة.
    زعق صوت : انتهت الزّيارة؛ هيّا تحرّكوا !
    قال الزّائر كأنّه يُخاطب نفسه:
    - أحيانا، يخطر لي أنّ كلّ شيء مبنيّ على العبث..علينا دائما أن نضحّي بأنفسنا من أجل الخونة.
    - تجنّب الحديث في هذا أمام الطّفل..أنسيت العدالة يا أخي ؟
    تقدّم سجّان من السّجين، أمسكه من ذراعه و دفعه هازئا :
    - كفى ثرثرة يا زورو،لا تقلق بشأننا.
    في طريق العودة عرّج الأب و ابنه على حديقة الحيوانات،كان الأب يتأمّل الطّبيعة و الفتى يدوّس درّاجة حمراء و يُراقب أباه.سأل: " أبي..اشتريتَ لي الدرّاجة كي أنسى ما فعلته بي المعلّمة ؟ "
    - اسمع بنيّ،هذه كلّها اختبارات لابدّ منها كي يًصبح للحياة معنى ..ستتعوّد.
    - أبي،ماذا فعل عمّي كي يضعوه في السّجن؟
    - ليست جريمة تستحقّ العقاب ، كلّ ما في الأمر أنّه حاول انتشال عائلة صديقه السّجين من حالتهم المزرية.
    - أبي،فيمَ تُفكّر؟
    - انظر إلى تلك الّلبؤة كيف تلعب مع صغارها، قال الأب متظاهرا بعدم الاستماع إلى السّؤال.
    - أبي، لمَ لا تُجيب على أسئلتي ؟  قال الطّفل محملقا بعينيه.
    - صغيري أنا بخير، أجاب الأب..ما رأيك أن نشاهد القرود، سيكون الأمر مسلّيا جدّا، صدّقني.
    مع حلول الظّلام عاد الغجريّان بخطى سريعة،جاوزا ممرّا شجريّا ضيّقا يفضي إلى حيّ موحش.
    مصابيح الشّارع المهشّمة تُعلن حضر التّجوّل الذي يفرضه كلّ مساء رؤساء عصابات الحيّ ، كانوا يذرعون الشّارع جيئة و ذهابا بانتظار  الشّباب الباحث عن الخمر و الأفيون.
    قاطع تحرّكهم المشوّش وصول عربات تقلّ بنات من كلّ الأعمار.قفزن الواحدة تلو الأخرى ،كان القوّاد في استقبالهنّ. قبّلنه و عرضن عليه تباعا حصيلة يومهنّ .
    - وصلنا..قال الأب.
    و أضاف : " لا تلعب في الطّريق،بنيّ ! "
    - لماذا ، أبي ؟
              أجاب دون تفكير :
    - لأنّ هناك أشرارا يختطفون الأطفال.
    - لماذا، أبي ؟
    - ليجرّدوهم ملابسهم .
    - ليدغدغوهم ؟ سأل الطّفل ببراءة.
    إجابة الفتى أضحكتهما.احتضنا بعضهما البعض طويلا . فجأة ظهرت من العتمة امرأة ، أمسكت بالدرّاجة و سحبت الطّفل من بين ذراعي أبيه، حيّى  الولد أباه بإشارة من يده الصّغيرة و قال بصوت منخفض :" إلى الأحد 
    القادم أبي ! ".

    ***

    القصّة الأصليّة : Le jardin correctionnel
    مجموعة : Être et mal être



    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق