• الرئيسيّة

  • الثلاثاء، 11 ماي 2021

    البنّاء / مجلة البحرين الثقافية العدد 104 لشهر أفريل 2021

     




    البَنَّاء

     

        بدا كأنّ الحشد، بين مُغادر ووافد، لم يبرح، طيلة النّهار، مُحيط ڥيلاّ أحد أثرياء المدينة المُقيمين في فرنسا. كان من الصّعب تخمين ما يجول في أذهان النّاس صباح ذلك اليوم الخريفي الكئيب. لم يسبق لأحد أن رأى ما يُشبه ذلك من قبل. كانت دون ريب تحفة فنّية تحبس الأنفاس. ثمّة من اقترف هذا الجمال في غفلة من الجميع. لكن كيف تسنّى لهم أن يفعلوا دون أن يتفطّن إليهم عمّال محطّة الوقود المجاورة ودون أن يسمع صاحب البيت أصوات المطارق والأزاميل وهي تهوي على جدار السّور بذلك العنف؟ يعلم الجميع أنّ الڥيلا كانت مُجهّزة بكاميرات مراقبة بالإضافة إلى أنّ كلابا مُدرّبة كانت تجوب الحديقة بحُرّية. على طول السّور المواجه لشارع كبير رُسمت صورة لامرأة تستعدّ لاحتضان طفل يتعثّر في خطواته الأولى. أُنجِزَت اللوحة بواسطة ثقوب وأخاديد عميقة في الجدار. امتزج الشّعور بالحيرة والانبهار في البداية. كان لغزا مُحكم الإغلاق جعل كلَّ محاولة لاختراقه شبيهة بالقفز في الفراغ. ثمّ سرعان ما تحوّل الذّهول إلى حلقات نقاش صاخبة غلب عليها التنافس في تقديم التّفاسير على نحو يوحي بأنّها ساحة جريمة. لكن خلال الأيّام التالية وقف البعض أمام الرّسم كأنّهم يشاهدون قطارا مقلوبا أو أثر صاعقة. راج الحديث في المقاهي والمكاتب والصّحافة عن الرّسم. تعدّدت الآراء واختلط الواقعي البائس بالخيالي الحالم. لاحت الصّورة مهيبة وضاحكة، مُتحدّية الأبصار المُعجَبَة بها والحاقدة على غرورها في آن. وانقسم الناس بين مؤيّد لفكرة كائنات فضائيّة خارقة وبين مُكذّبين لنفي صاحب البيت علمه بما حصل. قرّر آخرون أنّ صنع مئات الثّقوب في جدار مقابل لأكثر شوارع المدينة حركةً، مع مراعاة جانب الفنّ، دون شكّ عملُ شياطين. ورجّح بعضُ المتعقّلين أنّ الحُفَرَ كانت نتيجة وابل من الرّصاص المكتوم. غير أنّ كلَّ من سمع ذلك ضحك ساخرا. وفيما اهتدى فريق إلى أنّه سحر، توقّع آخرون حدوث كارثة عمّا قريب.

      بعد أسابيع لم تتقدّم فيها الأبحاث الأمنيّة خطوة واحدة عدا الاستماع إلى الشّهادات ومتابعة ما سجّلته كاميرات المراقبة المنتشرة في المكان دون جدوى، استفاق سكّان مدينة مجاورة على لوحة رُسمت أيضا بالمطرقة والإزميل على الواجهة الجانبيّة لأحد الفنادق الصّغيرة، تظهر فيها امرأة نصف مُمَدّدة على سرير. لكنّ القضيّة لم تتحوّل إلى شأن وطني إلاّ عندما تكرّرت الظّاهرة في العاصمة حيثُ ازدحم النّاسُ لرؤية الشابّ المرسوم بتقنية الثّقوب والأخاديد على جدار أحد معاهد الموسيقى الرّاقية، والذي كان يبدو فيها ماسكا بقضبان بوّابة ضخمة. عندها وكما لو كان الحدث قد رُصِد للمرّة الأولى تشكّلت خليّة عدليّة للتحرّي واستعذَبَ الناسُ فكرة أنّ كائنات فضائيّة تحوم في سماء البلاد. فاتّجهت الأنظار نحو السّماء وضُرِبَت الخيام في الغابات وقرب التلال لمباغتة الغزاة الخارقين، وانتشر كمّ هائل من فيديوهات لجثث غريبة وأطباق طائرة سجّلت حضورها في الجهات هنا وهناك، قبل أن تختفي كالبرق. انتشرت تجارة النّيازك رغم أنّه لا أحد سمع كلمة إعجاب بحجارته المُحمَرّة الدّاكنة. تضاعف سعرُ الماء والتّبغ. سمع محلّلون نفسيّون مُحتَرَمون شتائم مهينة لأنّ كلامهم كان باعثا على الغثيان. وهُيّئت في الفضائيّات كراسِيُّ قارّة للفلكيّين. أُعفِيَ منتحلو صفة المنجّمين ذوي السّمعة الجيّدة في البلاد من دفع الغرامة ودخول السّجن لحداثة سنّهم، ونزل آلاف إلى الشّوارع مُطالبين بحقّهم في الإغلاق على أنفسهم خلف أسوار الأديِرة. سالت دماءٌ على الرّصيف من أجل ذلك وأُسنِدَت رخصٌ مُعَقَّدة تنظّمُ حياة العزلة.

      جُمعت القرائن ودُوّنت التّقارير وعُقدت اجتماعات سرّية في مقرّ القيادة العليا لسلامة أمن الدّولة، لتُفضي أشغال التقصّي إلى عرض مُصوّر قدّمه رئيس الخليّة:

    «لنُعد تركيب القطع المتناثرة:

    علمنا أنّ هذه الجدران الثّلاثة تنتمي إلى بنايات كان أصحابها غائبين أثناء عمليّة تشييدها. وبالتعمّق أكثر في البحث توصّلنا إلى أنّ بنّاءً واحدا اسمُه (شوقي الصّافي) المُكنّى بـــ "القلم" قام بتلبيس الجدران من الدّاخل والخارج.»

      أُلقِيَ القبْضُ على شوقي الصّافي المُختبئ في شقّة صغيرة، ليلة قبل تسلّله عبر الحدود الشرقيّة. في أقبية التّحقيق اعترف بأنّه كان وراء أعمال التّخريب كما كان المُحقّقون يُطلقون عليها، والتي فضّل المُتضرّرون الاحتفاظ بها.

    - ما عملك؟ قال الضّابط.

    - بنّاء.

    - هل لديك شهادة من أيّ نوع؟

    - انقطعتُ عن مرحلتي الجامعيّة قبل سنة من التخرّج للعناية بأمّي المريضة.

    - كيف فعلتها؟

    - لديَّ دراية بالكيمياء، ولأنّي لم أحصل على شهادتي فقد قرّرتُ صنع شيء أتوهّم من خلاله أنّني إنسانٌ مهمّ. بعد تجارب دامت سنواتٍ طويلةً، توصّلتُ إلى تركيبة قادرة على تفتيت الخرسانة بعد مرور سنة أو سنتين. كنتُ أرسم لوحاتي بوضع نقاط بإصبعي من مادّتي على الآجرّ قبل تلبيس الجدران بالإسمنت.. حسنًا، يبدو أنّ المادّة قامت بشغل جيّد ما دمتُ هنا الآن.

    روى السّائق الذي أقلّ البنّاء إلى مكان مجهول معصوبَ العَيْنَيْن ومُغطّى بالكدمات، أنّه أحدث سحابة بخار على زجاج السيّارة ثمّ رسم نقطة في وسطها.

    لن ينسى رئيس الخليّة العدليّة ابتسامة الـــ«قلم» الهادئة ونظراته الجليديّة، والمكالمة الأخطر التي تلقّاها في مسيرته:

    «طبّق الإجراء (ج) أيّها اللّواء. لا نُريدُ مشاكل قد تُعكّر الصّفوَ العَامّ.. حرامٌ أن يسقط شعبٌ بأسره من النّجوم».

    ***

     

     

    محمد فطومي

    تونس


    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق