• الرئيسيّة

  • الأحد، 3 جوان 2012

    ساعة عمل



      فُتحت البوّابة الكبيرة على مصراعيها،و دخلت شاحنة التّطهير ذات الصهريج الأحمر.ذاك الأحمر النّاريّ الذي تطلى به سيّارات المطافىء كما بالجير،و الذي أكسب الشّاحنة بالنّظر أيضا  إلى مصباح الإنذار المضيء بعدُ ،وقارا و صرامة حكوميّة،و جعلا منها في آن شبيهة بتلك الألعاب التي يجدها الأطفال في علب المفاجآت.
       خلف الصّهريج يستقرّ محرّك ضخم موصول بأنبوب أسود عريض يمتدّ مستقيما         و ينتهي حيث تبدأ عربة القيادة.كان المحرّك بأجزائه الفولاذيّة البارزة و اكسسواراته المعقّدة  و عدّادات الضّغط و لوحة التّحكّم المثبّتة على أحد جانبيه و أشياء أخرى موزّعة برياء واضح كما لتؤكّد بأنّ النّظافة تعني النّظام و الانضباط بالدّرجة الأولى، يبدو كمصنع مكثّف و ذكيّ على نحو يبعث على الرّهبة و الإعجاب معا.
      جرت العادة أن لا تلبّي مصلحة التّطهير طلبات التّدخّل بيسر مهما كان وزن الجهة التي دعتها و حجم الكارثة التي تهدّدها.في الواقع لم تكن عادة كلاسيكيّة بالمعنى السّخيف الذي يجرّدها عدائيّتها الاستثنائيّة تجاه كلّ ما هو سواها،و يساوي بينها و بين بقيّة المصالح المماطلة بدافع رخاوة صرف.بقدر ما هو إجراء تأديبيّ على ما ارتبط به دورها من عفونة في أذهاننا.و الأمر في النّهاية شبيه بوقوع مجموعة من الفنّانين المتطاولين على النّظام      - بحجّة معقولة -  بين أيدي ضبّاط سمعوا كثيرا عن احتقار المثقّفين لهم.لذلك كان على كلّ الذين أوقعتهم الظّروف بين أيدي عمّال التّطهير أن يكثروا من عبارات الاستعطاف         و الإذعان و الاستغاثة المنتقاة بشكل يوحي بأنّه ثناء و إقرار بالعجز..و لكي لا نبالغ لنقل بأنّه ردّ اعتبار و تصحيح جمهوريّ مشروع للمهنة و حسب.ثمّ إنّ المسألة فعلا كذلك       و للإنصاف فنحن من عليه أن يخجل لما وصل إليه من حالة مزرية.
       و ربّما أمكنك أن تجبر أحد أرباب المصالح الأخرى على طاعتك بمجرّد تذكيره بلباقة    و في قالب مزحة بأنّه لم يحضر إلى اجتماع الوالي الأسبوع الفارط مثلا،ثمّ  تتمنّى له في النّهاية أوقاتا طيّبة و أن يكون المانع خيرا،و تلوّح له بقلقك الكبير بشأنه،لكن أبدا لن تستطيع مهما حاولت ليّ ذراع العائلة .عائلة التّطهير المتماسكة.
    و الرّؤوس العنيدة التي استهانت بهم من قبل و شنّت عليهم حرب مناصب و هواتف من النّوع الثّقيل رَكَعَتْ في الأخير و اعترفت بأنّهم الأقوى.
       سمعتُ المدير يتحدّث إلى عميد العائلة بانكسار شديد.كان عليه أن يقبل بشروط فَهِمْتُ بأنّها مهينة لأنّه قال عنها "صعبة"،قياسا إلى اكتفائه ذات حديث بوصف رحلة إلى الفضاء على أنّها أفضل من مشاهدة التلفزيون..و كان عليه أيضا أن يقبل بالموعد الذي حدّدوه ثمّ تراجعوا فيه بعد ذلك مرّتين.فلقد امتلأ المصبّ تماما و صار بالإمكان مشاهدة الماء الأسود المتخثّر يسيح على حوافّه الإسمنتيّة.الوقت غير مناسب لإثبات الصّلابة.الرّجولة تحضر    و تغيب و ليس الطّاعون ما ينقص.
       تركنا مكاتبنا و خرجنا لاستقبال الشّاحنة .الأصول تقتضي منّا ذلك.فطريّا و دون اتّفاق مسبق وقفنا صامتين بلا حراك مصوّبين نظراتنا باتّجاهها و هي تتمايل كهودج بسبب الحجارة الرّاسخة في المسلك المؤدّي إلى السّور الخلفيّ حيث المصبّ.و ارتفع إلى مخيّلتي بأنّ نشوة المدير و فرحته بنا وصلت إلى ذروتها،و بأن لا فرق بينها و بين تلك التي يشعر بها الأزواج عندما تقوم زوجاتهم بأوّل حركة ودّ تجاه أمّهاتهم دون طلب منهم.
      تعرفّتُ على "الكافي" رغم المظلّة التي التهمت رأسه،و شواربه التي حلقها منذ آخر مرّة رأيته فيها..لا أدري لم يلقّبونه بـ"كْرول".كان يرتدي بدلة زرقاء مدعوكة من المرافق       و الرّكبة  و كان واقفا على سلّم عربة القيادة ممسكا بقصبة المرآة العاكس،محدّقا ناحيتنا دون تحيّة.الموقف يستحقّ أن نعلّق أعمالنا من أجله لبعض الوقت.كان علينا أن ننبهر بقدومهم و نحسن ضيافتهم و إلاّ عادوا أدراجهم دون حرج يُذكر.
       وجه كرول كان قريبا من بلّور السّائق و أمكنني أن ألاحظ من خلال نظرات هذا الأخير المثبّتة إلى الأمام في خطّ مستقيم كيف أنّه متضايق..يتملّكني ضيق مماثل إذا زرت أحدهم  و تركني وحدي مع صبيّ لا يحدّثني و لا يخفّض عينيه عنّي.
    "كرول" يعرفني جيّدا أمّا السائق فلا . سبقتهما إلى الحفرة عبر طريق مختصر و انتظرتهما هناك.فالأصول تقتضي منّا أيضا أن يتطوّع أحدنا لمرافقة الفريق و يشعره بأنّه مسخّر لقضاء احتياجاته.
      تنبعث من السّائق رائحة القسوة .مزيج من التبغ و الملابس المغسولة بالماء فقط.كان يضع لحافا أبيض على رأسه ،و تبادر إلى ذهني و أنا أسلّم عليه أنّه من المستحيل عليّ أن أقلّدها . ملامحه تبدو مسترخية للوهلة الأولى غير أنّها كانت تخفي ازدراء و تحفّزا غامضين،      و مباشرة حدّثت نفسي بأنّ رجلا كهذا سيصعب كثيرا إقناعه بأنّ الرّواتب ستُعلّق هذا الشّهر إلى أجل غير محدّد لسبب ما.
     عائلة التّطهير لا تخبرك بما يتحتّم عليك فعله.إذا نفد صبرهم ،أجّلوا الأشغال إلى يوم لا يأتي أبدا بصورة لا تترك لك مجالا للاعتراض..
    "- تركنا مسطرة قيس المستوى في المقرّ..بدونها سوف لن نتمكّن من تعديل الدّفق.. سنحضرها و نعود حالاّ.. "
    لن تعرف أكثر منهم . ثمّ إيّاك أن تقترح بديلا عن المسطرة.
    و لأنّها مدرسة يتخرّج منها عشرات البياطرة في العام فإنّ الواجب مسألة مفروغ منها بالنّسبة إلينا،بل أكثر من ذلك فهي غير قابلة للطّرح أساسا.
     قبل أن يضجر الفريق جاءت صينيّة الفطور. قهوة الحليب و الخبز و المربّى و فطائر الزّبدة و العسل و الكعك على الأطراف.
     أكلا كأنّهما لم يأكلا شيئا قبله،و لمّا فرغا،انشغلا لنحو ربع السّاعة في القيام بحركات تمهيديّة جادّة في ظاهرها،لكنّي لم أستطع ربط العلاقة بينها و بين ما حدث بعد ذلك.
    لم أبرح المكان و لم أغادر شفتيهما و لا أيّ نظرة تبادلاها،مع ذلك لم أفهم كيف اتّفقا على أنّ عليهما البحث في الأغراض القديمة الملقاة على مقربة من الحفرة الإسمنتيّة عن عمود حديديّ مقوّس مثقوب من طرفيه.و لمّا سألت السّائق هل هناك مشكلة؟
    أجابني باقتضاب :نبحث عن عمود للـ..
    و لم يتمّ كلامه.
    بعد ذلك وقفا أمام المصبّ يحدّقان فيه بصمت.و وضع كرول نظارة واقية غطّت نصف وجهه.
      أذكر جيّدا كيف صفعني و أنا صغير،لأنّي كنت ألبس نظّارة كتلك.لا أدري من أين حصلت عليها.لم أتعدّ الخامسة من عمري آنذاك.كنت ألعب أمام بيتنا .نزعها عنّي           و صفعني و قال:من أين سرقتها يا ولد؟لم أقاوم و لم أبك لأنّي اعتبرت الصّفعة عقابا هيّنا أمام السّرقة.
     لا أظنّ أنّه يذكر ذلك..و غمرني سرور لذيذ حين حدّثت نفسي بأنّها ربّما تكون نظّارتي..
    سوّى النّظارة جيّدا كغوّاص و قال يحدّثني:
    - لا أحبّ المفاخرة و الادّعاء،لكن أقسم لك بأنّ أحدا في المصلحة لن يستطيع القيام بهذا العمل خلافي أنا و هذا الشّخص الذي أمامك..و أشار إلى رفيقه..
    هذا الذي تراه الآن لا يعتبر شيئا مقارنة بالأهوال التي مرّت بنا و تغلّبنا عليها..لا خوف عليك بنيّ مادام ذراعك قويّ..و روى لي مواقف خطيرة عاشها .
    كان الماء الملوّث قد أزاح الغطاء الإسمنتي قليلا .تحسّس كرول الفتحة بقصبة ،إذّاك عرف بأنّها تسمح للأنبوب بالمرور إلى قاع الحوض دون عناء. فحرّره و جعله يغوص إلى الأسفل.
      حين عاد إلى مكانه بيننا ضغط السّائق على زرّ أخضر بجانب محركّ الصّهريج.اشتغل المحرّك و بدأ يمتصّ.ألقى كرول بنظرة على الفتحة و أدرك بأنّ المستوى يتناقص بسرعة و سهولة. و استرعى انتباهه شابّ و فتاة من طلبة المدرسة يتمشّيان بتؤدة في الجانب الآخر.كانا يتحدّثان في آن واحد و يصمتان في آن واحد و يضحكان في آن واحد و هما ينظران إلى موطىء أقدامهما. حدّق فيهما مليّا ثمّ اقترب من الصّهريج من جهتنا  و رفع بصره إليه و ربّت عليه بضربات خفيفة من راحة يده و على نصف وجهه المكشوف ابتسامة باهتة.   






    محمد فطومي

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق