• الرئيسيّة

  • الاثنين، 23 أفريل 2012

    حاسّة خاصّة جدّا




    كان الحيّ الهادىء القديم آنذاك نحتا جداريّا لجنود فزعين يبتسمون.و كان للشّيخ صوتا قويّا و عصا و وجها متعبا.دأب منذ سنين على الخروج إلى سوق البلدة.يتجوّل في الأزقّة، يلتقي هذا و ذاك،ثمّ بعد ساعتين يعود و بيده جريدة.يدخل بيته،يعلّق مظلّة السّعف على مسمار مدقوق على الباب.و يتهاوى على كرسيّ بجوار المذياع العتيق المغطّى بمنديل مطرّز،لا يأنس إلاّ للأخبار أو لبرنامج ثقافيّ.تعدّ له حفيدته القهوة،يترشّفها و هو يتصفّح الجريدة دون اهتمام كبير.
    قَضَتْ عائلتها و لم يبق لها سوى جدّها الهرم،و الجدّ أيضا مات كلُّ أصحابِه و اعتاد الوحدة و ارتجال الأيّام،و استمرّ يعيش على راتب الشّيخوخة الهزيل الذي بالكاد يكفي لشراء الخبز و الصّحف و يعيل بنتا خرساء منذ الولادة.
    لم يعد الشّيخ يحبّ الكلام و لا خوض النّقاشات و لا التّدخّل لفكّ نزاعات قد تنشب بين الجيران كالسّابق.
    منذ فترة صار يمرّ بمحاذاة الخصومة و لا يلتفت و اليوم استوقفه الشابّ الذي اعتاد أن يقرأ في عينيه بصدق أنّه يرى في الشّيخ الذي أمامه رجلا لا ريب شاهد أشياء كثيرة في حياته.أحسّ الشّيخ أنّ لقاءهما ليس محض مصادفة،إذ لم يسبق أن باغته يمشي.كان دائما يدور بينهما حوار قصير أمام بائع الجرائد.في الواقع لم يكن حوارا بمعنى الكلمة،فقد كان الشّيخ يروي ملخّص حكاية إمّا غريبة أو طريفة،و هي جديدة في كلّ مرّة،و كان الشابّ يضحك في كلّ الحالات مستمتعا حقّا بما يسمع.
     و ها هو يمسك به من ذراعه بإصبعين و العصا ببقيّة الأصابع.قصّ عليه قصّة من الماضي و قرصه بعد ما انتهى منها.
    في منتصف الطّريق تذكّر أنّه روى تلك الحكاية للشابّ من قبل،و لاح له البيت بعيدا.
    لمّا وصل أشار إلى هند بالجلوس إلى جواره،فلبّت،التفت إليها.وضع عينيه في عينيها  و همس لها بكلمات.ابتسمت البنيّة و هي تشبُك أصابعها و تحرّك ساقيها.أخذ ضفيرتها بين يديه و فكّها و بعثر بيديه المرتعشتين شعرها النّاعم الأصفر.أحسّ ببهجة عارمة و هو يكسو حفيدته بكلّ الألوان و الأمنيات العسيرة،و أقلع عن عاداته الصّغيرة و صار يكتفي فقط بالوخز الرّقيق الذي يأتيه من النّظر في وجهها البدائيّ.و انساب الشّعر الأصفر حتّى غطّاهما و مات الوقت..بيد أنّ العالم أصبح في عينيه عجوزا هرما أخرس يختبىء وراء شعر أصفر لفتاة خرساء ستفقد عمّا قريب أسرتها المتبقّية.




    فاطمة فطومي
    4/4/2012

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق