• الرئيسيّة

  • الخميس، 5 جانفي 2012

    دُرج



      الطّعام بارد،و شهيّتي له باردة،و البيت يزداد صقيعا و الوحدة تزداد برودا كلّما غرزت ساعة الحائط الباردة دقّة أخرى،مخلبا آخر،قرفا آخر في صدر الّليل المستسلم المُطرِق.. الملعقة باردة، أغيّبها في فمي بازدراء،فلا أستطعم سوى وخز الحديد العاري يلسع لساني كبطّاريّة مستهلكة.. ألقي نظرة على الخارج من نافذة المطبخ..السّواد أزرق و الضّباب كثيف،و الغرفة تبدو عائمة في العدم،أو كأنّي أسكن طابقا يلامس السّحاب..يقول أبي:لو رغبت في التّخلّص من ضيف سمج،فلا تنتظر حتّى يحين الموعد . زره أنت .وقتها فقط ستضمن أن يكون أنت من يقرّر ساعة انسحابك و خلاصك منه..السّحاب عندنا الّليلة يا أبي، فماذا يعني هذا؟

       الّلقمة أكبر من فمي، و الضّباب يكاد يُقنع الجدران بأن تنشقّ ليدخل.أخرج إليه، أفرد ذراعيّ و أسحب نفسا عميقا،أحسّ أنّ هواء مبتلاّ حادّا يلامس قاع رئتيّ ،و تخيّلت للحظة أنّه يغسلها،و ومض في ذهني فورا مشهد الغبار و هو يتجوّل في جوف المكنسة الكهربائيّة بشكل لولبيّ كما صوّروه لنا في الدّعاية.. ليتني لبثت في غبائي و سخفي القديم أبدا ،لا أفارقه ،أصدّق ما يروونه لنا من مبرّرات بديعة يسوّغون لنا بها أيّة آفة جديدة ،و أتلذّذ البذخ الذي يمطروننا به مع كلّ مصلحة جديدة.. ليتني لبثت في بطن أمّي..لِم شرحت يا أبي؟ألم تقل لي لا تشرح ! إنّ الشّرح يذبح السّعي؟ لم عنّ لك أن تشرح هذه المرّة رحيلك ؟ ألم تعلّمني أنّنا إذا شرحنا فسوف نكون أكثر إثارة للضّحك    و الشّفقة من لاجىء يشتكي بؤسه لسائق الجرّافة التي تنوي هدّ بيته؟ 
      يزداد الضّباب إلحادا بالسّماء و عقوقا بالقمر.و أزداد يقينا بأنّ الغبار بدأ يأخذ مكان الهواء في صدري،و أبي يستلّ خنجره من غمدي و يقصّ زعانفي كي يُفلت. كان لابدّ أن يوقظني كي ينجو.كان لابدّ أن أفهم كي يريح عقله من الفهم ردهة.
       أبي  ليتك لم تشرح..ليتك لم تُفصح؟ قداسة الصّمت الذي ران بيننا يومها تحوّل بطلقة كلمات منك إلى كرة من الأوهام و الخيبات و الغموض و الوضوح معا في آن.. لسنا ندين بالبهجة و بما قد يلفح قلوبنا أحيانا من رذاذ أمل ،إلاّ لخدر يصيب مداركنا أو صحوة تصيب مُدركينا و لو مرّة فيشفقوا و يصدُقوا.
      كنّا جالسين قبالة كومة المتاع،كنت انتهيتَ ساعتها من تكديس أغراضك استعدادا للسّفر إلى الاّشيء ، إلى كلّ شيء،إلى حلمك المؤجّل،إلى أرضك الموعودة خشية أن يبادرك حلمك بالزّيارة فيطيل المكوث تحت مسامّك و يكسوك طحالب عفنة لا فكاك منها..أمتعتك كانت تسوّط بدني،و عيون فُرنُك الصّغير المحروق كانت تلقي عليّ بنظرات فاجرة ،و أسفك يكاد ينطق به كرسيّك القماشيّ..
        الضّباب الحزين الّليلة أشبه ببخور عاهرة،عاقر،قتلت لتوّها سكرانا خائر الشّهوة اقتحم عربتها دون أن يتفطّن أنّها مشغولة و أنّ المصباح الأحمر هو الذي يضيء..فتصاعد،تصاعد ما أبشع صورتك فوق مدينتي،تصاعد أيّها الضّباب و لا تُصدّق رُغاءهم و تضرّعهم الخاسىء ؛..بالأمس انهالت عليّ الحلاّقة المحترمة التي تسكن تحتي بوابل من الشّتائم و الصّراخ.ما أستطيع نقله هو أنّي في نظرها أحقر مخلوق في الكون،كنت فوق،و نزلت كما أراك ينزل اليوم هذا البخار الأبيض،فقط قلت لها خفّضي من صوت موسيقاك الجميلة..أرأيت ماذا جنيت؟أرأيت يا أبي كيف صاروا  يستبيحونني لمجرّد أنّك ثرت..كان لابدّ أن أسكت كي لا تنفلق محوصلتها القذرة في وجهي أكثر و تجبرني على قتلها إن هي ضمّت رحيلك إلى قائمة الشّتائم..خشيت أن أعكّر قهوتك و نسكك فانصرفت ..أنا هنا لأغريك بالبقاء هناك أكثر و لأصوّر لك أنّ كلّ شيء على ما يرام و بأنّك على صواب ..
      ما الذي منعني إذن من مصارحتك بأنّ شَايَكَ قطف راحتي؟
     ربّما لم أشأ أن أفسد إحساسك بالعتق و بأنّك توصّلت أخيرا لوصفة الخلاص و بأنّك تدفع عن نفسك برحيلك قلق عمر أورثتك إيّاه مدينة الفزع و القلق و التّلف و الرّقيّة بصحائف الشّيطان هذه..أو ربّما ببساطة لأنّي جبان و حقير كما قالت الحلاّقة و هذا أرجح..كانت محقّة..أن تحمل مبرّرين أشدّ عارا من الدّعارة..لذلك لم تكن ترى في جوهرها عيبا..سأُبدي لها    و للجميع أنّي أنزّه نفسي عن عراكها و هيافة عقلها،و سأخفي بداخلي محاولاتي المتواصلة الرّاجفة للبحث في داخلي عن أعمال شنيعة قمت بها فيما مضى لعلّها تجعلني أنال مرتبة الحقارة فعلا،فربّما يزول عتبي عليها و قلقي لأنّي لم أنتقم منها..
    هل بلغك يا أبي أنّي صرت أحمل مبرّرين تماما مثلهم؟ المدلّس المسالم أشهره و أجهر به و  الحقيقيّ المُهين أقفل عليه في الدّرج بألف مفتاح و ألف رقم سرّيّ ؟  
        زخّات مطر خجولة ناعمة بدأت بالتّساقط،و أنا بعد واقف أقترف بعض الهواء المنعش،و ما عفت عنه هراوات و حجارة منتصف الّليل من مصابيح لا تزال تجاهد و تتحدّى بضوئها اللاّهث الأصفر الانتحاريّ أكلة النّور بضراوة و غباء..أراقبها كأنّي أنتظر منها ردّة فعل ما.
       أبي صار يدين بـقهوته الجيّدة المُلهِمة الرّائعة لقهوتي المرّة..أخبرني من هناك حال وصوله بأنّه أصبح يشربها معطّرة بالحريّة و الصّلاة..كان سعيدا في محرابه الجديد،كان يمدحه ،و يؤدّي النّذر كما لم يفعل من قبل،كنت أصغي إليه باعتزاز والد الشّهيد،و علمت أنّ عليّ،كي تصحّ طمأنينته،أن أتلقّى عطن بنات آوى و قذى ألسنتهم و فصاحتهم المشوّهة بسعة صدر ،في النّهاية لست آثما كنت فقط أخاطب القوم بما يفهمون،و بشّرته بأنّ النّاس هنا كما تركهم لا زالت تعلو وجوههم سحنة متأرجحة كالتي سيؤول إليها وجه مهرّج  سيق له نبأ سيّء و هو يلبس بعد زيّه المزركش و أنفه الأحمر       و باروكته الصّفراء المجعّدة..
       يرون في رحيل أبي الغريب كما يسمّونه،إلى أرض الله الواسعة عارا لنا جميعا،فضيحة آخر العمر.. كان لابدّ أن أقتبس كيدهم و أعيد لهم بضاعتهم،و أخفي أذاهم عنك كي تنعم أنت بالسّكينة و الأمن هناك..قرارك لم يترك لي المجال لأختار      و أجادل و أعرض عن أسئلتهم الحارقة و أتحدّى تأويلاتهم الأمّيّة بالحسم كما فعلت أنت..صرتُ من أجل راحتك تلميذهم النّابغة..لم يكن متاحا أن يختار كلانا،كنتَ الأقوى و الأكثر إخلاصا لمبادئه..كي يتحرّر أحدنا كان يجب أن تذعن رقبة الآخر لصواقيرهم الصّدئة و أنيابهم المشعّرة..
      أحتمي و أجول ببصري ناحية الأسقف و المداخن السّوداء التي انتشرت فوقها،و أسلاك الكهرباء العارية المتشابكة بنزق  و فوضى،أصيخ السّمع فأميّز هديرها المُخيف كتمائم السّحرة   و هي تلامس الرّذاذ الخفيف.يشتدّ البرد و كلّ شيء يوحي بفجيعة أو انفجار أو موت مباغت أو دنوّ غارة.و يسيطر طنين الصّمت،تماما كما خيّم فوق رؤوسنا و نحن جالسان قبالة المتاع ،ساعات قبل رحيلك..كانت نيّة كلينا في الغوص أكثر في عمق ذاكرته هو ما زاد الموقف وقعا و حرجا و الدّقائق طولا و قفرا،حتّى كأنّ  زعيقا حادّا يكاد ينطلق من بين شفاهنا المطبقة..
     يتحوّل أبي إلى كائن شفّاف كالطّيف و يقول بصوت خافت،كأنّه يتوسّط المسافة بين الشّرح و الكتمان،يجيب على سؤالي الأخرس:"ما الذي تُقدم عليه؟هل جننت؟"
     - كرهتها و كرهتني و لم يعد لي بين ثناياها ما يسمح لي بالتّنفّس، اختنقت..
    أُطرِق و يواصل:
    - لن أهديها طردي..اقتسموا المدينة و لم يصحّ أنّ بيتي من نصيبي..أسلاكهم الشّائكة و أغلالهم تشرنقني..صلبوا الحقّ     و ارتجلوا على عَجَل آلهة أخرى قابلة للإقصاء و تنازعوا بينهم شرف تسييرها،و توعّدوا بالرّجم حتّى الموت من يشرك بها اِلاها آخر..
    - أبي ماذا سيقول النّاس؟
    - جاء دوري لأقول..
    - و ماذا عنّي ،عن إخوتي،عن..
    - مدينتك ليست أكثر من  بربريّة قبيحة تخون زوجها الثّائر القويّ مع رومانيّ مترف مسلول مخنّث.. لقد ماتت بداخلي .بتّ أحمل جيفة بين ضلوعي. يجب أن أتخلّص منها..ستقتلني إن هي بقيت أكثر..
     و يرمقني أبي بنظرة سرور دافئة عابرة غامضة كالّلغز من تحت النظّارة،لست أفكّ معانيها،و يشبك يديه أمام وجهه         و يضغط بأسنانه على أظافر إبهامه الأيمن و الأيسر كأنّه يتضرّع،و يشرد..لا أدري وقتها لم زارني إحساس بأنّي أبدو في عينيه كما يبدو الطاووس المعتقل مع الدّجاج في نظر فتى يتهيّأ للذّهاب إلى المصيف؛سوف لن يشفق الفتى على كرامة صديقه الطّاووس و حبسه بقدر ما سيشفق عليه لإنّه لن يتسنّى له الذّهاب إلى المصيف هو أيضا.
       أصمت و أشيح عنه بوجهي ناحية سريره الخشبيّ.و أتذكّر زوجتي التي هجرتني من أشهر،بعدما أحرقت جميع مخطوطاتي على آخر حرف و مسحت الحاسوب دون أن أشكو لأيّ كان..يحسب أبي أنّي اقتنعت،أو على الأقلّ أنّي أنسحب من النّقاش..و أفكّر:ماذا يعني أن أخسر عمرا و أنا أنزف و آسف  و أدافع و أراهن و أئنّ و أتأمّل و أتساءل و أكتب و أضحك    و أبكي..؟..إلى أين كان خسراني نصوصي سيوجّه قصّة الوجود الإنساني؟ما نفع أن تُراق مخطوطاتي و تتحوّل إلى دخان؟ ماذا كان ضرّ احتمال أن تعيش؟..و أنسى..
        يقوى المطر و يتوقّف مرّة واحدة كقفلة سمفونيّة،و يتراجع الضّباب و يتآكل في الأفق.ألقي عقب السّيجارة كما اتّفق و أدخل.
     مررت اليوم بمصحّة تصفية الدّم و استرعى انتباهي أنّ صاحبها غيّر اسمها من مصحّة شهرزاد إلى مصحّة حنان لتصفية الدّم.فوق الطّاولة قال بأنّه فعل ذلك ليعدل بين بناته      و لئلاّ تغضب الأخريات،و بأنّه سيسميّ المصحّة بأسمائهنّ تباعا..
      كانت تلك هي الذّريعة البديعة،و تنام في درج المكتب ؛أكوام من فواتير الضّرائب التي كان يجب أن يعلن من أجلها إفلاس الاسم الأوّل،و يبعث اسما جديدا مغايرا كي تتحوّل ديون الأولى إلى لا شيء.
       و ضاعف في غيابك النخّاس الوحيد معلوم انتصاب التّجار من مدّة،و قال فوق الطّاولة سيتكفّل هذا الإجراء بإعادة النّظام  و إزاحة المتطفّلين و القضاء على الهرج و الفوضى ،و في درجه المقفل بألف شفرة ؛إيصالات بمبالغ خياليّة كتبها لمقرضيه على طاولة القمار..
      و اقترح اتّحاد السّاسة المُقاولين على هيأة التّقويم الفلكيّ زيادة ثلاثة أيّام إضافيّة في أيّام الأسبوع ،و قال تقريرهم فوق الطّاولة بأنّ ذلك سيضمن لطلاّبنا فرصة أكبر لاستيعاب العلوم و تحصيلها، و أضمروا في درج مكاتبهم مشروعا للزيادة في ساعات عمل  بنّائيهم دون زيادة في الرّواتب.. و وافق المنجّمون لنبل المطلب..
      و لكن تبقى الجريمة الكبرى في نظرهم هي رحيلك يا أبي.. لا أدري لماذا .. هل يرضيك أن أدعهم هكذا يوبّخوننا و إيّاك ؟
    أعلم أنّ الرّحيل مرتبة لا ينالها إلاّ الشّرفاء..
      مع ذلك كنت  فوق الطّاولة أقول لقوارض الحكايات و عشّاق التّأليف بأنّك حصلت على عقد عمل بمدرسة خاصّة كمدرّس للّغة العربيّة،و بأنّهم يدفعون لك مرتّبا محترما.و كانوا فوق الطّاولة يهتفون بصيحة إعجاب و يصفّقون لطموحك و مثاليّتك و يهنّئونني و أمّي و إخوتي بك،و في الدرج كانوا يحبسون بألف مفتاح غيرة لا حدّ لها. و أتكتّم في درجي على أنّك تحمل المصحف و دواوين بابلو نيرودا في ذات القلب..على كلّ أتلفت طاولتهم بدرجها، فاحتسِ قهوتك المعتّقة بالحرّيّة و الصّلاة..
       السّاعة الآن تشير إلى منتصف الّليل..دخل لتوّه يوم جديد، كابوس جديد؛إنّه الخامس و الثّلاثون من شهر نوفمبر،أي ما يقابل الخامس من شهر ديسمبر في أرض أبي الجديدة؛ أغلق منافذ الصّفير.و أسخّن العشاء.بخار القدر يطلق شدّ أصابعي.. أضع الصّحن فوق الطّاولة ،و يخطر لي و أنا آكل أن أصنع لها درجا في أقرب فرصة ..لم لا ..؟




    محمد فطومي 

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق