• الرئيسيّة

  • الأحد، 11 أفريل 2021

    الوجود الافتراضي والسعادة المأساوية

     

      الوجود الافتراضي والسعادة المأساويّة

     

     أسقُط في المجانيّة والتحامِلِ المُتعَجّل لو أنكرتُ دور وسائل التواصل الاجتماعي - وعلى رأسها فيسبوك - في نشر الثّقافة وتقديم الفائدة والتعريف بالإنجازات الفنيّة وغيرها. لكن ماذا لو أثبتَ التاريخُ أنّ انتشارها بين الناس لم يكن خيرا شمل جُلَّ سُكّان الكوكب بل أفظع تفشٍّ لوباء اجتماعي رقمي حدث على الإطلاق وأنّ ما جرى حقيقة هو أكبر عمليّة اختطاف إنسانيّة عبر العُصور. إنّما في غياب هذا الاحتمال الذي قد لا أكون من أهل الحياة إن أيَّدَ حدسي، فسأكتفي بتسجيل انطباع ما انفَكّ يُضايِقُني، لذا فقد ارتأيتُ، أخيرا، كي أتطهَّر من رُهاب الوجوديّة الرّقميّة الجديدة تحويلَ هذا القلق إلى كلمات لعلَّه يهدأ.

      الآن، لنتَخَيَّل أنّ أحد الرُكّاب في حافلة مليئة بالمُسافرين يقطَعُ الصّمتَ الكئيب المُخيّم على المكان، ليقف فجأة ويُبدي رأيَه في شخصيّة سياسيّة أو يُعبِّرَ عن تعصُّبه لفريق كرة قدم أو ليُصادِرَ حقّ هذا أو ذاك في أن يبغض ما يشاء، الخ... هل كان الحاضرون سيُعفونه من نظراتهم المُرتابة وهمساتهم السّاخرة؟ قطعا لا. هذا ما يحدثُ كلَّ دقيقة في فيسبوك، هذا المسرَحُ المعتوه الذي يُقدّم فيه الجُمهور عرضَه الصّاخب أمام المقاعد الشّاغرة، غير أنّ أحدا لن يَشُكّ في صحّة مداركك لو قمتَ بما يُشبه ما قام به مُسافِرُنا لو كتَبتَ منشورا عشوائيّا ومُسقَطا.

      ربّما نزّلنا إبداء الرّأي في الشّؤون العامّة منزلةً أفضل من منشورات البكاء والشّكوى والهزل والهذيان والعبث. لكن عموما حتّى إبداء وجهة النّظر يخضَعُ إلى شروط أهمّها السّياقُ والحوارُ والموضوع المُحَدّد. وإلاّ فهي كلامٌ يُلقى دون مناسبة على مسامِعَ أناسٍ لا يربطُ بينهم وبين صاحب الكلام موعِد. فكيف، إذًا، بمن يناجي ربَّه في منشور فيسبوكي أو من يتأوّه أو يصرُخ! بل لقد لاحظتُ عددا كبيرا من التدوينات التي يُفتَرَضُ أنّها تدخُل في دائرة ما يقوله المرء لنفسِه؛ إلى حدّ يجعلني على يقين أنّ عبارة (قال في نفسِه) ستفقدُ معناها ذات يوم.

       وأنا أجوب صفحتي تمُرُّ أمامي زفراتٌ وعَبَراتٌ وحسراتٌ وانفعالات حارَّة تُحرَمُ من مكانها الطّبيعي: القلب أو الدّفتر الخاص، لأنَّ أصحابها أبَوْا إلاّ أن يصدَحوا بها بالنّقر على لوحة مفاتيح. غريب حقّا أن تخرجُ الصّرخة الحديثة مكتومة من بين الأصابع بدلَ أن تخرج حارّة من الحناجر، ومسموعة بواسطة العيون المُنهَكَة بَدَل الآذان الصاغية، وأن يُعَلِّق المُتضرِّعُ إلى الله نُسخةً من دعائه على جدارِه الالكتروني مخافة ألاّ يعلَم غيره بأنّه ناجى ربَّه. هذه أمثلة عن المفارقات التي يعُجُّ بها الفضاء الأزرق حيثُ الأغلبيّة تكابدُ يوميّا وعلى مدار السّاعة لترسيخِها. ثمَّ يُقال إنّ التقدّم التكنولوجي قد منح الإنسانَ فرصة عيش أفضل. هذا صحيح على الأغلب، لكن ليس حينَ تستغلُّ التكنولوجيا افتتانَ الإنسان بالتّعبير لتُصوِّرَ له أنّ الحياة موت ما لم تكن عرضا مُباشرا على الهواء. وأنّ مصيرَه الوحدَة المريرة لو رفض العيش داخل شاشة حاسوبه أو هاتفه. حينها بدَلَ أن يكون المُحَرِّكُ الحضاري الأسمى للحياة هو مدى إدراكنا للعالم من حولنا، نكون على العكس قد اختصرنا النّوع الإنساني في ثنائيّة المُتّصل والمُنفَصل. أي أنّكَ مفقود حتّى نرى مُؤشّرَك الأخضر مُضيئا، في تلك الحالة يُرَحَّبُ بك اسما صاحبُه على قيد الحياة فحسب، لكنّك لن تنالَ اعترافا بالوجود إلاّ إذا "حرّكتَ قدرَكَ الصّغير". قبلَ أن تسقُطُ في النّسيان ثانية، فتصطلي بنار الحاجة إلى الظّهور من جديد لأنّ المنصّة الزّرقاء بالوعة جاحدة، وهكذا نظلُّ ننُطّ دون توقّف أمام بعضنا كجرادٍ مُحاصَر لأنّنا لا نحتملُ فكرة الطّيران.

        دون شكٍّ نحنُ نعيشُ صميمَ الانحطاط، والسّبب هو أنّنا تركنا الحاضِرَ بما هو وعيٌ بالدّور وشجاعةٌ على مُواجهة الذات النَّكِرَة القادرة بمُفرَدها على حماية وجودها المُستَقِل من تغَوُّل رغبتها في بناء العلاقات مع الغير. الذاتُ ذكيّة وهي قادرة على شقّ طريقها في الحياة وتذوّق مسرّاتها وتضميد جراحِها دون هَوَسِ النّقل الفوري والمُستَمِرّ لمسارها ودون خوف من أن تموت قبلَ أن تشهد ذاتٌ أخرى أنّها كانت موجودة. وإنّه من المُخزي حقّا أن نرى أناسا يستدرّون عاطفة الآخرين أو إطراءهم كأنّ المرض أو المُصيبة أهوَنُ من ألاّ يعلَمَ غيرُنا بها وكأنّ ساعة الطمأنينة أو الغبطة هو تهديد بالاختناق لو لم يعلَم غيرُنا بها.

          حريٌّ بالتطوّر أن يكون انتقالا من وضعٍ إلى آخر أرقى، لا توغُّلا في المجهول الذي هو في الحقيقة شرّ معلوم بالنّسبة إلى لصوص العقل الحُرّ المُدرِكِ لقيمته والماسك بزمام أموره واختياراته والواعي بما يُريد. ولأنّ العالم الافتراضي نُسخة مُشوَّهة عن العالم الطبيعي فهو يفرضُ مفاهيمه واحتمالاته وأمراضَهُ ككلّ مُحتَلٍّ خبيث يريدُ تنصيب نفسه بديلا. من بين مفاهيمه الخطيرة أذكُرُ مفهوم السّعادة التي لا "تعملُ" إلاّ إذا تمّ "تشغيلُها". السّعادة التي تطلُبُ الإذنَ قبل أن يسمَح لها صاحِبُها بدخول قلبه. كان علينا الحفاظ على هذا العقل الذي تطلّب البلوغ به إلى هذه المنزلة من الذكاء المُذهل والقدرة على الخلق ملايين السّنين، لكن بَدَل ذلك سعيْنا، بحُمق، مدفوعين بالرّغبة في الظّهور وإثارة الاهتمام إلى إضفاء وجود على وجودنا الطبيعي مُتمثّل في تسوّل دائم لاعتراف من قِبَل الآخرين بأنّنا لسنا عدما لمُجرَّد أنّنا لم نُذكّرهم بذلك. منذُ متى كان الوجود مُرتبطا بالظّهور؟ إن كان الأمر كذلك فإنّ الكائنات الأكثر وجودا هم مجانين المُدن، لأنّهم الأشهر دائما. هكذا يُمسَخُ معنى الوجود من صفة فكريّة وعاطفيّة ذاتيّة واعية تتحقّق بأداء الدّور إلى المعنى الأكثر سذاجة على الإطلاق والمُتجسّد في أن يعلم غيرُنا بوجودنا. لن نستعيد حريّتنا ولن نكسب حربنا ضدَّ البرمجيّات ما لم نَخُضها من الأساس، ما لم نتّخذ مسافة بين موطئ أقدامنا وبين أدوات الزّمن الرّاهن. إن لم نفعَل دُفنّا تحت رُكامٍ من صنعِ أيدينا، كمن يحفر نفقا ويُلقي التّراب وراءه. ألهذا الحدّ اهتزّت ثقة الإنسان في وجوده حتّى باتت تأشيرة تُعطيها الأنوات الأخرى على موقع إلكتروني؟  من البديهي أنّ أعظم كارثة هي انهيار الإنجاز الأعظم على سطح هذا الكوكب. وبما أنّ الكائن الإنساني هو هذا الإنجاز فلن يتسبّب شيء في دمارِه وتَحوّله إلى شحاذ وجود وخادما لرغباته سوى نهمه المُتوَحِّش للتمَيُّز.

          ثمّة فرق بين التطوُّر وبين التمادي وما نعيشُه اليوم لا اختلاف في أنّه انزلاق جماعي يفقد معه الفرد والجماعة على حدّ السّواء قدرتهما على التوقّف أو تغيير المسار، ربّما تكون خطوة تكنولوجيّة عملاقة لكنّها خُطوة نحو الهاوية: انتهاء الإنسان وبداية الآخر. وأعني بالآخر الآلة التي لن تتأخّر جزءًا من الثانية في احتلال الكون واسعبادِنا حالما يبدو لها أنّنا زاهدون في الطّبيعة ومُتخلّون عن تفوُّقنا العقلي. هذا التفوُّق القائم على قدرتنا على تشخيص عِلَلِنا بتبَصُّر وحكمة، القائم أيضا على مناعَتنا ضدَّ السّقوط في فخِّ السّطحيّة. سنَخْسَرُ هذه السّيادة يوما لو تواصَل انسِياقُنا نحو  المُتراكم الإنساني وتصديق قشرته العُلويّة واتّخاذها حقيقة.

        إنّها إذًا، قصّة أناس قرّروا أنّ الذّاتَ لم تعد النطاق الوحيد للشّعور بوجودِها في هذا الكون وأنّ الوجودَ هو "الانوِجادُ" الذي نستَجديه على غرار: « أنا بينَكم إذًا أنا موجود»، «طالما أنا أُشاهَد، إذًا فأنا شيء ما»، والذي نُسكِتُه ثمَّ سُرعان ما نشعُر نحوَه بالجوع وهكذا إلى ما لانهاية. من أسقطنا في شركِ وجود يحتاجُ إلى الشّحن من حين إلى آخر غير ظاهرة "الشّهرة لكلِّ وجه" التي استخدَمتها وسائل التواصل الاجتماعي كَطُعم لا يُقاوَم (حتّى بعد اكتشاف الخدعة).  ناهيكَ أنّ السعادة لم تعد مُكتَفية بذاتها بوصفها حالة امتلاء خالية من أيّ حاجة وإلاّ فهي سعادة مأساويّة لا تُساوي حجمَها، إذ كيفَ نكون سُعداء ونحنُ ننوء بعبء الحاجة إلى إخبار الغير بذلك، كأنّنا نضعُ للرّضا شرطا ونُسلّم الآخر مفاتيح هذا الشّعور الخاصّ. كيف نكون سُعداء وقد جعلنا الآخر مانحا لـــــــ"صكَّ سعادة"؟ والحالُ أنّ الأحاسيس العَذبَة المُرتَبِطة بالسّلام مُكتَمِلة بذاتها ولا يُعقَلُ أن تكون السّلامُ المُحَقَّقُ حالة مُعَلّقة وإلاّ جاز القول مثلا إنّ العدد 5 يحتاجُ إضافة العدد 1 كي يكون 5. مؤكّدٌ أنّه الخوف من التوَحُّد الرّقمي ما يجعلنا نؤدّي طقسَ "الانوِجاد" اليومي متوهّمين أنّ ذلك يُبعِدُ شبحَ الانعدام. فكأنّي بمُستخدمي المنصّة الزّرقاء مُجبَرون على مُقايَضة حُرّيتهم مُقابل الحصول على إذن بممارستها ومُقايضة شعور الانسجام مع الطّبيعة مُقابل الشّعور بأنّ الآخرين يشهَدون بذلك، سبيلُهم في هذا الاستظهار اليومي ببرهان يُثبتُ أنّهم من أهل هذا العالم وإلاّ فهُم عدم. هكذا اتّخذ معنى الوجود أبعادا خطيرة وجبَ أن تحظى باهتمام الباحث المُعاصر كما وجب الكفُّ عن اعتبار  فيسبوك منصّة تواصل اجتماعي لأنّها في الواقع منصّة  تبادل وجودي. وأنا إذ أقول هذا لا أدعو إلى مُقاطعته بل إلى الوعي بالخطر الذي يتهدّد طبيعَتنا الرّاسخة في كلّ خليّة منّا، لأنّ الوعيَ بالظّواهر هو السدّ المنيع الذي سيُجنّبُنا الوقوع بين براثن الآلة ولأنّ المزحة المسمومة لا تُحذّر ولا ترحَم.

    ***

    محمد فطومي

    روائي وقاص تونسي

    05/02/2021

     

     

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق