• الرئيسيّة

  • الثلاثاء، 3 جانفي 2012

    سلسلة أصفار




    هممت بالوقوف و أجبته دون أن أنتظر سؤاله و أنا أخلّص بلطف مرفقي من قبضته المرتعشة،و على وجهي ابتسامة فاترة:
    - لا..لا تقلق ليس كالبارحة..ذاهب لشراء الخبز؛أشتهي بعض الحلوى..لا تخش شيئا أبي،إنّ لديّ ما يكفي لشراء الخبز لكلينا،عدا ثمن الدّواء طبعا..لن أتأخّر.
    نهضت و بقيت واقفا،كما لو أنّي أترقّب تعقيبا على تحدّ رفعته.لم يتكلّم،و أدركت أنّه يتألّم.و لا أدري لم زارني لحظتها شعور بأنّه يرغب في صفعي..
    في الخارج باغتني مطر غزير.خبّأت كيس الدّواء و الأرغفة داخل معطفي،و ضغطّت عليها بيديّ من داخل الجيوب،و حثثت خطاي.خشيت أن أسقط إن أنا أسرعت أكثر.أصلا لا يحقّ لي الرّكض.فحذائي الوحيد أملس من الأسفل و حجارة الزّقاق ملساء أيضا.
    فجأة سحبتني يد من الخلف.تراجعت إلى الوراء.كان صديقي غسّان..يبيع غسّان الأقمشة و ما يلزم لجهاز العرائس.دلفت إلى المحلّ.كان سعيدا.لابدّ أنّ تجارته يومها كانت جيّدة.قلت بودّ:
    - أرعبتني يا رجل..
    ضحك و سوّى ياقة معطفي غير مبال بالبلل و ربّت على كتفي و دعاني إلى فنجان قهوة.
    و بحماس شديد،أخبرني بأنّ أحد الوجهاء جاء لزيارته مصحوبا بزوجته،و ظلّ يمدح لي سلعته النّادرة  ذائعة الصّيت،و يصف لي رفعة زائريه و النّبل و رقيّ الطّبقة التي ينتميان إليها و أناقتهما و السيّارة الفخمة و العطر...،حتّى ضاع تركيزي تماما و لم أعد قادرا على الاستيعاب.ثمّ أخيرا كشف لي عن المفاجأة..المفاجأة التي قال بأنّها ستجعلني أطير فرحا و التي ستقذف بي إلى عالم الشّهرة و المجد و تستحقّ أن أقدّم له في مقابلها مكافأة بحجمها..
    كنت أرتشف القهوة،و أحاول أن أخفي رجفة البرد التي تسوّط بدني،و انتابني إحساس بيأس أكبر،و تحوّل كلام غسّان إلى طرق موجع في معدتي،كما لو أنّ أحدهم يتسلّى بقرع ساق كرسيّ أجلس عليه قرعا خفيفا بحذاء ثقيل و لا يتوقّف..ليته يتوقّف. 
    قال مختصرا قبل أن ينفد صبري و أغادر:
    - ..باختصار شديد ،و في سياق الحديث مصادفة،أسرّ لي بأنّه يبحث عن مهندس ديكور جيّد،و لكنّه لم يطلعني عن طبيعة العمل المطلوب..كلّ ما فهمته هو أنّه يحتاجه بالفيلاّ..عندها،    و دون تفكير انقضضت عليه و حدّثته عنك و عن موهبتك  و فنّك العظيم و استرسلت أقنعه بالتّعويل عليك و بأنّك الوحيد الذي يصلح للمهمّة..و لم أدعه يرحل إلاّ و به فضول رهيب للقائك.. و أعطاني بطاقة بها عنوانه و أرقامه ..
      و أردف و ظفر غبيّ في عينيه:و الآن..ما رأيك بصديقك المخلص؟أليست فرصة العمر؟
    و بدا لي إحساسه بالظّفر كذاك البذخ المسروق الذي يعتري عمّال البلديّة و هم يشاهدون الرّافعة الهيدروليكيّة تقلب الحاوية نيابة عنهم..ربّما ظلمته؛أو على الأقلّ لعلّي ظلمت ظاهره الذي يقول بأنّه يغار على مصلحتي.
    رنين كلماته بلحنها و تفاصيلها لا ينفكّ يطرق مسامعي،و أذكر كيف أحسست بالاختناق و هو يقول لي بنبرة عتاب مصطنع:
    - هنيئا لك يا صديق..صار لديك زبائن من الوزن الثّقيل..غدا سيتخطّفك الأثرياء و الإعلام و سوف لن نجد دقائق نحتسي فيها القهوة سويّا كما الآن..
    و أذكر أيضا كيف شبّهت نفسي لحظتها بالذّئب الذي قيل له :إنّ أمامنا غدا مشاغل كثيرة، ستخرج أنت بالغنم إلى المرعي؛فبكى بحرقة..
    أحرص في العادة على أن لا تقع عيني على البقعة السّوداء التي خلّفها رأس أبي من كثرة الجلوس للتّدخين و شرب الشّاي و هو يسنده إلى الجدار،يومها أمعنت فيها النّظر،كما لأطمئن نفسي بأنّي سأغيّر طلاء البيت عمّا قريب..كانت قد اتّسعت.
    مذ تركتني زوجتي،و نحن نعيش بمفردنا.قضّت معي سنتين،لم نفلح في إنجاب الأطفال.طلبت منّي أن نجري فحوصات لنعرف العيب.قبلت،و اتّضح أنّي عقيم.و لست عقيما فحسب،بل إنّ النّسبة المكتوبة في نتيجة الفحص صفر،و عشرون صفرا بعد الفاصل!
    لعلّ نزعة الشكّ و الكذب فينا هي التي تجعلنا نلقّن أدواتنا أن تغالي في البتر و الحسم..
    و احتفظت نادية بنتيجة الفحص لتبرّر طلاقها منّي،و تشهرها كبرهان براءة في وجه الشّائعات التي حتما ستحاك حولها..أفهمها.
    لم يكترث أبي للصّفقة،رغم أنّي بالغت أكثر من غسّان و أنا أعيد عليه الحكاية،فأمامه عشرون يوما لينفد الدّواء.لم أندم لأنّي أخبرته،و اعتبرت ذلك تفكيرا بصوت مسموع.و اتّخذت قراري.سأذهب إليه،و أتسلّم العمل مهما كان نوعه.في النّهاية لا خيار لديّ خلافه.
    و رحّب بي السيّد راجي كأفضل ما يكون،و فهمت أنّه يثق بي دون الحاجة ليتأكّد من خبراتي.مباشرة قالها بزهو و مرح كأنّه يبشّرني:
    - أريدك أن تجهّز لي غرفة للتّوأم..ستلد زوجتي عمّا قريب.أريدها غرفة بلا نظير.. سوف لن أعترض عن أيّ مبلغ تطلبه.فقط أريد تحفة لا أحد رأى مثلها من قبل..ستكون الميزانيّة مفتوحة..تصرّف كما تشاء..و لكن لا أوصيك؛يجب أن تكون جاهزة في غضون أسبوعين من الآن لا غير.
       عبارة سخرية القدر لا تروقني،و الكلمات لا تسع ما اعتمر بداخلي،و يسلّيني بصورة فظّة أنّي لست أكثر من مريض بالرّبو شاءت الدّنيا أن يعمل في مصنع للأعلاف المركّزة،أو في مقطع للحجارة؛ تحديدا في وحدة صنع الجير.أمّا عن شكل الصّخور التي كان عليّ أن أرتطم بها حالما أنهى سيّدي زلزاله في أذني و حجمها و لونها فسيعيقني عن وصفها بصورة فظّة أيضا أنّي سأبدو في نظري كلاعب مهزوم لم يستردّ أنفاسه بعد يتلقّفه صحفيّ من ذوي المكبس في الظّهر بأسئلة تضاعف الهزيمة.هكذا أصبحت أرى الأشياء.و لعلّ بإمكانك و أنت تعفيني من عبارات الشّجن المثيرة للشّفقة،و تلاحظ ما الذي أصبحته،أن تصوغها بنفسك.
       تمّت الصّفقة.و بدأت الأشغال..و اشترطت على أصحاب البيت أن لا يتدخّل أحد فيما أصنع.
    عندما باشرت العمل أدركت أنّ الغرفة تسكن في شراييني و أنّي صمّمتها من قبل،لم أكن أتكلّف أو حتّى أفكّر.كانت التّرتيبات واضحة في ذهني .كنت ببساطة أدلق ذاتي لا أكثر.لم أعر اهتماما كبيرا لأجل التّسليم،كان هاجسي الوحيد هو أن أتخلّص من كلمات نادية و نعتها المتواصل لي بأنّي مقبرة،و أثبت لها أو لكلينا أنّي خصب ككلّ الفصول مجتمعة،و أتحرّر من سلسلة الأصفار التي تطوّقني و تنفيني و تجرّني من عنقي كخروف جائع.عشت الحلم لأسبوعين،كان حلما لذيذا،و لكنّه في آن أشبه بابتلاعك حبّة عنب شهيّة في خيالك و دون مضغ.
     فكرة زوالي بعثرت كياني،و زوالي جعلني أبدع كي أبقى.
    بعد أسبوعين من الحلم و العمل الشاقّ انتزعت التّوأم من ضلوعي و أعدته إلى والديه.و شهقت زوجة السيّد راجي:
    - غير معقول! مذهل..إنّ ساحرا مرّ من هنا..لا أصدّق..أنت عبقريّ..
    - عفوا سيّدتي ..لم أفعل شيئا كلّ ما هنالك أنّي نسخت قلبي..
    لم تفهم السيّدة رحاب،و واصلت تجوس ببصرها مندهشة       و تلمس كلّ شيء بالغرفة بحنوّ بالغ..
    و لم ينتبه السيّد راجي أنّه فاغر فاه،و أنّ شفته متدلّية بعكس ما تحبّ أن تبدو الشّخصيّات المرموقة عادة في عيون النّاس.
    قلت أقترب من واقعهما،و أخرج من قصّتي:
    - عليك أن تشكري زوجك سيّدتي..أعترف أنّي قسوت عليه بطلباتي الغريبة و الباهظة،و لكنّه لم يبخل و لم  يناقش أبدا..إنّه رجل لا يتكرّر، صدّقيني..
    ثمّ شرعت أشرح لهما :
    الفصول الأربع تعمل أوتوماتيكيّا،بالإضافة إلى تهاني العيد..الأسرّة و الخزائن قابلة للطيّ ليسهل تنظيف الغرفة..القاع مطّاطيّ لا يؤذي عند السّقوط،و السّقف عازل للصّوت..كلّ الزّوايا مقوّسة..و البقيّة تكتشفانها مع مرور الوقت..
    شيّعني السيّد راجي إلى الباب.قلت مرتبكا:
    هل تسمح لي سيّدي بزيارتك لرؤية التّوأم،و أخفيت أنّهما أصبحا ناحية ملموسة من حياتي.
    أجاب و هو يسلّمني مظروفا به مبلغ لم يسبق أن أمسكت مثله :
    - مرحبا بك أنّى شئت أخي..لقد أدخلت على قلوبنا البهجة..سعداء جدّا بما أنجزت لنا..أنت تستحقّ أكثر..
    الزّبون الثّقيل الموالي كانت نادية ،زوجتي سابقا،و التي انتقلت لتعيش في العاصمة و صار لديها بنيّة بعد زواجها من أرمل غنيّ جدّا.كانت صديقة رحاب زوجة السيّد ناجي أو بالأحرى أصبحت صديقتها.أبهرتها بغرفة توأمها فاشتهت أن تحذو حذوها.لم تخبرها عن اسمي لأنّها ببساطة نسيته ،و طلبت منها،كما وصلني،أن ترسل هذا الفنّان صاحب الخوارق إلى فيلّتها..نعم كذا هي الدّنيا:كي يشعّ كوكب خافت في عينيك       و يسطع كما تحبّ،عليك أن تمعن النّظر في الذي بجانبه..  
    السيّد راجي هو من مدّني بالعنوان..
    حتما سأذهب..و سأبذل ما بوسعي لأهبها الخصب،كما عجزتُ عن ذلك دوما..
    أظنّ أنّ أبي صار راض عنّي الآن،البارحة سألني و أنا أستعدّ للسّفر إلى العاصمة و قلبي تحوّل إلى حنجرتي:
    - شاهد..أراك منفعلا،و مشدود الأعصاب..ما بك؟
    أغلقت الحقيبة و سوّيت فوقه الغطاء جيّدا و قلت:
    - لا..لا شيء..أبي..سأتنقّل يوميّا بين هنا و هناك..لا تقلق.لن أدعك تبيت وحدك..
        و تابعت أخاطب نفسي:..فقط يقتلني أنّ أحدا لن يسوّي الغطاء فوقي عندما أعجز..



     محمد فطومي

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق