• الرئيسيّة

  • الاثنين، 12 مارس 2018

    المجاميع القصصيّة. هل هي كتب؟




    م/فطومي

         

    قبل الخوض في مسألة جدارة المجموعة القصصيّة بصفة كتاب من عدمها، بعد كمّ «التّتفيه» الذي ما انفكّ يُسلَّط على هذا النّوع من الأعمال الأدبيّة في الفترة القريبة الماضية على وجه الخصوص. أودّ الحديث عن مكوّنها الأساسي: القصّة القصيرة. ثمّ لاحقا عن شقيقتها الرّواية.
    القصّة في اعتقادي هي التقاط متبصّر  للانفعالات الإنسانيّة التي تلقي بظلالها على الجماعة كما على الفرد المؤثّر على الجماعة أو الفرد المختزل للجماعة(الواحد الكلّ). تلك الانفعالات التي بفضلها استحقّ الإنسان صفة الكائن المتفوّق المحاول العاجز الملغز  الحائر المثير للشفقة في آن. وهي أيضا مآخذ يبسطها المفكّر على مجتمعه بناء على ثقافته وتأمّلاته وقدرته على مناظرة الظّاهرة بما يقابلها من حكاية مشحونة بالإحالة وذلك قصد التّنوير  والتحذير وتعرية السّلوكيات التي من شأنها أن تقود إلى الانحطاط والعبث والتخلّف. فترى المجتمعات وجهها الحقيقيّ الذي أخفته العادة والانسياق وراء السّهولة والرفاهيّة المسمومة والسطحيّة والتّنافس الغبيّ والغزو الدّعائي والّلحاق الأحمق خلف ما لا يُدرك أبدا. وهي بالتّالي نصوص قصيرة أريد بها دعوة المجتمعات لمراجعة نظرتها لما بات لديها يقينا أنّه عاديّ بحكم النّزعة البشريّة إلى حشو النّفس بالمتع ولا شيء غير ذلك. ومع تحفّظي على استعمال كلمة مرآة أظنّ أنّ القصّة هي مرآة. لكن ليس بمعنى أنّها تعكس صورة المجتمع كنوع من إعادة البضاعة إلى أهلها بقدر ما هي مرآة عيوب قاسية لا تجامل أبدا. والكاتب الذي يؤلّف نصوصه غير مستبطن لهذه الفلسفة سيسقط بالضّرورة إمّا في كتابة النّكات والوقائع الشّعبيّة اليوميّة المُسلّية في أفضل الأحوال أو في المزايدة على القارىء بالقوميّة والانتصار للفضيلة والكادحين إلى غير ذلك من القيم بشكل فجّ ومفضوح. أمّا الرّواية فهي محمل التطوّر والتحوّلات الإنسانيّة الكبرى  دون منازع وهي استئناسا إلى أنّ القصّة تشبيه طويل فإنّ الرّواية تأويل طويل وهي الطّاقة السّرديّة الوحيدة التي ينبغي أن تكون لها القدرة على متابعة كيفيّة حصول المآل أو المصير انطلاقا من تتابع سببيّ وئيد متشابك زاخر بالأحداث أو الأفكار أو الاثنين معا. وهي أيضا برهنة إبداعيّة على وجهة نظر ما أو عدّة تراوح بين بناء العلاقات وبين سرد جملة المحاولات والصّراعات والاختيارات المتشعبّة التي تضافرت كي تفضي إلى نهاية ما هي عادة إمّا مأساة أو انطفاء.
    وإن كانت القصّة هي الكاميرا القادرة على التّصوير في العتمة فإنّ الرواية هي الكاميرا القادرة على تصوير نبتة تخرج من البذرة وتنمو وتكبر.. إذا ما نتحدّث عنه لا صلة له بوظائف كلا الجنسين أو أفضليّة إحداهما على الأخرى. بقدر ما نتحدّث عن ضرورة تمسّك الكتّاب بمبدأ الإجادة والتّعب الكامل. وعن خصوصيّة كلّ منهما وعن الحاجة إلى كلّ منهما.
    لنختبر الآن سؤالنا المتعب:
    هل المجاميع القصصيّة كتب؟
    كيف لا يتبادر إلى الأذهان سؤال مماثل ونحن نرى كيف أنّ المجموعات القصصيّة عربيّا لا تُعامل على أنّها كتاب يصدر. من حقّه أن يدخل سوق القراءة دون أن يجد نفسه مقذوفا في ساحة مهيّأة لغيره. فرص القراءة فيها غير متكافئة. ساحة تكرّس الأسماء كما لو أنّها علامات تجاريّة ولا تعترف بالمجموعة القصصيّة ولا توليها أيّ اهتمام كما لو أنّها لا تقول شيئا. في هذا ألقي بالمسؤوليّة على دور النّشر والمكتبات إذ لم يعد خافيا على أحد أنّ الرّواية فقط يحقّ لها الظّهور على الواجهات الباذخة للمكتبات ووحدها من تحظى بالنّقد والدّرس ووحدها من يتفنّن النّاشرون في تقريبها من القرّاء وإرغامهم ولو غصبا بشتى السّبل على الرّغبة في قراءتها. من خلال الدّعاية وحفلات التّوقيع والهيلمان المبالغ الذي يقابله سكوت مطبق على المجموعات كأنّها البطّة السّوداء التي لا تشبه إخوتها. حتّى في طريقة عرض الكتب على العموم تقف الإصدارات الرّوائيّة أو المؤلّفات(مهما كانت سخيفة) التي يكون أصحابها وجوها إعلاميّة معروفة فيما تستلقي الكتب الأخرى الواحد فوق الآخر أو تُكدّس كأنّها ستُحرق. آه وهناك طبعا الكائن الثّالث يا سادة. الكائن الثالث هو كائن عجيب غريب وغامض. لا نراه ولا نسمعه رغم أنّه حائز على النّصيب الأكبر من مصادرة الأذواق والتحرّش بالقرّاء ونفخ القشّ وصنع الموضة والنّجوم.  وما على النّاس إلّا أن تطيع لأنّنا في النهاية لا نعرف أكثر من الكائن الثّالث. حين يقول إنّ هذا الكتاب حدث وأنّ الآخر ظاهرة وأنّ الأخر  أسطورة يجب أن نسمع ونطيع. الكائن الثالث غامض مع ذلك هو الذي يقرّر إن كان هذا الجهد يستحقّ صفة كتاب أم لا وهو الذي يسطّر تحت كتاب بخط أحمر  وتحت آخر بأربعة أسطر  برتقاليّة ويمنح المباركة لمن يشاء وينتزعها ممّن يشاء. وهو الوحيد المُخوّل له أن يسمّي رواية ما الرّواية الحدث قبل أن يجفّ حبرها.
    لا أقول هذا تحاملا على الرّواية لأنّ التحامل على جنس أدبيّ هو الغباء الذي كتبتُ لأجله هذا المقال المتواضع. وربّما صدرت لي رواية هذا العام أو في وقت آخر. لكن أقول للقرّاء الذين جعلوهم يظنّون أنّ الرّواية تكسب الإشباع دون غيرها إنّ المجاميع القصصيّة الذي يبدعها هذا الجيل مزوّدة بما يجعلها تكسب القارىء إشباع الرّواية ولذّة السّرد وعمق الفلسفة ومتعة الوصول إلى نقطة النّهاية دون ملل أوكبير معاناة. وإن كان القرّاء يعتقدون أنّ الاقتباسات المقتطعة من سياقها والكلام المأثور الذي يصلح أن تمرّ  فوقه الأقلام الملوّنة (والذي بات غاية في حدّ ذاته). إذا اعتقدوا أنّه لا يوجد إلّا في الرّواية فهذا خطأ لأنّ الكلام المأثور الذي في القصص القصيرة الحديثة يصلح أن يُكتب على الرّخام.
    ختاما أقول للكائن الثّالث وإلى كلّ المساهمين في سلوك التّكريس وإعلاء الشّأن والحطّ من الشّأن طمعا في لا أدري ماذا أو خوفا من لا أدري ماذا: ساووا بين الإصدارات ودعوا الأيدي تمتدّ بحريّة. فالمجاميع القصصيّة كتب أنفق عليها أصحابها سنوات من العمل المضني.  وأقول للسّادة إنّ كتّاب القصّة لم يزهدوا في الغنائم التي تعد بها الرّواية ولا هم عاجزون عن ذلك. بل كان في إمكانهم أن يمطّطوا أقاصيصهم ليحصلوا على الّلقب. لكنّ النّتيجة ستكون حتما روايات لا طائل منها سوى الإشارة إلى ما يجب أن لا تكونه الرّواية.

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق