• الرئيسيّة

  • الاثنين، 23 أفريل 2012

    الأسد العجوز




    قصّة لـلكاتب: محمد بليغ التركي                  
    التّعريب من الفرنسيّة لـ: محمّد فطومي        

       
    ***



    " نشكرك على كلّ ما قدّمته للوطن أيّها العقيد.."
    نطق أحد الضبّاط الجالسين على مقربة من النّافذة المطلّة على المقبرة.
    " بذلتُ كلّ ما بوسعي من أجل عزّة بلادي.."
    أجاب ضابط في وضعيّة استعداد.ثمّ سُمع بوضوح صوت آلة مخفيّة تحت الزيّ.
    استعاد رئيس الّلجنة الكلمة :
    " ..و بالنّظر إلى الحالة الصحّيّة للمريض،إثر تعرّضه للنّوبة الدّماغيّة الثّانية على التّوالي،فقد قرّرت لجنة الإصلاح و التّطهير إحالة العقيد على التّقاعد."
    وقف أعضاء الّلجنة .تبادل الرّئيس التّحيّة مع المُغادر و أهداه صورة له عندما كان ضابطا شابّا.
      حين التحق بسيّارته ،انهمك لبرهة في تشغيلها مستعينا بكلتا يديه.بعد هذا التّمرين الشاقّ،تخلّص من البدلة العسكريّة و رمى بالصّورة قرب كمان كان فوق الكرسيّ الخلفيّ.اتّخذ طريق الغابة.كان من وقت إلى آخر يلقي بنظرة عبر المرآة العاكسة على الشابّ الغريب الذي في الصّورة.
    ظهر خلفه شرطيّ مرور على درّاجة .أشار له الشّرطيّ بالوقوف.إلاّ أنّه ضغط على البنزين أكثر و واصل طريقه غير عابىء.
    انتهت المطاردة عند بحيرة صغيرة اعتاد الأطفال الوفود عليها لإطعام الإوزّ.
    نزل الشّرطي من فوق الدرّاجة.و تقدّم نحو السيّارة.
    " أوراقك سيّدي." قال.
    أخفى العقيد بطاقته العسكريّة و لم يستظهر سوى بوثائق السيّارة.
    - أنت هو الرّجل الذي في الصّورة؟ سأل الشّرطيّ.
    - لا..ذاك جيمس دين . أجاب.
    - دمك خفيف ،مع ذلك سأحرّر لك محضرا.
     انشغل الشّرطي في تحرير المحضر مستندا على سقف السيّارة،فيما تعلّق بصر العقيد السّابق بتلاميذ يمرّون من هناك.تذكّر كيف كان طفلا . و ومض في ذهنه المشهد و هو جالس على حافّة عتبة يبكي حافيا ممسكا بجرموقه الممزّق ، بعد أن طُرد من الفصل.
    تابع الرّجل طريقه.. توقّف عند أوّل مركز اتّصالات عموميّ ليجري مكالمة للخارج.
    بعد عديد المحاولات،نجح في الحصول على مخاطبه:
    " ألو ،فيكتور،هل أنت بخير؟.."
    - وصلتُ للتوّ أيّها العقيد.علمتُ أنّ "ماري" أصبحت الآن جدّة.لقد تزوّجت شريك والدها.صَنَعَتْ المستحيل كي تسافر معك،رغم رفض والديها،لكنّك لم ترضَ.لا عليك صديقي..
    - لم أفلح في حبّ واحدة أخرى ! أردت أن أجرّب حظّي ثانية ! أشكرك صديقي لأنّك تقدّم لي المساعدة.لنبق على اتّصال دائما.
    - طبعا،أكيد .. نهاية الأسبوع القادم سأخرج إلى البادية،إلى الّلقاء أيّها العقيد.
     واصل طريقه ، يخنقه إحساس بالكآبة،اتّجه نحو معهد للموسيقى.اتّخذ مكانا بين مرشّحين شبّان يستعدّون لاختبار في العزف.جاء دوره.تقدّم نحو الّلجنة،و أشاروا له بأن يبدأ.
    عزف العقيد مقطوعة غجريّة حزينة و هو يدندن  معها في آن واحد.كان مأخوذا بالأغنية  و الذّكريات لذا لم يهتمّ في البداية بالمحكّمين المنشغلين عنه بالثّرثرة . و لا بالصّوت المنبعث من آلته الطبّيّة و الذي ما انفكّ يتصاعد.
    أيقظته دمعة انهمرت على خدّه.توقّف عن العزف و أعاد الكمان إلى المحفظة.
    " واصل ، يا عمّ !" تكلّم أحد أعضاء الّلجنة هازئا.
    " سأواصل في بيتي ،هناك على الأقلّ ثمّة هدوء،ثمّ إنّه لم يسبق لي أن عزفت أمام مخمورين."
    لمّا دخل إلى البيت ،سارع بإطعام  كلبه المسنّ.و ضلّ وقتا يتسلّى بانتزاع القراد عن فرو رأسه. و صرخ فيه : " قلت لك ألف مرّة ،توقّف عن الحفر..لا أفهم ! هل تُهيّأ لي قبرا أم ماذا ؟
    ثمّ داعبه و صعد السّلّم إلى الشّرفة المطلّة على الشّارع ليطرد عشّاقا يتبادلون القبل أمام بيته.بعد استعراض القوّة ذاك،تهاوى في ركن و استسلم للقراءة.
      مع حلول المساء قلّت الحركة في الشّارع.انسلّ العقيد بخطوات متثاقلة نحو حجرة نومه.قبل أن ينام،تناول الأدوية.و حلّق في تأمّلات عميقة و هو يجوس بعينيه في  الصّور الصّفراء المعلّقة على السّرير.
     استعاد الرّجل الحقبة التي كان خلالها ضابطا شابّا يرقص الفالس مع "ماري" في مراقص الأكاديميّة ،و كيف كانا يتمّان الأمسية على ضفاف السيّن أو في إحدى مطاعم الحيّ الّلاتيني.
    أتمّ الزّمن تحفته.وجه المريض شاحب الآن و رأسه أبيض.يمضي الرّجل الوحيد اليوم متوتّرا كالجالس على وتد،لا يغادر خلوته إلاّ لصيانة إطارات سيّارته القديمة،أو ليجرّ خطاه نحو النّهر قاذفا إليه بأشيائه التي عجز عن تحمّلها ،الواحدة تلو الأخرى.
      لم يعد للـ" أسد العجوز "مكان وسط المجموعة.لا أحد يردّ على رسائله،الهاتف لا يرنّ أبدا.صالونه الخشبيّ خفتت ألوانه الذّهبيّة و فقد بريقه و لم يعد يسحر المتملّقين الذين كانوا يزورونه فيما مضى.
      زوّاره الوحيدون صعاليك منحرفون،صار العقيد يسمح لهم بتعفير فاكهة الحديقة متى شاؤوا.
       في يوم،و بعد الظّهيرة،قطع أصحابه الجدد جولتهم في الفيلاّ  ليقتربوا من العقيد كقطيع ضباع جائع.لبث الرّجل ساكنا دون حراك.كان ممسكا بكتاب،و بين ساقيه رفيقه الوحيد ؛ الكلب ، نافق من  الجوع.

    ـــــــــــــــــــــ

    النصّ الأصلي:
    Le vieux  lion
    من مجموعة :
    Être et mal-Être



    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق