• الرئيسيّة

  • الثلاثاء، 31 جويلية 2012

    مهيوب




      فجأة طوّر لصوته ذبذبة تميّزه عن بقيّة الخلق و استيقظت بداخله فطرة الحرص و جوع القيادة ،فلبس العمامة و ادّعى الطبّ و أعلن الوصاية على الجميع..كان لابدّ له من خارقة ليتلألأ و يثبت للعشيرة أنّه الرّبان بلا منازع..حتّى بندقيّة الجدّ أصبحت تنام في دولابه بدلا من دولاب أبيه.
      فجأة أيضا صار الجميع بحاجة إليه كما لو أنّ الأشياء كانت معطّلة بانتظار صحوة الحرص و الحكمة لديه..الظّاهرة ذات شقّين فحرص يزداد حجمه من جهته، يناظره إذعان و تسليم ينمو من جهة أهل القرية..راق له فهمهم و تأقلمهم السّريع و ثقتهم التي ولدت كبيرة من يومها،فراح يتدارك ما فاته.عدّ أطفال أهل القرية،حفظ أسماءهم جميعا، أحصى المواشي،تنبّأ بأحوال الطّقس سنة إلى الأمام،ضبط للفلاّحين مواعيد الحراثة و الزّراعة،أمّهم في المسجد، كرّس نفسه لسماع همومهم،و تدريجيّا صارت المسائل كلّها تعود إليه بالنّظر ،حتّى القرارات  و المصائر باتت بيديه.أعطى الوصفات،حدّد الأدوية و أوقات تناولها و كان أحيانا يتمّ صفقات بيع و شراء نيابة عن أصحاب الشّأن.فسّر الأحلام،تكهّن للنّسوة بجنس الجنين في بطونهم. كان يرسل هذا إلى المدرسة و يقصي آخر لغاية في نفسه،لم يكن أصحاب الشّأن مدعوّين لمعرفتها. ثمّ رويدا رويدا تلاشت الأسماء كليّا و ظلّ اسمه فقط يتردّد بين النّاس:                قال مهيوب..رفض مهيوب..نبّهني إليها مهيوب..ذكّرني بها مهيوب..تكفّل بها مهيوب..أعجبت مهيوب..سأشتكيك إلى مهيوب..كلّفني به مهيوب..
      في المقابل غيّر مهيوب ملامح وجهه بحسب وضعه الجديد،كأكثر الرّجال فهما و فطنة و إلماما بأخبار القرية و العالم بأسره،و استبدّ و لم يعد يصغي إلى أحد على الإطلاق حتّى لو اعتقدتَّ عكس ذلك،و صار الحديث إليه أشبه بالاستمرار في دقّ مسمار غائب في الخشبة.
      يخطّط مهيوب لكلّ كبيرة و صغيرة،لا شيء يفلت عن ذاكرته الفولاذيّة أو عن مداركه الجديدة.و لتكتمل صورة البطولة التي زعمها و أوهم بها النّاس ، حذف كلمة "لا أدري" من حديثه و استبدلها ببعض الكلمات الأجنبيّة يرطن بها في غير محلّها غالبا؛كيف أقول في غير محلّها؟بل هي دائما في محلّها مادات الغاية منها ترهيب العباد و إزاحتهم كليّا عن دائرة الصّواب و الشّطارة ،و محو خبراتهم..و لقد فعل.
    و لكن حين لا تكون هناك امرأة أو شابّة تتابع صولاته و فروسيّته و هو يسدي الخدمات و ينثر تعليماته و معارفه في أرجاء القرية و يحشر أنفه في كلّ كبيرة و صغيرة ،فإنّ سحنة ازدراء جليّة تغطّي وجهه كما لو أنّ أحدهم دُعي لإتمام عمل كان تقاضى أجره بالكامل قبل أشهر..دهشة جمهور الرّجال دون نسوة كانت بالنّسبة إليه باردة بيضاء كميدعة طبيب تتدلّى من حبل غسيل ليلة شتاء.و عبارات الشّكر و الإعجاب من جهتهم لم تكن تشبع رعشة الحرص لديه،و كان يتلقّاها كأنّك تهنّأ بالزّواج أحد الذين تعرفهم و انقطعت عنك أخباره بعد أربعة أعوام من زواجه.(لا سيّما إذا كان من الذين أدركهم الوعي المبكّر بأنّك إذا تزوّجت فهذا يعني أنّك قرّرت أن تعيش من دون المرأة بقيّة عمرك).
      كان يشرف على تفاصيل الأعراس و المآتم،كما لو أنّ المسألة تخصّه،يأمر و ينهى،يبعد و يقرّب،يسخط و يرضى،يرتّب المراسم كما يشتهي،بل لم يكن  بوسع أيّ كان من الأساس أن يزوّج ابنته دون أن يستشيره.
    لا رادع لمهيوب..و من يجرؤ أصلا،فهو دائما على صواب . حكمه ماض في المخلوقات دون استثناء..إنّه الربّان ..إنّه القائد ..أليس في دولابه بندقيّة و تنام تحت سريره حقيبة بها آلة لقيس ضغط الدّم و سمّاعة و عدسة مكبّرة و ما يلزم لتضميد الجراح؟أو لا يملك قائمة الأسماء الأطول بين كلّ الهواتف النقّالة؟
    أعماه التّصفيق من الخلف فتقيّأ على من هم أمامه.تلذّذ لقدرته العجيبة على الإدارة و التّنظيم،و غمره شعور مفرح بأنّه خُلق ليكون الأكثر خبرة بين النّاس أجمعين.
    و كان سياق كلامه في أغلبه عبارة عن تقريع و أوامر و توزيع للأدوار،و كان دائما يبدأه بكلمة "عمّي" سواء خاطب الذّكر أم الأنثى:
    - عمّي ،القرن الأيسر لتيسك الأحمر ينزف..
    - عمّي،حافر السّاق اليمنى الخلفيّة لبقرتك الصّهباء تعفّن و عليك مداواته حالا..
    - عمّي، زوجتك مستاءة من رائحة تبغك..من الآن و صاعدا ممنوع عليك التّدخين داخل بيتك..
    - عمّي،عليكِ أن ترفعي به قضيّة في الطّلاق و أنا أساعدك..
    - صحّح معلوماتك يا جاهل..و لا تناقش..سيزاريا إيفورا هي رئيسة الباكستان و ليست فنّانة كما تقول..من أين تأتون بهذه الدّعابات المضحكة بالله عليكم؟..
      عمّي..عمّي..و في كلّ مرّة يتفاقم الحرص و يشتدّ.
    أمّا ضحكته فكانت نادرة و  نزقة و أشبه بموكب عرس عالق بكامل زينته و بهرجه وسط مستنقع ضحل كست سطح مياهه العفنة السّوداء قشرة من الطّحالب و الضّفادع.
    و كالشّمسيّة تترك الأرض التي تحتها و تظلّل ما حولها،فإنّ أخطبوط الحرص مدّت أذرعها بعيدا ناحية أخواته البنات هذه المرّة كاكتشاف جديد،فحرّض و حدّد المصائر و شكّل كالصّلصال أقدار عائلاتهنّ،و الحمية الغذائيّة لأطفالهنّ و إجازة أزواجهنّ غير مكترث لأمرهم،و عشّش صوته في بيوتهم كسوس النّخل ،حتّى أصبحت عيشتهم  جوفاء خاوية لا تطاق.
     تخيّل للحظة أنّ هناك من هو واقف خلفك يحرّك قطع الشّطرنج نيابة عنك و يداك تحت الطّاولة و لا تملك سوى أن تجوس ببصرك فوق الرّقعة.فكّر أو لا تفكّر فهناك من ينفّذ.حتما ستكون هزيمتك بمفردك ألذّ بكثير من فوز ركيك لست طرفا فيه.
     قويت الأخوات فجأة و داعبهنّ إحساس بالعظمة و التّعالي و صرن ينقلن للربّان همسات أزواجهنّ ذرّة ذرّة،و يلجِأن إليه في حلّ مشاكلهم حتّى من قبل أن يتدارسنها مع أزواجهن،و هي في غالبيّتها تافهة و مخجلة،و لم يكن هو من ناحيته مقصّرا معهن،فقد كان واجبه كأكثر الرّجال حرصا و ذاكرة في الكون يحتّم عليه اتّخاذ القرار و إعادة أصهاره إلى رشدهم كلّما حادوا عن المسار الصّحيح بالزّجر و التّوبيخ تارة و بالتّهديد تارة أخرى:
    - عمّي ،كيف تنسى شراء الخبز..هل هناك ما يشغلك عن زوجتك و عيالك؟هل هناك ما هو أهمّ؟..بربّك أين ذهب عقلك؟أوصل بك الإهمال إلى حدّ نسيان الخبز؟عمي،أنت رجل غير مسئول بالمرّة..لست أتخيّل ما هو أدهى من نسيان الخبز ..أمرك عجيب يا رجل..باختصار و دون إضاعة للوقت ،إمّا أن تعتني بعائلتك كما يلزم أو فلتعد لنا ابنتنا ،نحن نتكفّل بها و بأطفالها..
      و للآخر:
    - عمّي،كيف تنسى نوافذ البيت مفتوحة و تخرج؟..حقّا لا حظّ لأخواتي ..المسكينة..أيّ بخت هذا الذي يلقي بالورد في المزابل..سآتي غدا و سيكون لنا حديث طويل في مصيبة النّسيان هذه التي فتكت بكم جميعا..
    و للآخر ..و للآخر.. و الجرّار  لا يتوقّف.
    ***
          لمهيوب زوجة اسمها نعيمة،و سيصبح أبا عمّا قريب.   
        لمّا شارفت نعيمة على الولادة،ألغى للنّاس جميع مناسباتهم ضمانا منه لتفرّغهم و حرصا على حسن تسخيره إيّاهم لاستقبال الرّبّان الصّغير.اتّفق مع فرقة إنشاد دينيّ، بسط أمام مدخل بيته الرّئيسيّ مسطّحا إسمنتيّا ضعيف الانحدار كي يسهل عليها تخطّيه،اشترى للمولود غطاء أزرق اللّون ليقينه بأنّه ذكر و اسمه عبد الرّحمان،و ركن حافلة جاره الصّغيرة أمام بيته تحسّبا لكلّ طارىء مشاغب قد يخرج على ما سطّره سلفا من حسابات.قرّر ساعة المخاض. و لم ينس أن يعلّق سمكة من الجبس الرديء فوق الباب الخشبيّ للبيت.
     هيّأ كلّ الظّروف بحرص و ثبات شديدين و جلس عاقدا يديه و حاجبيه يترقّب صرخة الزّوجة.
     لم يكذّب عبد الرحمان أباه،فقد جاءت صيحة نعيمة تماما كما قرّر مهيوب.ارتبك لوهلة ثمّ سرعان ما استعاد حرصه.ضغط على الجوّال بإبهامه فحضرت في الحال سيّارتان أخريان لنقل النّسوة المرافقات.وقف وسط البطحاء أمام البيت ينظّم الحركة.وزّع النّسوة بدقّة على السيّارات كي لا تعمّ الفوضى.و هو يشحنهم بداخلها لم يكن يفرّق بين الّلحم و الأمتعة.اطمأنّ على أنّ جدّته و عمّاته الأربع و بناتهنّ قد اتّخذن أماكنهم المحدّدة فهو الربّان و هو الحريص الذي يملك بندقيّة و آلة لقيس ضغط الدّم و هو الوحيد الذي يحقّ له التّفكير.ثمّ أقفل الأبواب و انطلق بالحافلة باتّجاه المستشفى يتبعه الآخرون من الخلف.كانت نعيمة تصرخ و تتوجّع.زاد من سرعته فزادوا و نعيمة تصرخ و تستغيث كأنّ سكينا يقطّع لحمها.وصلوا أخيرا إلى المستشفى .نزلوا من السيّارات..ملأت الضوضاء المكان. .تشتّتت النّسوة فجأة لسبب غامض.هرولوا في كلّ الاتّجاهات.ثمّ عادوا ليلتحموا من جديد.دفعت نعيمة بكلّ طاقتها و هي تصرخ.الحيرة الصّامتة أصبحت عويلا ..ماذا يجري؟هذه أوّل مرّة يفقد فيها مهيوب السيطرة على زمام الأمور..زعق:
    - ماذا أصابكم ؟ماذا تنتظرون ؟هيّا أسرعوا ..أين نعيمة؟تحرّكوا!..قودوها إلى القابلة بسرعة!.
      فجأة علا نحيب نسريّة خالة نعيمة و هي تلطم وجهها جاثية على ركبتيها:..ويلي جئنا كلّنا و تركنا نعيمة بمفردها في البيت..ويلي جاء العوانس و بقيت الحامل..حسرتي على الرّجال.. بنيّتي تلد بمفردها في القفار و العجائز في المستشفى..
    نزل كلام الخالة على مهيوب كالصّاعقة.و أحسّ بأنّ الأرض زلقة من تحته و بأنّ أعضاءه تهشّمت كالزّجاج دفعة واحدة.
      و في أقلّ من دقيقة تماما كما نشأ حرصه في أقلّ من دقيقة ،تحرّك فضول النّاس تحلّقوا حولهم يستطلعون الأمر.شعر بابتساماتهم و همسهم السّاخر يخترق جسده حارقا كالرّصاص،لم يتحمّل الموقف،فركب إحدى السيّارات كما اتّفق بمفرده و قفل راجعا تاركا وراءه أفواها فاغرة و ملاءات تلعق التّراب و فيضانا من العويل و الضّحك و السّخاب و الكحول.
      لحسن حظّ نعيمة أنّ الجارة الوحيدة التي عفت عنها حكمة مهيوب قد سمعتها تتوجّع و تنادي فأدركتها قبل فوات الأوان.نجت نعيمة و ابنها.أمّا مهيوب فقد هوت شعبيّته فجأة إلى الحضيض،و تلاشت الظّاهرة بشقّيها فجأة -تماما كما بزغ من العدم كلّ شيء فجأة-،و أصبح الوصيّ الأكثر حرصا بين النّاس أحقر من إبهامه الذي كان يختصر به العالم ،و مضرب أمثالهم في القرية و القرى المجاورة و مادّة حكايات يتندّرون بترديدها و لا تنضب.
       و صحيح أنّه في النّهاية تحوّل بسبب الحادثة إلى ركام صدىء كأغراض السّطوح،و عانقت " لا أدري" لسانه من جديد ،لكنّه أصبح بفضلها بارعا في التّخفّي و بات  يفهم كيف يحدث أن ينسى المرء شراء الخبز أحيانا ،و أنّ هناك ما هو أدهى..
      


    محمد فطّومي

    الأربعاء، 4 جويلية 2012

    مناعة




    كنت أحدّثه عن فشل الثّورة لو لم نكبّر عقولنا.. كان حماسي يزداد و يفتر حسب اتّساع حدقة عينيه.
    كان يومىء برأسه إيجابا و إعجابا. لا أخفي كنت خجولا من نفسي لاحتكاري الكلام و لكوني أيضا لن أصير يوما برصانته و حسن إصغائه.
    في ذروة الخطاب قلت :إنّ ملايين الأيدي لا يمكن أن تفرك المصباح في آن ....
    قاطعتني إذّاك التفاتة مفاجئة منه نحو زوجتي و زوجته المنزويتين خلفنا قائلا  بنشوة :
    - أمّا أنا فأتحدّى الجميع إن هي لم تلتق ابنتها في الحلقة القادمة..


    محمد فطومي