• الرئيسيّة

  • السبت، 17 أفريل 2021

     


    رسمُ الهمزة

     

         عاد إلى بيتِه خائر القُوى بعد يوم عملٍ شاق توجّب عليه فيه لقاء أناسٍ يحتجّون على الدّوام ضدَّ كلِّ شيء تقريبا، كما كان عليه ملأ استمارات بدا له عدد خاناتها غير معقول. لم يُزعِجه ذلك أكثر من اضطراره إلى كتابة الأجوبة داخل سيّارة لا تكُفُّ عن الاهتزاز في طُرقات ريفيّة مُزرية، لا سيّما أنّه كان من فئة البشر المولَعين بالنّظام، فعدا عن كونِه يكرَه التخاطُب باللهجة العاميّة في تراسُلِه الخطّي أو الرّقمي، فقد كان مهووسا بتفادي أخطاء الرّسم وتصريف الأفعال كأنّهُ يُمتَحَن.

         سيطر عليه إحساسٌ بالهزيمة وهو يعبُر الرّدهة مُتّجها نحو مكتبه المنزلي الصّغير ليتخفّف من أشيائه الصّغيرة التي باتت الآن تُشكّل دليلا على ضياعِه. شعُر كأنّه أمضى الساعات الثمانية الماضية في ارتكاب الشرِّ. غيَّرَ ملابِسَه، لكن ولأنّ الوقتَ لم يكن قد تجاوَز الخامسة مساءً من أيّام شهر ماي، فقد قرّر إرجاء صلاة يوم بأكمله حتّى يحين موعد صلاة العشاء حتّى لا يُضطَرَّ إلى تكرار الوضوء، مُتطلِّعا إلى لحظات هدوء خالية من أيِّ واجب أرضي أو سماوي، يلتقي فيها بنفسه المُهمَلَة ليكتُب ردودا على ما ورده من تعاليق خاصّة بمنشورِه الصباحي، ثمَّ كي يُشارك العالم -كما كان يتوهّم- بعضا من خواطِرِه الخالية من الأخطاء. إلاّ أنّه كان يتعذّبُ بسبب لوحة مفاتيح اللغة العربيّة في هاتفه الجوّال، إذ لم تكن مُجهّزة بالهمزة المرسومة على الياء، ما جعلَهُ مُضطرّا إلى استدعاء كلمة «رائعة» التي تفطّن إلى أنّ هاتفه كان يُسعِفُه بها حالما يلمس حرف الرّاء. عندها يبقى أن يستبدل أحرفا بأخرى مُحافظا على همزتِه، فعلى سبيل المثال يحدُث أن يكتُب (ما زلتُ رائعة..) قبل تحويلِها إلى (ما زلتُ حائرا)، أو أن يكتُبَ (كافّة رائعة..) ثمَّ يُعدّل الكلمة لتصبح (كافّة العائلة). هكذا كان في كلّ مرّة يجدُ نفسَه مُجبَرا على تفتيت كلمة «رائعة» حتّى لا يقعَ في فداحة استخدامٍ مُخزٍ للهمزة.

          تحقَّق حُلُمُه المسائي الصّغير لكن ليس من دون تضحيات. فقد اضطُرَّ إلى تلقين ابنه درسَ القراءة ومدح خال زوجته لكي تتركه في سلام. فتح حسابَهُ الافتراضيّ وراح يكتُب الرّدود وينثُر جُملا طويلة لم يُترَك فيها رسمُ الهمزة للصّدفة رغم الجهود المُضنية التي كان عليه القيام بها جرّاء الحرف المفقود.

        دبّ إليه الملل وضاقَ صدرُه بمُطاردة الهمزة على ذلك النّحو الرّتيب، في تلك اللّحظة تلقّى رسالة من إحدى زميلاته في العمل. كان يُكنُّ لها ضغينة عميقة لأنّ لها مِشيَةً فاتنة ووجها جميلا. كانت تُبالِغُ في إثارة الإعجاب من حولها مُعَدّدة مناقب زوجها وبطولاته الخارقة، ولم تكن فوق ذلك كُلِّه تُبادر أحدا بالكلام. كان على يقين أنّها تتعمّدُ إغواء الرّجال لتُساوي بينهم كأعواد الثّقاب قبل أن تحرق رؤوسهم جميعا. كان سبيلُه الوحيد لينجو من سُخريتها القاتلة هو أن يزدريها. اتَّضح أنّ الرّسالة كانت بيانا نقابيّا جافّا يدعو إلى إضراب عن العمل. لم تُضف المرأة على البيان حرفا واحِدا. استشاط غيظا مكتوما وعزم على أن يكتُب لها «أنتِ دائما هكذا، لا شُغلَ لك سوى مُحاربة الشّغل». ضغط بإصبعه المُنهَك الذي لم يعد يتحمَّلُ المزيد من العراقيل على أولى أحرف جملته وكان عليه ليكتُب كلمة «دائما» أن يستدعِيَ كلمة «رائعة» أوّلا، فَعَلَ غير مُتشكّك فيما عزم عليه. قرأ على شاشة هاتفه (أنت رائعة). تردّد لحظة ثمَّ بعث بالرّسالة قائلا في سرِّه: «لا بأس! هذه أيضا صحيحة».

    ***

    محمد فطومي

    تونس 06/04/2021

     

     

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق