• الرئيسيّة

  • الجمعة، 30 أفريل 2021

    الجسر / قصّة قصيرة على صفحات مجلّة الحياة الثقافيّة / تاريخ 29/04/2021


    الجسر

     

     

        أمعنت النّظر في القمر وهو يتوارى خلف غيمة وفكّرت كما لو أنّي أؤيّد الحماقة التي سكنتني وما انفكّت تكبر حولي و فِي داخلي، بأنّ:

    الجبناء الذين يتّخذون من أوسط الجسر منزلا كي يفوزوا بالضفّتين، تتبرّأ منهم الضّفتان.

    بردت أطرافي لحظة و تملّكني ذعر في معدتي، تخيّلت الذّعر عنكبوتا بنيّا مكسوّا بالشّعر.. وقرّرت كأنّي أخضع نفسي إلى العلاج: لا بأس، الأمر طبيعيّ.. نحن دائما هكذا لا نرتعد إلاّ أمام المسائل التي نكون فيها محقّين للغاية.

      ظلّ الخوف يمور  بداخلي. حاولت أن أرتخي عضليّا، لكنّ شعورا لاذعا بأنّي أكذب انتابني.. 

     حوّلت بصري عن السّماء فوقع بموجب العادة على بيت علوان أخي، لحظتها ارتطمتُ مرّة أخرى بقراري وتخيّلت مزيج الدّهشة والشّفقة اللتين كان سيحاول إخفاءهما عنّي لو أخبرته بما أنوي فعله، سيخبئ عينيه براحتيه، و سيفرك صدغيه ويغيّر الموضوع .. يقول أخي المزارع، علوان: فرس شبعان ومحراث جيّد  وتربة سوداء وكرامة، أشياء لا تجتمع حتّى لدى السّلطان..

     يختفي العنكبوت في معدتي من تلقاء نفسه. أحدّق في الخندق العميق الذي يمتدّ طويلا، شامتا ، حائلا دوننا  و دون المدينة. يستفزّني منذ صغري هذا الشّرخ المتأصّل في كلّ واحد من أبناء حيّي كدمغة محرجة على جبين مثقّف أفرط في الشّرب حتّى سقط،. أحيانا يتراءى لي أنّ غضبي بدأ قبل أن أولد.


       صديقي غَوّار هو الوحيد الذي أثق به وبإمكاني التّعويل عليه في المسائل المجنونة. سأذهب إليه وأجعله يستدرجني إلى الكلام. لا أجد نكهة في الحديث معه إن لم أرهق حدسه معي أوّلا. كان يكبرني بثلاث سنوات و قلبا آخر على اليمين. يحبّني. كان دائما يدافع عنّي ونحن صغارا. أذكر أنّه خاض خصومة مع أولاد تعرّضوا لي. كنت تلميذا بمئزرٍ أصفرَ قصيرِ الأكمامِ وكان هو مسّاح زجاج وأحذية في المفترقات. يومها خسِر حذاءه ولم يروِ لي ما حدث. ثمّ بعد ذلك صار  يدسّ في جيبي بعض النّقود، ويقول الجامعة ليست جزيرة قرود! ستحتاج إلى هذا الكنز الصّغير.

    وجدته في المقهى، لم يكن يلعب النّرد كما توقّعت، كان ينقّط و يشطب ورقة رهان لأوّل مرّة.. سألته:

    - ماذا تفعل؟

    أجاب:

    - يوم يطرق الحظّ بابي، يجب أن أفتح له وفي يدي ورقة قمار.. عيب كبير أن أدعه يهب لي نفسه مجانا.. لديّ إحساس بأنّه سيطرق بابي عمّا قريب.

      كان حيّنا خليَّةَ عمّال زرق و خادمات بيوت و رضّع.. أماكن كهذه تفهم أنّ عليها الابتعاد عن المجال الفوتوغرافي لسائح جاء يتعجّب ويتلذّذ وحسب. مع ذلك أحسّ تجاهه بعاطفة لا أجد لها وصفا يناسبها أبلغ من الاستمرار في حبّ وشاح أمّي حتّى لو خنقوني به ألف مرّة..

      وإنّ الطّارق الغريب ليطرق باب الصّفيح في حيّنا بحثا عن الخمر أيّام الجمعة والأعياد، فتفتح له فتاة في السّادسة من العمر، جميلة كأغنية يسألها عن والدها أو أخيها الأكبر فلا تجيب، وتُحضر له طلبه في كيس أسود تحكم القبض عليه بكلتا يديها. يسألها ما اسمك يا صغيرة؛ تكره التشبّه ببنات الجدائل و الأراجيح، ترشقه بنظرة هرّ مسنّ وتجيبه: حوريّة. فيتلقّى إجابتها كشتيمة.. قال لي غوّار مرّة: «الدّنيا على حقيقتها هي دنّ الماء المتّسخ بأثر الأيادي، ذو الغطاء المربوط بخيط إلى العنق، القابع تحت كرسيّ القيادة لجرّار قديم».

       مازالَ حيّنا كالعار الأكثر خزيا من أن يُطرد الواحد فينا من بيته بماسورة بندقيّة فارغة دفعا من الخلف..

       وحين يمرّ بك أبوك الذي يدّخرك لتتعلم صنعة بصحبة عمّك ويلفيانك مستندا إلى جدار مائل تراقب الصّبية  وهم في طريقهم إلى أقرب مدرسة بالمدينة، يخلّفونها على يمينهم ويتّخذون مسلكا يحيد بهم عن الخندق كي يصلوا إليها وهم يتعثّرون في أنياب الصّخور والشّوك المتحفّز للدغهم في أيّة لحظة، ويتعجّب عمّك: حسين .. الفتى بدأ يكبر، لا تحرمه من الدّراسة.. إنّه راغب.. أقرأ ذلك في عينيه.. أنا أسجّله و أنفق عليه..

    و يداعب رأسك بحنوّ: بنيّ تريد أن تدرس..؟ 

    و لمّا تكبر و تصبح أستاذا بمعهد خاصّ لقبا دون راتب يؤدّي أربع ساعات متباعدة في الأسبوع، فيتفاقم فقرك أكثر. فإنّك حتما ستمرض بقنطرة بحجم عجزك.

       إنّ إهمالهم للمطالب المتكرّرة و للشّكاوى التي أمطرنا بها جميع المصالح من أجل أن يبنوا بيننا وبين المدينة قنطرة، لا يشي سوى بأنّهم يتعمّدون إبقاءنا خارج العمارة والتّقويم.

      

        خائف لكنّني حسمت أمري.. سأبيع كلية وأبسط بثمنها جسرا صغيرا للمشاة يربطنا بالمدينة. غدا أتفاوض مع محي الدين حارس مقبرة اليهود بشأن الكِلْيَة وليكن ما يكون.. في النّهاية واحدة تكفي.. وفرس شبعان ومحراث جيّد  و تربة سوداء وكرامة أشياء لا تلتقي حتّى لدى السّلطان.

       كان غوّار سيمنعني قطعا لو أخبرته، لذلك فضّلت أن أبيعها أوّلا وحين أحصل على المبلغ أضعه بين يديه وأقول له أيّ كلام يخطر ببالي وقتها، قبل أن أكلّفه بمدّ المعبر ورفع الحواجز الحديديّة على الحوافّ.. لن يمانع.

    أجريت الفحص اللاّزم وكان عليّ أن أنتظر أكثر من شهر . وقّعت لمحيي الدين على ورقة؛ وحذّرني قائلا: «يوم العمليّة أريدك أن تجهز باكرا. لا تجعلنا ننتظر. أريد رجلا إذا وعد بقتلي في الغد، لا يكتفي في الغد بصفعي..»

    بعد أكثر من شهر عَثِر لي على حريف وأجريت العمليّة.

    قبضت نصيبي من الصّفقة وأوهمت الجميع بأنّي قمت بعمليّة على قرحة المعدة.

    كان مبلغا لا بأس به، بل أظنّه كافيا لأغيّر أيضا محفظتي المهترئة وموقد أمّي وبعض الأثاث..

      لكن لمّا انتزعوا كليتي وقبضتُ المبلغ، راودني شعور بأنّي ذيل سحلية يستمرّ في التّمويه بعد موت السحلية. الحقيقة الوحيدة هي الدنّ المعفّر بالعمّال والقيظ. والعاطفة التي لا تنفكّ تقرّر نيابة عنّي منذ ولدت سخيفة وبلهاء للغاية. ندمت رغم  كلّ الأشياء التي  قضيت عمري مسكونا بها، ندمت.

    أنا في الأخير كأهلي وجيراني؛ لستَ تتوقّع ما الذي يمكن أن نسطو عليه أو نرتكبه أو نبيعه لنثبت براءة آخرين لمجرّد أنّهم آخرون، ثمّ بعد ذلك نستفيق فنكتشف أنّنا مجرّد نعاج مريضة..

     مررت بغوّار ابتعدنا.. قبل أن نصل إلى تلّة «هيجات»،اشترينا الشّراب. كانت فكرة غوّار، قال بأنّه يدعوني إلى الاحتفال بالمولود الجديد.

    وانقَضتْ ساعة كنّا فيها نشرب ونتحدّث عن الشّراب. بدا لي حالنا كشيوخ حيّنا عندما يتحلّقون حول النّار للحديث عن الماء.

      فوق تلةّ «هيجات» المنسيّة حيث نجلس، كانت هناك كرمة يتيمة. يُروى أنّ تحت التلّة جرّة ألماس.. نحن هنا نولد فيقصّون علينا حكايتها. فشل الشّيخ الهادي في استعطاف الجِنّي حارس الكنز. خذل عفريت الكرمةِ الشّيخَ الهادي أكثر من مرّة أمام رُتَبٍ كبيرة في الدّولة..

    قالها علنا وبمرارة:

    «- عفريت «هيجات» الكلب.. لقد قدّمت له أفضل بخور في العالم ولم يفتح.. الكلب! إنّه يخجلني أمام الشّخصيّات..»

       في لحظة صارحت غوّار بكلّ شيء.. لم يقل شيئا. لم يبدُ عليه أنّه فوجىء.. فغوّار الذي عرفته يقدّر أن يكون للبؤس ألوانا غير الجوع والحفاء. لكنّه بكى وغنّى بصوت خافت.

    ثمّ ضحك وقال:

    الشّيخ الهادي غبيّ؛ لو قدّم للعفريت الشّراب لفتح له جميع المخازن..

      

       عارض الشّيوخ بناء القنطرة وقالوا إنّ النّائب سيغضب.. تجاهلهم غوّار وهدّدهم بالقتل وشيّدها..

     بعدها التحق غوّار بالعمل في حظيرة بناء ضخمة بالمدينة. كنت ألتقي به كلّما مررت من هناك.

    كنّا نشرب الشّاي في استراحة العمّال، ثمّ أمضي. منذ أصبح الجسرُ جاهزا صار غوّار يحتضنني في كلّ لقاء، وكلّما هممت بالانصراف قرأت في عينيه شعورا بالوحدة ولحظة يستقِرُّ غضب ثائر دلّ على مكانه صديق طفولة.

    - أضف السُكَّرَ لو أردت.. الشاي المرّ لا يلائم وضعك الجديد.

    - غوّار أنت متعب..

    - دعك منّي.. هناك أمر يحيّرني ولا أجد له حلاّ..

    اسمع.. بالله عليك؛ نذل كالشّيخ النوِّي؛ لو أتيح له أن يبيع البلاد مقابل نسبة، هل كان سيتردّد؟

    - طبعا لا.

    فقال:

    - إذًا لِمَ لا يشنق بتهمة الخيانة العظمى؟ كلّنا نشهد ضدّه.. أنا و أنت على الأقل..

    ضحك عاليا، وأضاف وهو ينفث دخان سيجارته بعيدا عن وجهي:

    - ها أنذا على سبيل المثال، على استعداد لأعترف بكلّ الجُنحِ التي لم أتورّط فيها بعد، لسبب بسيط، هو أنّ الفرصة لم تُتُحْ لي لأقترفها لا غير..

    بعد أسبوعين سقط غوّار من الطّابق الرّابع للبناية التي يعمل فيها ومات.

    أقدّر بدوري أنّ عليه أن يفهم قبلي كلّ شيء.

    توقّفت السيّارة التي تقلّه أمام خندق الطّين الشّامت وعادت أدراجها، وعبرنا به القنطرة مترجّلين نحو الحيّ لدفنه هناك. في المقبرة وقف الشّيخ النوّي على قبره طويلا يدعو له بالمغفرة بنبرة من يطلب المستحيل.. ثمّ بعدها انتهى غوّار رفيقي.

     

       بعد أيّام من الدّفن، زارتنا البشرة النّاعمة البيضاء والشّحم والذّقون المطّاطيّة الخضراء. قدّموا أغطية وأكياس دقيق مقابل صور تذكاريّة للعجّز أمام الصّناديق وعلى وجوههم ملامح الرّضا والبهجة مستسلمين تماما كما لا يجب أن يتقاعس الحمام الأبيض في الطّيران فورا وصوب الأعلى كي يُوَثّق بعض الطّلبة الحالمين نداءً للسّلام أمام عيون العالم.. حاول الشّيخ النوّي استدراجي بودّ للحديث عن الانتخابات:

    - اطّلعت طبعا على القائمة؟ سألني وعلى وجهه تكشيرة ضبع ميّت.

    - اطّلعت عليها ولكنّي لن أصوّت لأحد.. لأنّ الوحيد الذي يصلح نائبا علينا لم يترشّح للانتخابات.

    - من تقصد ؟

    قلتُ :

    - عفريت «هيجات»!

    ***

     

    محمد فطومي

    تونس

     


    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق