• الرئيسيّة

  • الأحد، 17 جوان 2012

    في أثر لمحة



      كانت ترتدي قبّعة إيطاليّة؛أو هكذا استعجل قلقي استدراج التَتِمّة..
    أوقفتْ سيّارة تاكسي، فتحتُ الباب و اعتذرتُ  لصاحبها و سرنا،بالكاد أحسستُ بضربات خفيفة من قبضة يدها على ظهري. رافقتُها إلى الجامعة و عرّجتُ إلى عملي. التقيتُها بعد ذلك في صالون للفنون،الزوّار قليلون،كانت منهمكة بتلميع تمثال نصفيّ من مرمر لامرأة غريبة الملامح. و أنا أتأمّل وفرة الحياة في جذعها ،تأكّد لي ظنّ يلازمني ؛ شره الحواسّ هو حجّة البقاء لإبطالنا . كدتُ أبوح لها بأنّي لمّعتُ حذائي بمرهم عيون هذا الصّباح،غير أنّي و دون قصد لم أجد أمامي أخفى من العفويّة المصطنعة كي أعلن لها عن حضوري.
    قلتُ:
    الحيّ الذي أسكنه نصبٌ خشبيّ لأرملة تخفي معولا وراء ظهرها و تضحك تحت الّلثام..مع ذلك لا أجد هذه المرأة الصّخريّة غريبة عنّي كثيرا.
    ضحكت و رحّبت بي بفرح طفوليّ عميق:
    - لم أتصوّر أنّك ستأتي..
    أجبتُ كما لو أنّي سمعتُ دعوة لأقول ما أريد:
    - أفهم منك أنّي كنتُ قابعا في رأسك الصّغير طيلة يوم؟
    ابتسمت عيناها و أعادت خصلة شعر مقوّسة خجولة تحت أذنها و قالت :
    - ليست كلّها أعمالي..المعرض مشترك..ما رأيك أن تقوم بجولة و تعطيني انطباعك؟
    على بعد خطوات كان هناك شابّ يقدّم لوحته لمجموعة من المهتميّن ،جعلتني وقفته و حركاته أهجس:" لن أصير يوما أفضل من هذا الرّجل الأنيق الوسيم ".و خمّنتُ أنّها ربّما تحتاج إلى فسحة من الحرّيّة لتستقبل الوافدين و تشرح أعمالها هي الأخرى.
    قبل أن أنتبه إلى وجودها خلفي وقفتُ طويلا أمام تشكيل لدماغ بشريّ بصدد الخروج من بيضة،يستقرّ فوق لوح خشبيّ كُتب عليه اسمها. قالت:
    - أعجبتك؟
    أجبتُ دون أن أحوّل بصري عن  القطعة :
    - ما يحضرني الآن تمنعه الأعراف الإنسانيّة قبل أربعة أشهر على الأقلّ بدء من لحظة التّعارف..!
    قدّمت لي فنجان قهوة كان بين يديها و سوّت ياقة قميصي.

      انتظرتها في مقهى قريب من الصّالون،كنتُ وجها قديما،جديدا،ككلّ الوجوه التي نصادف المئات منها في اليوم، تلك الهيآت التي لا توحي إلاّ بأنّ التّواصل يجب أن يتواصل و لا شيء آخر.و التي إذا غفلنا عن إحداها لبعض الوقتِ شاخت.أشعّة الشّمس تسيل ضجرة على أسقف السيّارات. ضجيج الباعة و المارّة المستعجلين صامتٌ كما لو كانوا يتحرّكون داخل صندوق زجاجيّ.فكّرتُ أنّها لو أمطرت في هذا اليوم الملتهب لانبثقت المطّاريّات من حيث لا أحد يعلم.ما حدث أنّ أسرابا من طيور الخطّاف ملأت السّماء فجأة.أخذتها إلى متنزّه قريب،هناك أطلعتها على السرّ الذي ما انفكّت تحاصرني بفضولها لمعرفته و في كلّ مرّة أتعلّل منتشيا بأنّ الوقت لم يحن بعد.كنّا قد اتّخذنا مقعدا تحت شجرة توت هرمة،حين لامست ركبتي ركبتها استهنتُ بكلّ الذين غيّبهم الموت عن حديقتنا، و طاف بي شعور ممتع بأنّ الموت احتمال بعيد لا يعنيني. قلتُ هلاّ تمشّينا قليلا؟ ابتعدنا عن المقعد خطوات ثمّ طلبت منها أن تتأبّط ذراعي و تلتفت خلفها: " ماذا ترين هنا بالتّحديد فوق الثّرى؟ "
    ردّت باستنكار غلب عليه الذّهول : لا أرى شيئا.
    قلت:
    - لمَ لا تُحاكين هذه التّحفة الرّائعة  بمجسّم حجريّ ممدّد ، لونه بلون التّراب مثلا ،عليه نتوءات  و حفر و حجارة متناثرة كما اتّفق، يكون ظلّنا فوقه عبارة عن طبقة رماديّة داكنة من الاسمنتِ ؟ ظلّا لامرأة تتأبّط ذراع رجل يرى أنّها الحقيقة الوحيدةَ في كوكب فاقد للوعي.
    ظلّت ساكنة برهة ثمّ انفجرت ضاحكة:
    - فكرة مجنونة ، سنشتغل عليه سويّا..لا تمانع.. ستكون جميع أعذارك مرفوضة..غدا نشرع في التّنفيذ.

      في معمل صغير محاذ لبيت والدها اكتمل الظلّ، تماما كما شاء قلقي..
    أمسكتُ  بيدها،و  مسحتُ براحتها على وجهي، في تلك الّلحظة قالت إنّ بهجتها قد لا تكفيها حجارة العالم لو أرادت تصميمها. أخبرتها أنّ أمّي و أخواتي متشوّقات لرؤيتها لفرط ما حدّثتهنّ عنها. قبلت دعوتي قلتُ هذا المساء بالذّات تذهبين معي. استدعت والدها ليرى إنجازها الجديد، حضر على الفور، تأكّتُ بعد لقاءات أخرى جمعتني به في بيته أنّه أصبح يغالي في تلبية رغباتها و إبداء إعجابه بما تفعل، بعدما أيقن أنّ ولعها بالفنّ  صار يهدّد اهتمامها به و أنّ الأبوّة بمفردها لم تعد تسدّ نهمها لاحتواء الطّبيعة. حدّدنا موعدا للخطبة على أن نؤجّل الزّواج إلى ما بعد تخرّجها. أشعر بالسّلام  و بحالة من الّلجوء حين أقضّي بعض الوقت وسط عائلتها، لا أدري ما الذي يوحّد بيني و بين والدها الطيّب. أفكّر أحيانا أنّي مثله لحكمة ما أو ربّما بالفطرة أو كما يختار المرء رابطة العنق الملائمة للون بذلته اخترنا أن نكون جزء من خصمنا الجبّار؛ فرادَتَها الحادّة..

     نشأ بينها و بين والدتي و أخواتي أنس بدائيّ حميم، قدّمت لكلّ واحدة منهنّ هديّة. لبِستْ الصّغيرةُ السّاعة حالما أخرجتها من العلبة، و راحت تسترق النّظر إلى العقارب و هي تتحرّك، رأيتُ في عينيها سعادة كالتي ألمحها على عمّال النّظافة و هم يراقبون الرّافعة تقلب الحاوية في جوفها نيابة عنهم.
    في طريق العودة تملّكتني حالة من الحمق حالت دوني و دون سؤالها عن سبب الأسى الذي لوّن وجهها فجأة، أمام دكّان ضيّق تراكمت بداخله النشارة و عصيّ خشبيّة و أدوات عتيقة ،كُتب عليه بخطّ رديء " قصرُ الأثاث " ، حدّثتها لسبب غامض عن صاحب الّلحية الكثيفة الذي نهض من كرسيّه و دخل لمّا رآنا:
    "أحبُّ هذا الرّجل،لأنّه صديق أبي، أحيانا أعجز عن استحضار صورة أبي كما أشتهي،ما يحصل لي مع هذا الرّجل أشبّهه بالنّجمة التي لا يمكنكِ رؤيتها إلاّ إذا نظرتِ حولها ،حين تحصّل ابنه على "بطاقة جريح" ،اعتذر عن مصاحبتي حتّى يهديني الله.
     علّقت:أظنّ أنّي تأخّرتُ..
    بعد أسبوع لم أفلح خلاله في العثور عليها،أخبرتني أنّها تريديني في موضوع مصيريّ.أربكتني العبارة.
        قالت: لندع العواطف جانبا..يجب أن نواجه المسائل بشجاعة ..
    سألتها : ماذا طرأ ؟
    ردّت بصوت منخفض :سأكون صريحة معك..أنت تعلم تأثير الوراثة..و..أرجوكَ لا تجعلني أستمرّ ..
    شبَكَتْ يديها أمام وجهها و ضغطت بأسنانها على أظافر إبهامها الأيمن و الأيسر كأنّها تتضرّع، و شردت.. خطر لي أنّي أبدو في عينيها كطاووس محبوس مع الدّجاج في نظر صبيّ يتأهّب للذّهاب إلى البحر؛
    قلت : لا عليك، أفهم..لا تستمرّي..معكِ حقّ ، و الذين أشاروا عليكِ بذلك معهم حقّ.
    تمتمت بكلمات قبل أن يزدردها زحام المارّة المستعجلين.
    أفهمها. لم يكن من السّهل عليها أن تتوقّع الأفضل.

      هكذا اكتشفتُ أن ليس هناك طريقا أيسر من ألفة مركّبة لأتصالح مع الوحدة، لذا لم يكن بإمكاني أن أتصوّر الأفضل من أجلنا أنا أيضا..مُحاصرا بالمؤيّدات كان لابدّ أن أُذعن لقلقي،مع ذلك هنا و الآن حيث الماضي يسمعني و يجيز لي أن أغيّر في مجراه قليلا ،لست أجد حرجا من الاعتراف بأنّها تتمّة شوّشت أصل اللّمحة؛ من سنتين جلستْ بمحاذاتي مسافرة جميلة ، أضواء القرى المتناثرة هنا و هناك كسرت الظّلمة داخل سيّارة الأجرة،كانت تضع أمامها  حقيبة سوداء كبيرة، ضئيلة السُّمك؛ قدّمت لي في منتصف الطّريق قطعة شوكولاطة، سألتها: أأنتِ رسّامة؟ أجابت: نحت..ثمّ نزلت قبل أن تترك لي محطّتها الفرصة لأسألها عن اسمها..
     أسمع صوت أختي الكبرى تناديني، أنتفض واقفا كالملدوغ، كدتُ أنسى أنّ اليوم هو دورها في النّزهة.



    محمد فطومي
    16/6/2012



    هناك تعليقان (2):

    1. تعجبني مدونتك كثيرا وقد قرات اكثر من نصفها
      شكرا لك استاذ محمد فطومي

      ردحذف
    2. امتناني و ترحيبي الحارّ بك أستاذة بسمة،شرّفني و أسعدني دخولك.
      أصيلة.
      شكري و تقديري لكِ.
      كوني بخير.

      ردحذف