• الرئيسيّة

  • الأحد، 2 ماي 2021

    بعيدا عن جزيرة القراءة

     

    بعيدا عن جزيرة القراءة

     

     أسقط في العبث لو أنكرتُ وجود 


    قرّاء حقيقيّين أوفياء للكُتب لا للكُتّاب، قرّاءَ مُستقلّين، لا يكاد أحدهم يعرف الآخر، ليس لديهم ما يدينون به لأحد، أبصارُهم حديد في حفلات الدّخان وذرّ الرّماد، يتنقّلون في صمت بين المكتبات والأكشاك. يقرؤون ما يطيبُ لهم، ما يختارونه بأنفسهم، دون إحداث ضجيج من حولهم، مُتحرّرين من قيد الحفاظ على الصّديق (أو الكاهن أو الوليّ) بالتّصفيق له على الدّوام. يُدركون أنّ القراءة ليست عملا خيريّا ولا هي المجال المناسب لتوزيع الصَّدقات. تُحرّكهم الأفكارُ ويهتزّون لاهتزازها، غيرَ مُضطرّين بتاتا إلى رفع تقرير مُجاملة أو إعجاب لصاحبها ولا إلى اتّباع طائفة قرّاء موجَّهين مُطيعين كسُيّاح لا يملكون الحقّ في الخروج عن البرنامج الذي سطّره الدّليل. القرّاء الحقيقيّون لا يهمّهم إن كان الكاتب على قيد الحياة أم لا، إن كان له حساب فايسبوكي أم لا، إن كان أو كانت من المُبشِّرين بانتصار النّساء على الرّجال يوما أم لا، إن كان راعي غنم أم واحدا من بين إقطاعيّي الثّقافة في البلاد، إن كان أصلا من هذه البلاد أم من خارجها، إن كان على رأس منبر أو أحد مقرّبيه أم ممّن هم «خارج التّغطية off line». لأنّ قضيّته مع كِتابٍ يُحاورُه في مكتبة لا مع كاتب يتسوّل القراءة، بما أوتي من وسائل الإكراه والإحراج والإغواء. وأن يكون لدينا قرّاء جيّدون على درجة عالية من النزاهة والذكاء والحريّة لا يتجاوز عددهم بكثير الإعلام المُحترف ولجان القراءة في دور النّشر ولجان التّحكيم في المسابقات، فهذا لا يعني أنّ هناك قراءة. ثمّة فرق كبير بين وجود قرّاء ووجود قراءة في بلد ما. القراءة معدومة في تونس. يجب أن نعترف بهذا كي نتقدّم، لأنّ عاطفة المكابرة لم تُؤدّ بالبلدان عبر التاريخ سوى إلى مزيد من التخلّف. أقول إنّ القراءة معدومة، ببساطة وبموضوعيّة، لأنّ شروطها غائبة: إذ لا وجود لنجاح جمهوري للكتب، موت النّقد، مشهدٌ أدبي يوحي بأنّ الكُتُب تمرّ مباشرة من المطابع إلى المحارق (ما عدا من شفع له تتويجٌ مُهم)، دفن المناسبات والفرص الإبداعية والمعرفية (الشحيحة أصلا) حيّة بدعوى الفيروس الذي لم يمنع التلاميذ والطلبة من الدراسة، إبطالٌ تام لدور المؤلّفات السّرديّة في الدّراما، غباء حكومي إزاء فهم معنى الثقافة. في بلد يختار أن يلقي بالكتب من المركب المهدّد بالغرق بدل الحجارة التي تملؤه، سيكون على الكاتب أن يطوّر أسلوبا يجنّبه الاكتئاب والإحباط. سيكون عليه (وهو مُحقّ) أن يلتحق على نحو مُثير للشّفقة بطائفة ما كي يتوهّم في القُرّاء وجود قراءة، وهي إمّا العشيرة أو المُعجَبون بمنبر الكاتب أو النّوادي المُضيّقة أو المجموعات الفايسبوكيّة، وهي جُزُرٌ لا يقطنها عادة أكثر من مائة ساكن أو مائتين، لكلّ جزيرة منها لغة وزعيم وحرَس. وصولا إلى طائفة ليس مُتاحا أن يحظى المرء بقُربهم لأنّهم مُنشغلون على الدّوام بزفّ النّجوم إلى العيون والجوائز؛ لن أتحدّث عن هؤلاء لأنّي لا أملك دليلا على وجودهم. لكنّي في المقابل أملك دليلا على بؤس القراءة: هل كان معرض الكتاب ليُلغى لو أنّ له وزن وليمة الضّباع التي اسمها انتخابات؟

     

    ***

     

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق