• الرئيسيّة

  • الاثنين، 13 جوان 2016

    درجات الأبيض في السينما الإفريقيّة


                                                       محمد فطومي 
    fattoumim@gmail.com


    لئن شكّل المسرح فنّ الأسئلة الوجوديّة بامتياز و مناسبة شعبيّة للنّقد و التبصّر الاجتماعي الذاتي، تريق فيها الجماعة مشاكلها و عقدها و تطلّعاتها فوق الرّكح على لسان نُخبها التي استطاعت التّأليف بين القدرة على الإقناع  و بين موهبة الأداء. و كان و مازال موعدا لتتراجع المجتمعات خطوة إلى الوراء قصد رؤية أنفسها بشكل أوضح، فإنّ السّينما (الرّوائيّة منها على وجه الخصوص) هي فنّ الموضوع دون منازع و هي حالة من التّعبير القصوى التي تستوحي من العادات الخطيرة و المُغالطات الكُبرى و المسكوت عنه و المُتغافل عليه، مادّة لها. بالتالي فهي عموما و بصورة نظريّة و متفائلة إذا ما ركنّا جانبا السّينما الحالمة و سينما الإثارة و الخيال العلميّ، مناسبة لترى البشريّة بعيون مُفتوحة حالات الإنسان و احتمالاته على سطح هذا الكوكب و فرصة ليذيع المُثقّف قضيّة ما، مُدافعا بصورة صادمة و مُمتعة في آن عن أحقّيّة قضيّته في الظّهور و عن جدارتها بالاهتمام، و إنّها مهما تعدّدت مدارس السينما و اختلفت مذاهبه الفكريّة و أدواته يبقى الوسيلة الأنجع و الطّريق المُختصرة للفت الانتباه و إحداث الرجّة   و إسقاط التصوّرات و إحالة النّتائج إلى أسبابها الحقيقيّة و العكس. و لو نزعنا عن الشّريط السينمائيّ قناعه المُتمثّل في أحداث و حبكة و عقدة و غيرها من المسائل المُتعلّقة بالفرجة، لبدا لنا جليّا أنّ مراكمة المشاهد و الحوارات     و المناظر، ليست في الحقيقة سوى مراكمة للبراهين على خطورة الطّرح و أحقّيّته بصفة المُتجاوِز.
    لماذا لابدّ من مدخل؟
    لأنّ الإفرقيا التي سنتحرّش بها تحت هذا العنوان هي إفريقيا الواهبة للحياة، المسلوبة إيّاها، أرض الأضداد         و الفرادة و التّكرار و الدّهشة و العقائد التي لا يُمكن إخضاعها إلى قاعدة لمجرّد أنّ لون بشرة سكّانها هو الّلون الأسود. و لعلّ ما تظنّ أنّها النّقطة التي تجيز لك وضع الإنسان الإفريقيّ في سلّة واحدة هي بعينها النّقطة التي تعيق ذلك، بل لأنّك في إفريقيا أرض السّود و الثّراء و الفقر فإنّ هناك حوالي 600 لغة محلّيّة مُعتمدة. و أكثر من 8 ديانات و خمسين أمّة مُستقلّة بتقاليدها و مهاراتها و حضاراتها الضّاربة في القدم. و كدليل على استحالة الإحاطة بملفّ السّينما الإفريقيّة من جميع جوانبه في دراسة واحدة، ألم يكن حريّا بالدّرس مثلا تسليط الضّوء أيضا في معرض حديثنا على الفرق الجوهريّ بين السّينما في دولة تدين بالإسلام و بين أخرى تدين بغيره؟ الشّاهد نسوقه لنعلّل استحالة الإحاطة بملفّ السينما الإفريقيّة من خلال مقال موجز واحد. غير بعيد عن هذا المفهوم و بالعودة إلى مرجعنا الرّئيس يقول المُخرج السينغالي الكبير أوسمان سمبنيOusmane Sembené  أب السينما الإفريقيّة كما درجت الأوساط الإعلاميّة على كنايته، يقول: « بإمكاني القبول بفكرة السّينما الإفريقيّة، بشرط أن تكون في صيغة الجمع»، بهذه المقولة يجمّع المخرج خيوط الحكاية الإفريقيّة في مغزل واحد. مُحدّدا بغير إطناب أو تعقيد الوجهة التي على الدّارس للسّينما الإفريقيّة توخّيها حتّى لا يسقط في السّفسطة و الهراء. من هنا تنشأ ضرورة التّقديم إلى جميع المواضيع المُهتمّة بالشّأن الإفريقيّ عامّة من أجل تصويب أدقّ و وجهة أجدى و رؤية أوضح. فأيّ نوع من السّينما إذن سنحاول في خضمّ الصّخب الإفريقيّ اقتفاء أثر الطّيف الأبيض من خلاله؟
    اقترنت عبارة السيّنما الإفريقيّة لدى البعض بالأشرطة التي تمّ تصويرها في إفريقيا بقطع النّظر عن الجهة التي تقف خلف الكاميرا سواء كانت إفريقيّة أم أجنبيّة و هو مفهوم عامّ تختلط فيه الإيديولوجيّات العميقة بالسّخيفة        و التّجارب الجادّة بالسّطحيّة، بصورة يصعب معها تكوين تصوّر يُفضي إلى استنباط قيمة ما أو خصوصيّة تميّز الشاشة الإفريقيّة عن غيرها. و ارتبطت لدى البعض الآخر بفكرة السينما التي تُعالج قضيّة إفريقيّة حتّى لو تمّ التّصوير في هوليوود، و هي رؤية فضفاضة ، أرستها العنصريّة الغربيّة لتُبقي على دور الأسود في الخادم الهزليّ المُبتسم على الدّوام أو الأسود "الوليمة". كما لتقول هناك عالم طبيعيّ و هناك إفريقيا. و اقتنع آخرون بضرورة نسب عبارة سينما إفريقيّة إلى المحاولات التي تعهّدها بالإنجاز أفارقة من ألفها إلى يائها؛ كتابة و تصويرا          و إخراجا و إنتاجا و أرضا، و رغم ما يبدو عليه من تضييق مبالغ فإنّ المفهوم الأخير يظلّ بالنّسبة إلينا المدخل الأنسب للموضوع بوصفه تعريفا لموقف فنّيّ جدير بالثّقة من حيث براءتها (نظريّا على الأقلّ) من المساهمة في المشروع الاستعماري الواسع لتحويل إفريقيا إلى منجم موادّ أوليّة و مزرعة نقاهة.
    هل شهد تعاطي الشّاشة السّوداء مع الرّجل الأبيض تحوّلا على امتداد 50 عاما عمر السّينما الإفريقيّة تقريبا؟ و كيف تدرّج حضور الأبيض سينمائّيا في ظلّ الأشكال الاستعماريّة الحديثة؟
    ظهرت السّينما الإفريقيّة الاحترافيّة لأوّل مرّة في مطلع الستّينات بالتّزامن مع حصول جلّ الدّول الإفريقيّة آنذاك على استقلالها، و إذ نتحدّث عن نيلها حريّتها فإنّها لا تعدو كونها مجرّد تواقيع تذيّل وثائق صوريّة، لا علاقة لها في الواقع بخروج المستعمر أو برفع وصايته عن تلك الأمم. بل على العكس فقد نصّب بموجبها المُحتلّ و تحت إشرافه على رأس تلك الشّعوب طغاة طيّعين، و عمل على مستوى آخر على زعزعة ثقة الإفريقيّ بنفسه           و ترويض الفكر الإفريقي عموما على التّسليم بتأخّره و عدم نبوغه في غير الإبهار الفلكلوري. مطمئنّين إلى أنّ الطّغاة سيتكفّلون بمواصلة تجهيل شعوبهم و تسفيه طموحاتهم. من هنا نشأت لدى الجيل المُتعلّم الأوّل تعليما غربيّا نزعة رد الاعتبار للإنسان الإفريقي و مدّ جسر فنّي لمحاربة الاستعمار النّاعم الجديد بنفس الأسلوب الذي ما انفكّ يمارسه منذ وطئت قدمه الأرض السّمراء. فجاء الردّ قويّا و جارحا نسبة إلى شدّة حاجتهم إلى صنع كلمتهم الخاصّة. الكلمة الإفريقيّة. لتُختطّ بأحرف من ذهب أولى صفحات المُدوّنة السّينمائيّة الإفريقيّة على يد نخبة من مثقّفين فرنكوفونيين و أنجلوفونيين، استطاعوا بعبقريّة مشهودة و بإمكانيات تكاد تكون معدومة و في بيئة أعتمتها الأميّة، أن يبدعوا أفلاما غاية في النّضج و الجدّيّة صارفين جهدهم شطر أمّهات الأمراض الاجتماعيّة المستشرية في شعوبهم حينا و صوب تعرية النّوايا الأجنبيّة الطّامعة، مرورا بالقضايا المُرتبطة بالهجرة و العنصريّة حينا آخر. ذاك المحور الشّائك الذي من الممكن بشيء من التحفّظ أن ندرجه ضمن خانة الدّوار الحضاريّ الذي رسّخته العبوديّة و حملات الاستجلاب و التّجنيد الأمريكيّة ثمّ عكف بعد ذلك المُستعمر بآلة القمع و سياسة الإرغام         و التّركيع على تأكيده. لنخلص في الأخير إلى مفارقة تبعث على التأمّل و الدّهشة مفادها أنّ الأرض الزّلقة التي تركها المستعمر حتّى يتعذّر على أبنائها النّهوض، هي ذاتها الدّافع الذي جعلهم في نظرنا يقفون على منصّات التّكريم العالميّة وقفة الندّ.
    و ككلّ المواضيع المرتبطة بالإبداع لم تشذّ السّينما الإفريقية عن قاعدة التفوّق الكمّي للأفلام الرّديئة، تلك التي إمّا أنّها على نحو مُتسرّع و عشوائيّ اتّخذت من المخزون الأسطوري و العقائدي الإثنولوجي الضّخم لقبائل إفريقيا مَعينا تستلهم منه قصصها فلم تتجاوز بذلك صفة التّوثيقيّة المُنمّقة أو المُقاولات السّينمائيّة، و إمّا أنّها وضعت أيديها في يد الأبيض المُهيمن على القطاع استجداء للدّعم  و المباركة، فسقطت في مبدأ الموالاة و السّيناريو المكتوب وفق إملاء غربيّ مقابل الإنتاج و الترويج. بقاء مهنيّ مشروط انخرط فيه عدد كبير من السينمائيّين الأفارقة شوّش المشهد السينمائي الإفريقي، و ضمن للمستثمرين البيض تجارة رابحة بالنّظر إلى الثراء العجائبي الذي تزخر به القارّة السّمراء، حريصين كلّ الحرص طبعا على المحافظة على الانطباع النّمطي الذي يحمله المواطن الأبيض عن الزّنجيّ الإفريقيّ.. نعم للأسف و بكثير من المصارحة الذاتيّة، ينبغي أن نعترف بأنّ المعمل السينمائيّ الغربيّ مازال يتكفّل و يشجّع صناعة الأفلام التي تئد الإنسان الإفريقيّ مع التّمائم و التخلّف و البدع في حفرة واحدة و بفأس إفريقيّة.. في هذا السّياق تحضرني شخصيّة "لي" الخادم الصّيني الذي رافق "آدام" بطل رواية "شرق عدن"A l’est d’eden  للكاتب الأمريكي شتاينبيك. "لي" ذلك الصينيّ المخلص، الذي أمضى أربعين عاما يتكلّم الأنجليزيّة بلثغة صينيّة مضحكة. لكن يوم قرّر العودة إلى الدّيار طلب ذلك من سيّده بفصاحة ليس لها مثيل، و لمّا سأله عن سبب اللثغة إذن، أجاب: " لأنّي لا أكون صينيّا في نظرك إلاّ إذا تكلّمتُ على ذلك النّحو".
    و لسنا إذ نعرّج على هذه الأمثلة عن الشائع المبتذل الذي لا يمثّل إفريقيا بحال، نحاول العثور على ذريعة لتجاوزها بجرّة قلم، بل لنذكّر بأنّها قدّمت شكلا من أشكال ظهور الأبيض بين طيّات السّيناريو من جهة. و لننزّه من جهة أخرى العقل الإفريقيّ المناضل فنّا و فلسفة عن السّطحيّة و ننزّل السّينما الإفريقيّة الجادّة منزلة النّيابة في ما يخصّ إلقاء الكلمة الإفريقيّة. ليصبح الاستثناء الإبداعيّ هو القاعدة مادام جيّدا. مادام وُجد.
    هنا و انطلاقا من هذه النّقطة سنوكل إلى عظماء السّينما الإفريقيّة مهمّة الإجابة على سؤالنا عبر نماذج نوردها على سبيل العيّنة لا الحصر و هي لقطات إذا قورنت بالانفجار السينمائيّ الذي شهدته نيجيريا Le nolywood المُصنّفة الثالثة عالميا من حيث إنتاج الأفلام بألف شريط سنويّا لا تعدو في مجملها كونها أشرطة فيديو لا أكثر.
    عظماء على قلّتهم قدّموا دروسا في السينما العالميّة برؤية حداثيّة عصريّة تتعامل مع مسألة الهويّة بوعي و عمق على أنّها مسار محفوف بالفخاخ المعياريّة، و بإدراك تامّ بأنّ العمل الجيّد ينصف نفسه في نهاية المطاف، لو وضعنا نصب أعيننا العين المتربّصة للجان التّحكيم الدّوليّة كلّما تعلّق الأمر بإبداع يأتي من العالم النّامي. إنّها رؤية تؤصّل من أجل أن تتجاوز على غرار ما عبّر عنه المخرج الأثيوبي "هايل جيريما" Haïlé Guérima قائلا:   « لن يتسنّى لنا إسقاط أحلامنا على صفحة المستقبل ما لم ننقذ ماضينا من التّلف»، فلسفة ثاقبة أثبتت من خلالها نخب السّينما الإفريقيّة أنّ العقل الإفريقي يليق به أن يكون معلّما، و خلخلت بها الاعتقاد السّائد بأنّ إفريقيا صندوق أساطير و حسب. فحازت العالميّة و الاحترام من قبل الغرب و إن كان في مذاق الإقرار بعدم جدوى الإنكار.
    الأبيض و عقدة العلويّة العرقيّة (أوسمان سمبيني نموذجا- 1962)
    كفيل يأخذ بالرّكض منذ الّلحظات الأولى لولادته، بدأ السّينغالي أوسمان سامبني كبيرا منذ أوّل تجربة له في الشّريط السينمائي الطّويل من خلال فلم "سوداء..."La noire de…، سنة 1962 و هو زيادة على ذلك أوّل شريط روائيّ طويل في تاريخ السّينما الزّنجيّة. أحرز الشّريط على التانيت الذّهبي في أيّام قرطاج السّينمائيّة لسنة 1966، ليبرهن سامبيني أستاذ السّينما الإفريقيّة الذي جمع بين تجربة الاغتراب في الوسط الحضري الأوروبي(فرنسا-مرساي) و بين طبيعة المُثقّف الثّائر المُثقل بهموم أبناء جلدته من السّود، دون أن يسقط في الفجاجة الانتقاميّة، على علويّة الفنّ، حيث وهب حياته للسّينما كمشروع شخصيّ يمنحه معنى لوجوده و لمواطنته أوّلا ثمّ بدرجة ثانية وسيلة راقية لإسماع العالم قضيّة شعبه على نحو ليس فيه استعطاف و لا إدانة خطابيّة منبريّة. لعلمه و هو الدّارس لفنّه بعمق  و تروّ أن ليس هناك ما هو أدعى إلى النّفور من الصّراخ إذا تعلّق الأمر بتبليغ الصّوت.
    بلحن عذب و صوت زنجيّ جميل يبدأ الفلم، فنسمع من أوّل مشهد فتاة تُغنّي: "حصلتُ على عمل لدى البيض".
    شريط مؤثّر يروي مأساة فتاة سوداء ترافق زوجين فرنسييّن مبعوثين في داكار، يُقرّر الزّوجان العودة إلى فرنسا  و أن ترافقهم الفتاة. تظنّ الأخيرة أنّها بذهابها إلى فرنسا ستتحقّق أحلامها و العالم العصريّ المنفتح سيشرّع أمامها باب الحريّة و البهجة على مصراعيه، إلاّ أنّها تصطدم بواقع مغاير تماما لتكتشف منذ اليوم الأوّل أنّها تُعامل كالعبيد و أنّها لن تصبح يوما ابنتهم. فتحنّ إلى أهلها و تتخيّل حبيبها في انتظارها. و قبل أن يكتم الشّوق و الخيبة على أنفاسها تضع حدّا لحياتها.  
    السّنوات السّبعين و انطلاق موجة النّقد الذّاتي ("جبريل ديوب" نموذجا 1973)
    المالي "جبريل ديوب مامبيتي" قامة سينمائيّة عملاقة، ندرج له هنا شريط ((Touki Bouki  أو هجرة الضّباع.
    لما يلعبه الشّريط من دور مفصليّ في تحديد بداية انقراض الأبيض بوصفه "العدوّ المنشود"، و انطلاق سينما تنكفىء على أمراض الشّعوب و علاّتها الاجتماعيّة بمختلف أنواعها.
    يحكي الشّريط قصّة مراهقين يجمع بينهما الحبّ و الطّفولة المشتركة و الرّغبة في خوض مغامرة العيش في أوروبا، أو على الأقلّ العيش بشكل مُختلف لا توجد فيه تقاليد و لا قيود قبليّة أو أعراف أو مُقدّسات. تتالى الأحداث فنقف عند منعطف دراميّ حاد، رحيل آنتا Anta  في القارب باتّجاه باريس و بقاء موري Mory  متشبّثا بأرض أجداده.
    موري راع لكنّه يملك درّاجة ناريّة يابانيّة يعلّق على مقودها قرني جاموس، و له جولات و صولات في المدينة كواحد من أبناء الشّوارع. يبدأ الشّريط بمشهد راع  (موري) يسوق قطيع جواميس، و ينتهي بمشهد مشابه تماما لموري و هو يسوق وسط سكينة الرّيف قطيع جواميس نحو المسلخ. هذه القفلة الدّائريّة هي في اعتقادي رسالة تحمل الكثير من التّقدير و الانتصار إلى الأصل، لكنّها في آن واحد - و هذا أعجب ما في القصّة -  إشارة إلى القطع مع الأنماط التّقليديّة للعيش.
    هل عرفنا آلامنا كما ينبغي (هايل جيريما نموذجا – 1993 )
    يأخذنا المُخرج الأثيوبي الأصل هايل جيريما في رحلة إلى الماضي على متن شريط Sankofa  و يُعدّ الشّريط نموذجا مثاليّا على رحابة الآفاق الفنّيّة التي من الممكن أن يتيحها المزج بين الوثائقي و بين القصّة. يؤمن جيريما أنّ على الشّعوب التّعرّف على أصولها و الوقوف على جراحها القديمة كي تتمكّن من تجاوزها، إذ كيف يُعقل أن نتجاوز أمرا نجهله؟ و sankofa في ساحل غانا هو عازف التام تام الذي يستدعي أرواح الأجداد و تعني أيضا: "العودة إلى الماضي لنتقدّم". يروي الشّريط قصّة عارضة أزياء يُراد لها أدبيّا أن تكون أفرو-أمريكيّة سمراء، يُحتلّ جسدها من قبل الأرواح التي تحوم حول حصن قديم في الكاب كوست cape coast  كان أعدّه المُستعمر قبل ما يزيد عن قرن و نصف كمأوى لتجميع العبيد قبل تهجيرهم إلى الشّمال. و بأسلوب فنطازيّ تعود "مونا" Mona إلى الماضي فتتحوّل إلى شولا  Shola المُستخدمة في مزرعة سكّر و التي تعاني الويلات من جرّاء قسوة سيّدها. رويدا يتصاعد النّسق الدّرامي بالتّوازي مع تنامي مأساة شولا لتُقرّر الأخيرة في النّهاية التصدّي إلى الظّلم و سلك طريق المقاومة. قراءة ثقافيّة يُخضع إليها جيريما بطلة قصّته مونا Mona  فتجد نفسها عالقة في جحيم الأجداد لا كشاهدة فقط بل كواحدة من آلاف العبيد، و عبر "مونا" كأنّنا بـ"جريما" يوجّه رسالة إلى الإنسان الإفريقي مضمونها: " تقدّم أيّها الإفريقي الحرّ و أنت تحمل جدّك في قلبك و ذاكرتك لا لتنتقم له يوما بل لتشرّفه   و تمنح روحه السّلام" و أخرى إلى بقيّة العالم كأنّي بها : «هذا ما عاشه أجدادنا جرّاء طمع البيض، لن نصنع من ماضينا مناسبة لهلوكست إفريقي، قد نتصالح يوما مع جلاّدينا و هذا غير مستبعد مادامت دماؤنا قد امتزجت، لكن لا تصدّقوا أنّ ضربات  سياطه ستُمحى على جلودنا.» 
    سمبيني مرّة أخرى (2004)
    Le Moolaadé ضربة موجعة من قبل السّينمائي سمبيتي للعادات القبليّة السيّئة. تمّ تصوير الشّريط في بوركينا فاسو بالتّعاون مع ممثّلين من السينغال و بوركينا فاسو و الكوت دي فوار. و يعني مُصطلح  Lemoolaadé الحصانة أو حقّ الّلجوء غير القابل للطّعن أو للنّقض و هي هبة يحصل عليها المرء عندما ينجو من عقاب الدّفاع أو التستّر على المتمرّدين على نواميس القبيلة و تعاليمها. و تمنح قداسة Lemoolaadé  للمعنيّ عندما يخرج حيّا بعد عمليّات التّعذيب التي ستُسلّط عليه. بالتّالي فإنّه يصبح آمنا بقيّة حياته. يطرح الشّريط قضيّة ختان الأنثى،      و عبره قضيّة تحرّر المرأة من عقال الجسد المُحرّم المُشتهى. ليسبغ صفة آخرى للمرأة : العقل، الذي سيتجلّى حضوره من خلال محاربة الموروث رغم ما يُحيط به من هالة قداسة. يقرٍّر الرّجال أنّ لعنة حلّت بالقرية سببها الأفكار المسمومة التي يبثّها الرّاديو(رمز الشّيطان المُوسوس للعقول). فيصادرون أجهزة الرّاديو ظنّا منهم أنّهم بذلك سيسيطرون على عقول زوجاتهم و سينقذون ما يمكن إنقاذه. ينقل الشّريط ثورة مُصغّرة بطلتها أربع فتيات يهربن من عمليّة ختان فتقبل بحمايتهم امرأة تتمتّع بحصانة Lemoolaadé  ، و أمّ لإحدى البنات تعلن الحرب على هذه العادة. تحاول " قاتلات البنات" الموكول إليهنّ القيام بعمليّة الختان إقناع الأمّ بالتّخلّي عن عنادها، فتأبى. كعقاب لها يجلدها زوجها على الملأ في مشهد رمزيّ رائع يضيع فيه صراخ الزّوج و قاتلات البنات وسط تشجيع نساء القرية لها.

    خاتمة
     قبل الانغماس في مسألة حضور الأبيض في السّينما الإفريقيّة كان لديّ اليقين السّائد بين النّاس من غير المُثقّفين إفريقيّا، ذاك الحكم المُسبق الذي قد نمضي في المراهنة عليه حتّى حرق الأصابع و هو أنّ إفريقيا الزّنجيّة لا همّ لها في فنّها الدّرامي سوى الرّقص و استدعاء الأرواح و الحديث عن العبوديّة و الميز العنصري. و لعلّي عندما بوّبتُ السّينما إلى ثلاث أبواب تُسمّى جميعها السّينما الإفريقيّة كنتُ مُغرقا في الحماس. فمن خلال الأمثلة التي ذكرناها   و التي حرصنا على التنويع في ظهورها جغرافيّا و زمنيّا تبيّن لي أنّ فكرة الأبيض المطلوب للثأر لا تعني الفنّانين الأفارقة إلاّ بقدر ما يقتضيه صنع المستقبل من حتميّة إجلاء الأنقاض الماضية، و ما كان متواريا خلف صخب العنصريّة و المقاولات السّينمائيّة التي اكتشفَتْ في إضحاك الأوروبي سوقا مُزدهرة، هو أنّ السّينما الإفريقيّة الجادّة قد أولت المرأة مكانة الرّيادة و حظوة المدار في مواضيعها متّخذة من كلّ  البيئة الإفريقيّة تقريبا مطيّة للاحتفاء بها و تكريمها حبيبة و أمّا و ممسحة آثام و رمزا للخصب و الحكمة و النّضال و التّعلّق بالأرض، و أنّ جلّ المخرجين الأفارقة المُتوّجين عالميّا من غير المتاجرين بالخاصيّة الإفريقيّة قد طرقوا باب الإصلاح الاجتماعي من باب المرأة. في الختام ليس أفضل من أن نسأل أنفسنا: ماذا لو أُعطينا قطرة حبر واحدة؟ ما الذي كنا سنكتبه بشأن السّينما الإفريقيّة دون أن نكون قد جحدنا جهد مجتهد أصاب و لا أثنينا على مقاول أفلام لا يمثّل القارّة؟
    ربّما بشيء من الواقعيّة قلنا: إنّ السّينما في إفريقيا قادمة رغم أنّها تزاول بعدُ بحثها عن النصّ الذي يُؤلّف بين الجمهور المُستهدف بالرّسالة الاجتماعيّة ( الزّنجيّ ابن البلاد ) و بين جمهور القاعات العالميّة و بين لجان التّحكيم في المسابقات الكبرى. معادلة سيصعب تحقيقها دون التّضحية بجانب من الجوانب، في عصر لا يمنح سوى اختيارين أحلاهما مرّ: حرق المراحل من أجل الّلحاق بركب الحداثة أو المزيد من العشوائيّة و التحجّر.



    مجلة دار الفكر العربي للطباعة و النشر و التوزيع / قتل العلاّمة


    السبت، 11 جوان 2016

    مجلة فكر / حمّى الدّائرة



    مجلة الإمارات الثقافية / قصص قصيرة جدا


    مجلة الجديد(عدد خاص بالقصّة) / صديقي المشوّه - المسافة


    مجلة المعرفة السوريّة / صديقي المشوّه


    مجلة أوراق / الناعورة و الحجر الأملس





    مجلة طنجة الأدبيّة / المتأنقون


    مجموعة "زبد و رخام " / محمد فطومي (المكتبة العصرية)



    مجلة نزوى / ليلة صالحة للحياة



    مجلة البيان الكويتية / المزاد


    مجلة البيان الكويتية / جوهرة يدوية الصنع



    مجلة الإمارات الثقافية


    مجلّة الوسط البحرينية



    أشياء العام الجديد / مجلة مداد عدد أفريل 2016

    مجلة مداد الأهوازيّة / إيران