• الرئيسيّة

  • الأحد، 1 جوان 2014

    جلد ثور أسود



    سكّان تلك الجزيرة عشيرة كبيرة واحدة تتوارث التّعاليم و التّقاليد جيلا بعد جيل.
    لا أحد يملك في الجزيرة قشّة واحدة، الجميع يعمل من أجل الجميع، يدير شؤون العائلة شيخ صالح ذو دراية و حفظ و حكمة، يساعده في ذلك نزر من العقلاء  و المحنّكين      و المهرة.
    يقتسم أهل القرية الخير كلّ بحسب ما أحضر. يعيشون على صيد السمك و الزّراعة و ما يدرّه عليهم الغنم من نعمة.
     و كان لديهم ثور أسود عظيم، مات أبواه فنشأ بينهم كأحد منهم، كبيرا و صغيرا كانوا يتبرّكون به و يتعهّدونه بالرّعاية و الطعام. حتّى حلّ بهم موسم أمسك فيه البحر أسماكه و الأرض خيراتها. إن هي إلاّ أسابيع ثلاث حتّى أتوا على المؤونة كلّها.
    دبّ فيهم الرّعب و هم يراقبون الجوع و المرض يلوّحان لهم بفناء جماعيّ محتوم.
    أشار عليهم راعي المواشي بذبح الثّور الأسود، فقتلوه. ذاك أنّهم منهيّون عن إلحاق الأذى بالجسم المقدّس و لو بخاطرة عابرة. لكن مع استفحال الهوان و الجوع بهم قرّروا أن يُطعَموه. قالوا: الصّواب فيما قاله الرّاعي، لعلّنا إذا طعمناه اقتربنا بلحمه من آخر أيّام النّحس، فيدنو رزقنا، و يتيسّر قوتنا من بعد احتباس و كدّ. و حتّى يجانبوا الإثم اتّفقوا على أن يعهدوا بذبح الثّور إلى غريب عن الجزيرة. جهزّ رجال أشدّاء قاربا و أبحروا لإحضار الغريب. قصدوا جزيرة مجاورة.
     لدى وصولهم وجدوا ضالّتهم. اشترط الرّجل أن يتقاضى جلد الثّور مقابل عمله سيرا على خطى أجداده. احتار الوفد. تجادلوا فيما بينهم ساعة زمن. فتعاليمهم تحرّم البتّة خروج مثقال حصاة من الجزيرة. في النّهاية وافقوا مكرهين. أعطوا الرّجل الأمان بشرفهم و شرف عشيرتهم أمام قومه ثمّ انطلقوا عائدين.
    ذبح الغريب الثّور. طوى الجلد. حفظه في متاعه ثمّ رحل بعد أن قاموا معه بواجب الضّيافة.
    انقشعت الغمامة التي كانت تغشى عيون أهل الجزيرة بعدما استلّ الجوع براثنه من لحمهم، عندها وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام عار مبين. و كان من عادتهم تدوين كلّ حدث جلل يمرّ بهم. قبل أن يسطروا حرفا واحدا في كتاب الجزيرة نزعوا إلى التّريّث حتّى يتدبّروا شأنهم.
    حول نار أمام دار الشّيخ تجمّع كبار القرية ليتباحثوا أمر خروج الجلد من الجزيرة. في الأخير اهتدوا إلى منفذ ينقذون به ما ظلّ متماثلا للإنقاذ من سوأتهم.
    مع بزوغ شمس اليوم الموالي كان على نسوة القرية قصّ شعورهنّ و تكديسها في ركن بالديوان القرويّ. عند هبوط الليل أحرق الشّعر سرّا.
    دُوّن الحدث في كتاب الجزيرة. تلا الكاتب النصّ في نسخته الأخيرة على الشّيخ و خاصّته في خلوة.. قرأ:
     " حلّ بالقرية سخط الكون بأسره فأحاط بالناس جوع مروّع لم يروا له مثيلا. عطفا بهم ذبحت الآلهة ثورهم الأسود و أمرت بحرق الجلد. جُمّع رماد الجلد و حفظ في قنينة، فهي في رفّ ببيت الضّيافة."
    أنصت الشّيخ باهتمام كبير للكاتب و هو يتلو وثيقة التطهّر. أومأ برأسه إيجابا ثمّ قال بنبرة رضا:
    - أقيموا حفلا بهيجا غدا في ساحة القرية..يحقّ لنا أن نفخر لأنّنا لم نخذل أبناءنا..
    أطلق زفرة ارتياح ثمّ أضاف :
    - كنت على ثقة بأنّ رجالنا المخلصين سيعطفون بالمصيبة نحو رواية يمكن أن تحدث.


    ***

    محمد فطومي

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق