• الرئيسيّة

  • السبت، 31 ديسمبر 2011

    مباراة البلياردو/ ألفونس دوديه



    قصّة لـ : ألفونس دوديه
    تعريب : محمد فطومي


    La  partie du billard


      قاتل الجنود ليومين متواصلين و أمضوا الّليلة بحقائبهم على ظهورهم تحت مطر غزير. كانوا منهكين جدّا،مع ذلك أُهملوا لثلاث ساعات حاسمة و قاضية ذاقوا فيها الغمّ و المحنة و النّهاية.أسلحتهم بين أرجلهم موضوعة على بِرك الشّوارع الكبرى و وحل الحقول المبلّلة.
    مثقلين بالتّعب طيلة الّليالي المنقضية بأزيائهم التي امتلأت بالماء،التحم الجنود و التصقت أجسادهم بعضهم ببعض بحثا عن القليل من الدّفء و الأمان..و ثمّة منهم من نام واقفا متّكئا على حقيبة صديقه الذي يحاذيه،و الكلل و الحرمان باديان على وجوههم الذّاهلة المرتخية بالنّعاس.المطر و الوحل.لا نار.لا حساء.السّماء قريبة و سوداء و إحساس مرعب بأنّ العدوّ يحوّم حولهم.كان ذلك حزينا..
    ماذا نفعل؟ماذا يجري؟
    أفواه المدافع المصوّبة باتّجاه الغابة تبدو كأنّها تتربّص بشيء ما.و الرشّاشات تحدّق في الأفق بثبات.كلّ شيء يوحي بهجوم آزف.فلم لا نهجم؟ماذا ننتظر؟
     الجميع بانتظار الأوامر و مقرّ القيادة العليا للحربيّة صامت.لم يكن المقرّ بعيدا على أيّة حال.إنّه ذاك القصر.قصر لويس الثالث عشر،ذو الطّوب الأحمر المغسول بالمطر و السّاطع بين الأجمات.إقامة ملكيّة جديرة فعلا بأن تحمل شرف احتضان واحد من أهمّ ماريشالات فرنسا.
    وراءهم كان هناك خندق و منحدر صخريّ يفصلهم عن الطّريق.الأعشاب الغضّة ترتفع مستقيمة فتخفي عتبات المدخل.كانت خضراء بلون واحد محفوف بالزّهور.
    في الجانب الآخر،أي من الجهة الخصوصيّة للمنزل أشجار تتخلّلها ثقوب ضوئيّة .و حوض الماء أين يسبح البطّ هامد كمرآة.و تحت السّقف في واجهة القصر غرف متجاورة ضخمة صمّمت خصّيصا لتكون مطيرة تؤوي إليها طيور التّدارج و الطاووس.و كانت صيحاتها تملأ المرج .
      إذّاك لم يكن شعور الجنود بالاندحار مسيطرا تماما على عقولهم ،مادام ليس هناك بعدُ ما يُفسَّر على أنّه :" دعوا كلّ شيء و تراجعوا!".فالرّاية لازالت تحمي أصغر زهرة في الحديقة،و إنّه لأمر مدهش حقّا أن يخيّم ذاك الهدوء المطمئن قريبا جدّا من ساحة المعركة.تلك السّكينة التي أبدعها التّرتيب المحكم و انتصاب الأجمات على خطّ واحد مستقيم و غرق الشّوارع في حالة من العدم.
    و المطر الطّائش الذي ما انفكّ يشكّل وحلا أشعث على طول الدّروب و حفر أخاديد عميقة هنا و هناك لا يمثّل في الأصل سوى فيضان أرستقراطيّ ،أنيق و مسؤول ،و عابر في الأخير،مهمّته تلميع الطّوب و الزّيادة في بريق الّلون الأخضر و غسل أوراق البرتقال و ريش البطّات البيض.الوضع جيّد و الأمور تسير كأفضل ما يكون.
    و حقّا لولا العلم الذي يرفرف فوق قمّة السّطح و الجنديّين الواقفين بانتباه أمام الباب الحديديّ المشبّك للمبنى ،فإنّ أحدا لن يصدّق بأنّ الذي يشاهده مقرّ القيادة العليا للحربيّة.
    الخيول ترتاح في الإسطبلات.و هنا و هناك بإمكانك أن تلتقي عمّال النّظافة أو تعثر على وثيقة أو مرسوم يتسكّع في محيط المطبخ أو يعترضك بستانيّون برفوش و سراويل حمراء يمشّطون تربة السّاحة الرّئيسة بعناية و سلام.
    و عبر شبابيك قاعة الأكل على الجانب الخلفيّ من القصر يمكنك أن ترى بوضوح مائدة نصف مجلوّة.قوارير مفتوحة.أكواب فارغة و شاحبة و مصبوغة بالشّراب ،و لحاف الطّاولة المشوّش يخبر بأنّ حلقة عشاء قد انفضّت قبل قليل.
    من القاعة المجاورة يصلك حديث صاخب و قهقهات و ارتطام كرات و كؤوس..كان الماريشال يخوض مباراته،لهذا السّبب لم يتلقّ الجيش الأوامر حتّى تلك السّاعة.حين يقرّر الماريشال أن تبدأ المباراة فلا مشكلة إن أطبقت السّماء على الأرض.ليست هناك قوّة في العالم تمنعه من إنهائها.
    نقطة ضعف رجل الحرب ذاك كانت البلياردو،و هاهو هنا بملامح صارمة كما في المعركة تماما.بدلة ضخمة.صدر عريض موشّى بالأوسمة.عينان تومضان و وجنتان ملتهبتين بفعل نشوة العشاء و الّلعب و المشروب الرّوحيّ.يحيط به مساعدوه في الحرب.رجال محترمون و مفعمون بالإعجاب عند كلّ ضربة ينجزها.عندما يوفّق الماريشال في إحداها فإنّهم يهرعون لتسجيلها و عندما يعطش فإنّهم يتسابقون فيما بينهم لتحضير شرابه.
    و بالنّظر لرنين الصّفائح و الأوسمة و الإبر و القطع المعدنيّة و لكلّ تلك الابتسامات الوديعة و كلّ ذلك التّوقير من جانب المتودّدين و كلّ تلك الغرز التي ترصّع الأزياء الرّسميّة الجديدة،و في تلك الصّالة المؤثّثة بخشب البلّوط المطلّة على المتنزّه و ساحات الشّرف فإنّك بلا شكّ ستتذكّر خريف مقاطعة "كومبيانا" .
    غير بعيد ترزح معاطف ملوّثة تحت المعاناة.هناك على امتداد الشّوارع توزّعت مجموعات داكنة تحت المطر و أسياخ الصّقيع.
    خصم الماريشال نقيب صغير في القيادة.كان حليقا و يرتدي قفّازات ناصعة و أحزمة ضيّقة.كان أفضل لاعب بلياردو و كان بوسعه – لو أراد - أن يهزم كلّ ماريشالات الأرض،بيد أنّه يعرف من باب الّلياقة و الأدب كيف يحافظ على مسافة محترمة بينه و بين رؤسائه.و كان يتصرّف على نحو يجعله لا يربح دون أن يخسر بسهولة أيضا.هذا ما نسمّيه ضابط المستقبل...
    أيّها الشابّ الطّموح ! لنتوقّف قليلا و نوضّح المسائل:تحصّل الماريشال على خمسة عشر نقطة و لم تحصل أنت سوى على عشرة،بهذا الشّكل ستضمن لنفسك تدرّجا لم يكن باستطاعتك أن تحلم به لو أنّك في الخارج مع الآخرين تحت رجوم الماء التي تغرق الأفق.و لا أظنّك ستتحمّس لفكرة تعفير زيّك الأنيق و الإمساك بأوسمتك الذّهبيّة بانتظار أوامر لا تأتي أبدا.
    إنّها بالفعل مباراة شيّقة للغاية.الكرات تنساب بسلاسة و الألوان تمتزج بانسجام،و القنوات تنجز عملها على أتمّ وجه و البساط الأخضر بدأ يسخن ..
     فجأة تمرّ شعلة مدفع تشطب الفضاء يرافقها دويّ أخرس يهتزّ له الزّجاج.ارتجف الجميع و تبادلوا نظرات قلقة.وحده الماريشال لم ير و لم يسمع شيئا مطلقا:كان منكبّا على الطّاولة بصدد التّخطيط لهجمة ارتداديّة ماكرة.
    كان دائما يفضّل أسلوب التّقهقر ؛و للإنصاف كان يبرع فيه!
    ثمّ مرّت شعلة أخرى تلتها أخرى.و تعاقبت الضّربات و تسارعت.ركض المعاونون باتّجاه النّوافذ ؛هل نفّذ الألمان هجومهم؟
    " حسنا فليفعلوا! قال الماريشال و هو يستعيد الكرة البيضاء...دورك أيّها النّقيب."
    اقشعرّت أبدان القادة من فرط الإعجاب .المدينة تُنتهك نائمة و هذا الماريشال يقف برصانة أمام البلياردو في قلب غارة معادية تستدعي التّحرّك فورا...في تلك الأثناء تضاعف القصف مصحوبا بطلقات الرشّاشات و انفجار القنابل ،و استقرّ ضباب أحمر،أسود،فوق سور الحديقة و أُضرم المتنزّه بالكامل.طيور الطّاووس و التّدارج تتخبّط مذعورة داخل المِطيرة و شمّت الخيول البارود فصهلت و تدافعت و وقفت على قوائمها الخلفيّة.و هاهو المقرّ يتضرّر و الزّحف العنيف يُحاصره من كلّ جانب.
    سرعة على سرعة!وصلت سيّارات معطوبة الفرامل أمام المقرّ و الكلّ يطلب مقابلة الماريشال.
    و الماريشال بالقطع لا يقبل الخوض في جدال مع أيّ كان..ألم أقل لكم بأنّ قوّة في العالم لن تفلح في إيقاف مباراته!
    " أنت تلعب أيّها النّقيب "
    و للنّقيب أيضا ما يسلّيه.ألم يكن شابّا؟ و هاهو يفقد صوابه و ينسى ما عليه أن يفعل و هاهي يده البارعة تخرج عن السّيطرة و تحقّق الضّربة تلو الضّربة بنجاح باهر،حتّى أنّ النّتيجة انقلبت إلى صالحه بفارق شاسع.و احتقن  الماريشال و طفت على وجهه المفاجأة و الإهانة.في تلك الّلحظة قُذف حصان و سقط في السّاحة على بطنه ميّتا.و خرق أحد الضبّاط المساعدين التّعليمات في الخارج و اقتحم بوّابة المقرّ بالقوّة و قفز بخفّة عبر النّافذة:
    " ماريشال...ماريشال...!"
    و عليك أن تشاهد بنفسك كيف اُستُقبل...هرع الماريشال ناحية النّافذة أحمر من شدّة الغيظ و عصا البلياردو في يديه:
    " ماذا هناك؟...ما هذا؟...ليس هناك حراسة إذن ؟
    - و لكن ماريشال...
    - طيّب ليس الآن...بعد قليل...قلت لكم انتظروا أوامري بحقّ السّـ...!
     و أُغلقت النّافذة بعنف...
    لننتظر أوامره إذن!
    كان ذلك  تحديدا ما يفعله أولئك البؤساء.تسلخهم الرّيح و يصفعهم الرّصاص ملأ الوجوه.  و سُحقت كتائب بأسرها،فيما ظلّ الآخرون بلا فائدة كأنّهم عزّل.أسلحتهم بين أيديهم دون أن يتفطّنوا إلى قلّة نفعهم.ليس هناك ما يمكن فعله.فقط نترقّب الأوامر...
    و لأنْ لا حاجة لأوامر كي نموت فقد سقط مئات الرّجال خلف الأشجار وسط الخنادق قبالة القصر الجامد،بالرّغم من ذلك فقد ظلّت الطّلقات تمزّقهم ،و من جراحهم النّازفة ساح دم فرنسا بسخاء و صمت...في الأعلى هناك في صالة البلياردو حمي الوطيس و اشتدّت ضراوة النّزال:استعاد الماريشال الأسبقيّة على خصمه ؛فيما كان النّقيب الصّغير يدافع بشراسة أسد...
    بالكاد يكفي الوقت لتسجيل المزيد من النّقاط.
    و اقترب عويل حرب الجانب الواحد ،و الماريشال يلعب بمفرده الآن.و سقطت قذائف داخل السّاحة و أصابت إحداها حوض الماء و تهشّمت المرآة،و بقيت بطّة تسبح وحيدة وسط دوّامة من الرّيش المصبوغ بالدّم.
    كانت تلك آخر قذيفة.
    و ران صمت رهيب.و لم تعد تسمع من الدّاخل سوى وقع المطر فوق الأشجار و صوت دحرجة الكرات في أحشاء الطّاولة ،و عبر الطّرق المنقوعة يتناهى إليك ركض كأنّه لقطعان مستعجلة...
      الجيش يضلّ الطّريق. 
       الماريشال يفوز بالمباراة.



    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق