• الرئيسيّة

  • السبت، 12 ديسمبر 2015

    قصّة بدويّة


    ***
    خرج القوم ذات ظهيرة صيف مُحمّلين بالأمتعة و الخيام يسوقون أمامهم أغنامهم إلى أرض بالشّمال حيث المرعى الوافر و الجداول المنهمرة من قمم الجبال الخضر. أثناء المسير نطّت جرادة و استقرّت فوق رأس إحدى النّعاج. قلّة من الرّعاة هم الذين لم ينتبهوا إلى الجرادة، لكن لا أحاديث قد تُتبادل في مثل تلك الحوادث التّافهة العارضة غير أن يقول المرء في نفسه: «حسنا إنّ جرادة اختارت أن تقف فوق رأس نعجة». حلّ المغيب فحطّوا الرّحال و أوقدوا النّار. قضوا الّليلة و في الصّباح تابعوا رحلتهم. استغرقت الرّحلة أيّاما. الجرادة التي لا تبارح موضعها فوق رأس النّعجة بدأت تثير سخرية بعضهم. لدى وصولهم إلى سهل خصيب تحوطه الرّوابي من كلّ جانب، تخفّفوا من أحمالهم و ضربوا خيامهم. أقاموا سياجا على المواشي بالقرب من تلّة حجريّة. هناك قفزت الجرادة لتحطّ أخيرا عند مُقدّمة رأس ضبٍّ أعمى عالق بين صخرتين.
    ***

    م.فطومي

    الاثنين، 7 ديسمبر 2015

    حواري مع مجلة الترا صوت / منقول من موقع المجلة

    أجرى الحوار  الإعلامي رشيد حسني 




    يعتبر محمد فطومي، من أبرز الأسماء ضمن موجة القصة الجديدة في تونس، رغم إقامته المعزولة نسبيًا عن الحراك الأدبي، في 

    المدن الكبرى، في مدينة سبيطلة، جهة السباسب وسط تونس، إلا أن نصوصه فرضت وجودها، وأصبحت تلقى اهتمامًا متزايدًا من القراء. وقد أتاح النشر الإلكتروني لنصوصه رواجًا لا بأس به، كما تسنى له المشاركة في عددٍ كبيرٍ من الملتقيات الخاصة بالقصة القصيرة. وأمكن له ذلك الفوز بعدة جوائز في تونس وخارجها.
    مراحل صناعة القصة هي: فكرة، وموضوع، وشكل مناسب، وقفلة

    ولفهم عوالم السرد لدى هذا القاص، ونظرته لتشكل النص السردي الجديد، أجرى معه "الترا صوت" اللقاء التالي:
    أثارت نصوصك ونصوص طيف آخر من القاصين اهتمامًا كبيرًا من قبل المشرفين على الصفحات الإبداعية المنشورة ورقيًا وإلكترونيًا. حسب رأيك ماذا حدث بالضبط؟

    هل تشعر باختلاف ما في توجه في الكتابة السردية؟ ما يميز نصوص الطيف الجديد الذي أنت واحدًا منه؟
    ليس هناك فيما أومن شكل جديد بمعنى الكلمة، فيما يتعلّق بالقصّة القصيرة التونسيّة وحديثنا عن الشّكل، والأعمال القصصيّة التي تجاوز فيها أصحابها الشّكل المعهود للقصّة، أسمّيه انفتاحًا واستدعاء للمتاح الشّكلي للقصّة التي أبدعها الكتاب في كامل أنحاء العالم، على امتداد قرنٍ من الزمان أو يزيد.
    أعتقد أنّ البحث يجب أن ينصبّ على الجيّد أيّا كانت الهندسة الفنّيّة والدّلاليّة للقصّة، والجيّد يذيع نفسه ويفرض قراءته والاهتمام به من قبل الأوساط المتابعة للشّأن الإبداعي، أو التي تمتلك موهبة التقاط المعنى وتنقب عن احتمالات أخرى للإنسان، وللتعبير عن أسراره البكر.

    في نص لك بعنوان "المسافة" أنت تبدأ بوصف مشهدي مسهب للبطل شعبان الماهر في لعبة الشطرنج. ألا ترى أن ذلك كتب 
    بوعي بصري سينمائي؟

    المتعارف عليه في الشّطرنج أنّها لعبة غاية في الصّعوبة، وتتطلّب براعًة كبيرًة إذا كان المنشود هو الرّبح، في مثالنا بطل أقصوصة المسافة أتساءل على نحو تشاركيّ مع القارئ، ماذا نسمّي إذن ترويض اللعبة لإرضاء أهواء اللاعب المقابل صاحب الفضل الذي سيدفع ثمن الوجبة والسّجائر، والسّؤال الأخطر من يلعب في هذه الحالة شعبان أم الحاجة؟
    أما ما وصفته على أنّه استدعاء لتقنية السّينما، فسل السّياق الذي اختاره الموضوع، طبعًا أقول هذا من باب المبالغة، لكن حقيقة الفكرة هي التي تصمّم القصّة برمّتها، ومراحل صناعة القصّة حسب رأيّ هي فكرة، فموضوع، فشكل مناسب، فقفلة وفيّة للأثر التي ينوي الكاتب أن يخلّفه في ذهن القارئ.
    بعض الكتاب فهموا أن شعرية القصة هي كتابة غير المعقول  أو الغموض


    تصفع قارئك في أقصوصة "يا ترى" بواقعه المر. جامع علب بلاستيكية يحولها للعب سيارات. ألست تمارس بذلك هزة مقصودة في قرّائك؟

    هي أولى القصص بالمجموعة "زبد ورخام" وكي لا أجانب الصراحة، كان الاختيار مقصودًا من جهتي لسببين، أوّلهما لأنّ فيها تنويعًا من حيث الشّكل كأنّي أقول للقارئ، سيكون لك موعد مع قصّة قصيرة مغايرة، ثانيًا لأنّها قصّة الأسئلة بامتياز في تجربتي، أي كأنّي أقول إنّ القصّة أسئلة واقتحام لمعان حارقة ما نزال نتهرب من مواجهتها.

    جل نصوصك تنشر خارج تونس، في السودان مثلًا وفي بعض دول الخليج. ما سر عدم نشر الصحافة المحلية لما تكتب؟

    ليس جلّ نصوصي، بل جميعها، باستثناء نصّ واحد نُشر في الحياة الثقافيّة وهو بعنوان "المدرسة" وكانت الصدفة والرّهان المشكور، هما اللذان أتاحا لي فرصة النشر في تونس. وبالمناسبة أشكر الأستاذ محمد الخالدي الذي راهن على النصّ، وكان عند وعده بنشره في المجلة عقب حصوله على الجائزة الأولى في ملتقى الأدباء العصاميين بسوسة.
    أمّا مسألة النشر خارج تونس، فهي اختيار من ليس لديه خيارات بديلة، وإن كان من المهم أن يعرّف القاص بتجربته على مستوى عربي، وأرى أنّها خطوة عمليّة وضروريّة حتّى يزداد الكاتب شغفًا بتطوير نصوصه والبلوغ بها إلى مراتب فنّيّة محترمة قبل دخول غمار النّشر.
    والصّحافة المحليّة تفتقر إلى متون إبداعيّة تسع الجميع، ناهيك أنّ مجلة الحياة الثقافية تكاد لا تفسح المجال إلاّ للقاصين المنتمين روحيًّا إلى المجلة، وأعني إمّا الذين حباهم حسن الطالع بمنزلة حميمة لدى المشرفين، أو الأسماء المتداولة. ولك أن تتخيّل وأن تعذر أيضًا هيئة المستشارين القائمين على المجلة، وهم يقسّمون سبع صفحات أو ثماني على جميع المبدعين القاصين في البلاد.

    هناك مجموعة أخرى من السرّاد الشبان اختاروا الهروب بعيدًا وتعلقوا بعجائبية ماركيز والكتابة الإيروتيكية، كما يتناولها هنري ميلر في تهويماته، أو محمد شكري في بوحه الجريء.. أي مستقبل لقص لا يقول متقبليه؟

    ليس صوابًا في اعتقادي أن نصف أسلوبًا بعدم قدرته على استيعاب التجارب والمضامين اللصيقة بالمجتمعات والشعوب، فالغاية بالأساس هي تفجير ممكنات جديدة للإنسان من خلال "مداعبة" خصوصيّاته الغامضة المطمورة في داخله بفعل العادة وتراكم الأصباغ، التي يحاول أن يطلي بها "فضائحه" وهزائمه الصّغيرة، بالإمكان دائمًا استحضار أيّ نوع من أنواع الكتابة، إن صحّ أنّ سحريّة ماركيز وإيروتيكية ميلر تعدّ نوعًا في حدّ ذاته، وأرى أنّها حيلة من حيل عديدة قد يلجأ إليها الكاتب عند كتابة قصّة دون أخرى، الحذر كلّ الحذر فقط من سوء اختيار الحيلة القصصيّة المناسبة في كلّ مرّة، ذاك أنّ القاصّ الجيّد ينبغي أن يميّز بين الترويع العجائبي في تعامله مع السحريّة الواقعيّة، وبين إحداث الدّهشة المرجوّة لتمرير رسالة تُفهم كما أراد لها القاص أن تُفهم.
    الملتقيات والمهرجانات الأدبية لا تقلّ أهمّيّة عن النّشر


    كيف يشق كاتب ما مساره وفق استمارة وهل يذهب نصه بعيدًا؟

    القصّة حدث غريب كما يعرّفها تشيخوف، لكن أخشى أنّ بعض الساردين فهموا المقولة خطأ، فظنوا أنّ المقصود هو كتابة غير المعقول، أو غير الجائز، أو شحن النصّ بالغموض. أقصد أنهم يستنسخون تجارب بعينها، وأنت تعرف من أعني من المجانين المتطاوسين وهم ضعفاء. أن تكتب مثل ماركيز لا يعني أنّك امتلكت أبعاده الفكريّة ورؤيته للعمل الإبداعي، فالرجل فهم جيّدًا ما المطلوب من القاص، وما انحيازه إلى أسلوب الواقعيّة السحريّة، إلاّ من قبيل ركوب الأقصى في التعبير عن مشاكل الإنسان كما سمّاها المسعدي، ولن تمتلك إذا لم تستدع هذا النمط عن حاجة ملحّة أبدتها الفكرة، لن تمتلك من ماركيز سوى الهيكل بالتالي لست تراكم سوى حضائر بناء، وليس بنايات كما تعتقد.
    وكي لا أكون متشائمًا أقول إنّ ميزة الكتاب الكبار أمثال خوليو كورتثار، وماركيز، وبول أستر، وميلان كونديرا، يظلّ ظاهرة صحيّة مقارنة باتّباع الكاتب الاستمارة ذاتها مع تغيير المعطيات الحكائيّة فقط. وأعني الكتابة التقليديّة الوفيّة للنص القصصي الذي لا يسمو في نظري إلى أكثر من أن يقال عنه "صحيح".
    بالمقابل لا أدعو إلى مقاطعة التجارب السابقة، بل أعتبر مسألة نسف الأولين تهوّرًا من قبل المبدع، إذ كيف يعقل أن ينسف الساكن في الطابق الثاني الطابق الأرضي لمجرد أن تعالى في الارتفاع.

    كيف تنظر إلى مراودة التجريب في عالم السرد مثلًا هناك من أطنب في رصف شعرية أثقلت كاهل فن الحكي؟

    فيما يتعلق بمسألة الشعرية في القصّ، أريد التنبيه إلى أن ذلك يمكن اعتباره من المطبات التي تتربّص بكتابات الجيل الجديد. فالشعرية في القصّ بقدر ما هي مطلوبة وضروريّة في أحيان كثيرة، بقدر ما هي قاتلة للتجربة إذا أسيء فهمها، كما ينبغي.
    وهنا لا أعمّم، لكن بحكم قراءاتي وحضوري المحترم في الملتقيات الأدبيّة، استطعت ملاحظة الخطر المحدق بالتجارب الشابة في مجال القصّة، فهي غالبًا، والحديث عن الشعريّة، ما تفهم على أنّها حذلقة وإثراء في غير وظيفة، فتراهم يتفنّنون في ابتكار المحسّنات والاستعارات المركبة، كما لو أنّهم يرشّون مبيدًا على القارئ كي يسلّم بجمال النصّ.

     
    لكن هناك استخفاف بالقارئ، بل بعض السراد يشترون مسبقًا ذمم الإعلاميين والنقاد ويتلاعبون بذائقة المتلقي، باستخدام حيل ترويجية في احتفالية ما أو مهرجان ما؟

    يأخذنا الكلام، وقد تناولنا المتون التثقيفيّة بالحديث، إلى أن نعرّج على الملتقيات والمهرجانات الوطنيّة، التي تُعنى بالقصّة والشّعر طبعًا، فهي لا تقلّ أهمّيّة عن النّشر في نظري، لكن ما أسجّله بعدما راكمت العديد من التجارب كمشارك هو أنّها، أي الملتقيات، تبدو أقرب إلى الواجب أو الإجراء الإداري منها إلى مناسبة إبداعيّة خالصة.
    ضربت مثل الاستمارة للتعبير عن الكتابة القصصيّة التي لا تغيّر الشكل أو الحيلة كما عبّرت عنها سالفًا، أي كأنّ لديه استمارة جاهزة وعليه فقط ملأ الفراغات بشخوص جديدة ومضمون جديد، كتابة عموديّة وفية لنمط المقدمة والذروة والتنوير، لو تأمّلت جيّدا لألفيتها تتحدّث في أغلبها عن أمهات القضايا الاجتماعيّة، على نحو رتيب ومتكرر: البطالة، الاغتصاب، الجهل، الحاجة، في حين أنّ القصّة الحقيقيّة في نظري هي فن التقاط الشوارد النفسيّة والانفعالات المهجورة في الإنسان.
    هكذا يضمنون رواجًا شبيهًا بالإرهاب، أجده في ذلك سياسة التعمية قبل الكتاب وبعده، حتى أنّ النقاد أنفسهم يجدون أقلامهم مكسورة ومصروفة، كما لو أنّ في الأمر سحرًا عن كتابة سطر واحد في غير صالحه.

    الخميس، 3 ديسمبر 2015

    حواري في صحيفة العرب ( بالصّورة المُباشرة )

    أسئلة حوار لجريدة العرب
    كيف يُعرّف محمد فطومي نفسه؟

    القصّة هو أن تختار قول الأشياء من خلال حدث،بالتّالي فإنّ القاصّ هو مبدع اختار أن يكون نصّا. هذا ما أجده ينطبق عليّ تماما. رويدانجحتُ في أن أنسج حول نصّي ثقة ما، خصوصا عندما أمكنني النّشر في قسم كبير من المجلاّتو الصّحف الرّائدة في الأقطار العربيّة دون عناء أو صداقات أو طول انتظار. لم أكتب سطرا رغبة في الكتابة إلاّ بعدما تخطّيتُ الواحدة و الثلاثين من العمر. قارىءكبير للشّعر و للسّرد العربي و العالميّ دون النّظر إلى الظّروف التي حفّت بخروجه إلى النّور،إلاّ فيما يتعلّق بتجربة أدبيّة سعيتُ إلى تحصيلها. و ذلكلاعتقادي بأنّ الاهتمامالمُفرط بما يحفّ بالإبداع (من أجناس و سير و متفق عليه)يأتي دائما على حساب التدبّر العميق لما بين أيدينا و يُخفي عنّا الأسرار التي منحته صفة المُتجاوز. أذكر هذا لأنّ الإبداع اكتسب سحره أصلا من طبيعته الرّافضة للثّوب الواحد فنحن إن اهتممنا بالشّكل فلنغيّره لا لنكرّسه. إنّنانتعرّف على الكاتب لمّا نفهم لماذا يقرأ لغيره. على غرار قل لي لماذا تقرأ(لا لمن تقرأ) أقل لك من أنت. فأنا إذن على طريقتيقارىءيقرأ لغيره كثيرا منطلقا من فكرة أنّ الواقع هو مطيّة الأدب ليظهر و ليس العكس.

    1/ شاركت في عدد من الملتقيات الأدبية ونلت عددا من الجوائز الاولى. هل أضافت الملتقيات وورشاتها إلى تجربتك؟

    كانت الملتقيات التي حضرتها فرصة في مرحلة أولى لأسمع صوتي، و أنا أتكلّم عن القصّة القصيرة، هذا الجنس الأدبيّ الذي أصبتُ به بغتة و الذي انغمستُ في كتابته فلم أجد الوقت لأفهم ما الذي دفعني إلى ذلك و لا ما الذي أرجوه من ورائه. كنتُ منبهرا بسماع نفسيو هي تعترف و تكشف. كانت حقّا مناسبة مثاليّة لأشخّص مدى تعلّقي بالقصّة و مدى تأثّري بها و ما إذا كان بوسعي أن أؤثّر بدوري. أمّا الجوائز فقد لعبت دور المُحفّز الذي دفعني قدما و كفل لي استمراري في مزاولة الّلقاءات و التمركز أكثر في دائرة القصّة بتونس. بوصفي حاصلا على عشرين جائزة وطنيّة وجائزتين عربيّتين.

    2/ رغم طباعة كتابك في مصر فإنك لم تتمكن من نيل نسخك الخاصة إلى الآن. ماهي مشاكل النشر التي تواجه الكاتب في رأيك؟ وماالذي يحول بينه وبين قرائه خاصة مع ولادة طرق نشر بديلة وغياب الرقيب اليوم؟

    صحيح لقد نُشرت لي في السّابق كما ذكرتُ مجموعة في مصر بعنوان" زبد و رخام " هي الآن معروضة للبيع رقميّا و بصفة مباشرة. و رغمالعقدالمبرمبيننالم أتوصّل و لو بنسخة واحدة منها. طبعا لم يعد بيني و بين الدّار أيّة قناة اتّصال بما أنّها متحرّرة بالأساس من تعهّداتها الأخلاقيّة تجاه المؤلّفين. المُشكلة برأيي هو في البلدان التي لا تعير الكتاب أهمّيّة و لا تؤمن بدورهم في بناء المجتمع و تكوين خصائصه، بل لقد قذفتبهم في أفواه المقاولين الذين لم يُقصّروا في المتاجرة بفكر المبدعين و إلقاء الفتات أمامهم هذا إذا لم يُطالبوا أيضا بالتنازل عن قسم كبير من الفتات. في تلك الحالة وجد الكاتب( ممن لم يحقّقوا اسما بعد)  نفسه مضطرا إلىإصدار كتابه متنازلا عن حقّه الماديّ كأنّه يدفع ضريبة جريمة ارتكبها. فصرنا نسمع كلاما مخزيا من قبيل إذا أردت أن تنشر كتابا فتحمّل مسؤوليّتك

    3/ لغتك السردية تتميز بطابع من السحرية التي تولدها البساطة بعيدا عن التكلف، كما نجد مثلا عند موراكامي، كيف ترى مشروعك السردي؟

    كلّ إراديّ كذبة يا صديقي.. أو هكذا أعتقد على الأقلّ، إذ لن يكون بإمكانك أنتصنع الإثارة الفلانيّة أو تصلبالقارىء إلى فكرة ما و أنت تحمل هاجس إفحامه أو القضاء عليه لغة. أي بمعنى أنّه فيما أعتقد ليس مُتاحا لك أن تحدث وقعا و أنت تحمل عقليّة اتّباع الموضة و تقليد البضاعة النّاجحة. الجرأة في اقتحام المواضيع و الجمل البكر الصادقة ستلقى دائما الصدى الطيب لدى القارىءو مادامت تشتغل على تطوير قارئك لا أن تكتب لقراء ذوي ملكات متطوّرة فأنت إذن في الدّرب الصّحيحة. ذاك أنّ الفروسيّة في الأدب هو أن تُسلّح القارىء لا أن تقاتل نيابة عنه، أوضّح أكثر فأقول إنّ الكاتب الجيّد هو الذي لا يستخفّ بالقارىء فيشرح له كأنّه يصف لأعمى و لا أن ينهال عليه بلاغة كما لو أنّه يبارزه. أو كما لو أنّه إزاء وثيقة مُزوّرة يريد أن يختل بها عون الجمارك. موراكامي مثلا لا يجد حرجا في استعمال الخطاب السرديّ البسيط و الموحيو لا في استعمال الأمثلة اليوميّة القريبة لا ليقول إنّ الأشياء بسيطة بل ليقول ليس هناك شيء بسيط في هذا الوجود.و هذا تحديدا في نظري سرّ نجاحه و السّحر الكامن وراء أسطره.
    لا أدري إن كان هناك وجه شبه بيننا لكنّي على الأقلّ أومن أنّ خفقان القلب و هو الأمر الأكثر تعقيدا و سحرا في هذا الوجود يحدث بإيقاع من صوتين فقط.

    4/ تراجع جنس القصة القصيرة، لكن هل ترى أن التجريب فيه أفسده؟ مثلا ما يكتب اليوم مما يسمى القصة القصيرة جدا هل أفسد ملامح القصة القصيرة كجنس أدبي مستقل؟

    ثمّة موجة تجريب على مستوى الشّكل في القصّة القصيرة، منها كما تفضّلت ما يُسمّى بالقصّة القصيرة جدّ لكن لنتحدّث أوّلا عن بعض وجوه التجريب الأخرى التي ينبغي حقيقة أن نشجّعها على الظّهور و نتعهّدها بالدّرس، و أقصد استدعاء القصّة القصيرة لأشكال الوثيقة الأخرى على اختلاف شعب الخطابو الهندسة التي تميّزها، مثلا: القصاصات..المشاهد.. التلاعب باحتمالات مسار الأحداث في أكثر من مسلك سرديّ.. تطويع أدوات المسرح و السينما لصياغة قصّة الخ... كذلك ينسحب الأمر ذاته على المضامين فقد باتت أيضا بشكل عام في حاجة إلى تطوير لكي تجاري تطوّر الذّكاء البشري و تنافس الغزو الرقميّ(من صورة و مشاهد مُصوّرة متاحة للجميع)، و نحن إذ نتحدّث عن "تحديث" للمضامين فنعني تجاوز الفكرة التقليديّة الدّارجة من أنّ الصّدمة هي التي تصنع الإثارةو تلفت الانتباه. هنا تحديدا أتساءل هل بوسع قصّة أن تضاهي الصّدمة التي تحدثها صورة دمية ملقاة بجانب أنقاض حيّ سكنيّ؟؟ طبعا لا. في هذه الحالة هل نعلن موت القصّة؟ الصّواب في رأيي هو أن لا ننافس الصّورة بإعادة وصفها بل أن نعرض في أقاصيصنا من أنماط التصوير الجديدة ما يكفل لها البقاء في ظلّ الثّورة الرقميّة الحاليّة. أما القصّة القصيرة جدّا فشخصيّا لا أعتبرها قصّة بل أجدها أقرب إمّا إلى فكرة قصّة أو إلى المثل السّريع أو إلى الحدث الصادم الذي يُبنِي بواسطة خطوط عريضة جدّا. لكنّها و إن كانت حقيقة بالنّظر إلى العدد الكبير من الأدباء الذين اتّجهوا إليها و الأكاديميّات التي أٌقيمت على شرفها فإنّها لن تُلغي بحال القصّة القصيرة و إلاّ لجاز الحديث عن زوال الرّواية بمجرّد ظهور القصّة.

    5/ أي مكانة تراها للقصة القصيرة اليوم، في زمن اجتاحت فيه الرواية كل الأجناس الأخرى؟

    أعتقد أنّ الخيط الرّفيع الذي يُفسّر كلّ شيء يكمن أساسا في التالي : هل نختار اتّجاهنا الأدبيّ منذ البداية ثمّ نكتب فيه أم أنّ حاجتنا إلى القول هي التي تُحدّد الجنس الأدبي؟ الكاتب الذي يحمل مشروعا أدبيّا على كاهله سيجدنفسه يُساق دون أن يشعر إلى الجنس الأدبيّ المناسب. القصّة لا تشذّ عن هذا المبدأ فهي أداة لا يمكن أن تُعوّضها الرّواية و لا القصيدة إذا تحتّم أن تصل الفكرة بقصّة. إذن في اعتقادي لا خوف على القصّة من الرّواية لأنّ كلاهما يؤدّي دورا يعجز الآخر عن أدائه. ألم يكتب ماركيز قصصا قصيرة بعد مائة عام من العزلة؟ أليس هذا دليلا على أنّ الرّجل احتاج إلى القصّة دون سوايا لينقل انفعالا ما؟ أمّا فيما يخصّ التلقّي فأعتقد أنّنا ماضون نحو وعي جماعيّ فكريّ ستزداد فيه درجة احترام الناس للقصّة و متابعتهم إيّاها كما هو الشّأن في الغرب الآن.

    6/ كيف ترى  مشهد القصة القصيرة التونسية اليوم؟ والتي تقريبا تعد غائبة تماما عن المشهد الثقافي في تونس؟

    كتابة القصّة في تونس أشبّبها بما يحصل في الصّيد عندما يُضطر الصيّاد لسبب ما أن تصيب الطريدة ثمّ يتعذّر عليه التقاطها. أن تبذل جهدا فلا تجني شيئا. هي فنّ يتعاطاه نزر يعشقونه و للأمانة هي لم تتعدّالهواية بعد في بلادنا، إذ لا يُرجى من ورائها يسر أو كسب أو سفر أو شهرة الخ..يمارسها جماعة لديهم من الوعي بأهميّة و جمال هذا الجنس الأدبيّ ما يجعلهم يستمرّون في العناية به و التضحية في سبيله كتابة و متابعة رغم إدراكهم بأنّ طريق المجد أو حتّى القراءة من ورائها مسدود .في المقابل انتظر و لو على سبيل الخيال أن يصير عددهم بالآلاف لو أنّ القصّة كان لها شأن «الوان مان شو» في تونس.

    7/ كثير من الشباب الكتاب كانوا ينبؤون بولادة أقلام مميزة لكن خفتت أصواتهم وهناك منهم حتى من اعتزل الكتابة. ما أسباب ذلك في رأيك؟

    نعم مؤسف حقّا أنّ عددا كبيرا من المواهب تلاشت أصواتهم لعدم قدرة أصحابها على المواصلة دون تشجيع (و هذا صعب في الواقع) أو لأنّ القصّة لم تنضج لديهم بالشّكل الذي يجعلها تُمثّل مشروعا بالنّسبة إليهم. السّبب الأوّل هو الأرجح و الأخطر في اعتقادي، إذ تخيّل مُبدعا في بداية طريقه لا يُروّج و لا يُحتفى بإبداعه و لا يُدفع به إلى فضاء إبداعيّ أسمى. سينال منه الإحباط دون شكّ و سيستسلمو يهجر الكتابة غير آسف. في تونس مثلا يُحتفى بالكاتب حين يكون له إصدار جديد أو على الأقلّ حين يكون من ذوي "الكتب" و هذا مقياس خاطئ بل سخيف مقارنة بكمّ الكتاب الذين يحظون باهتمام إعلاميّ لا لشيء إلاّ لأنّهم اتّصلوا بمطابع و استطاعوا أن يدفعوا أموالا. و الأصل في الأشياء هو أن يحدث العكس؛ أي أن يقع التعريف بالشباب المبدعين "العزّل من كتب" من أولئك الذين أثبتوا تميّزا في الملتقيات الوطنيّة.

    8/ ماهي المشاكل التي يعانيها الكاتب التونسي اليوم في ظل اتحاد الكتاب الميت سريريا وواقع التهميش؟ وأي دور لوزارة الثقافة في ذلك؟ وكيف ترى طرق إصلاح وضعية الكاتب؟ 

    لك أن تُصدّقني حين أقول لك إنّي لا أعرف ما معنى اتّحاد الكتاب علاوة طبعا على أنّي لا أعرف أين يقع مقرّه و لا من يسيّره و لا ما النّشاط الذي يُزاوله. أقول هذا بصراحة و أعي أنّ كثيرين مثلي و إن تميّزوا عنّي بمعرفة مقرّه فإنّهم يجهلون الخدمات التي يقدّمها. بالتالي لن أتحدّث عن أمر أجهله. الحلّ الحقيقيّ في نظري هو أن تعيد الدّولة (الجهة العموميّة) الممثّلة في وزارة الثّقافة دور النّشر و التّوزيعالحكوميّة و أن تضع على رأسها نخبة من خيرة أدبائنا تعهد لهم بالقراءة و التدقيق ومنحالفرصحسبالجدارة،و فريقا للطّباعة و التّوزيع. بهذه الطٍّريقة لن يرشح سوى ما هو حقيقيّ و ستزول الكتب الطفيليّة إلى الأبد، و سيصير للمؤلّف أب لا يفرّق بين أبنائه.فالمبدع يموت إذا خرج عن مهمّته و اضطلع بدور التاجر و الوسيط و المنتج و الكاتب معا.

    09/ فشلت الثورة جزئيا في الحقل السياسي والاقتصادي، وكثيرون يرون أن الثورة لم تصل إلى اليوم إلى المشهد الثقافي الذي ظل على حاله بنفس شخوصه وممارساتهم ونفس التوجه الميّت. ماهورأيك ؟

    لم يحدث تغيير على الإطلاق نحو الأفضل بعد ما يُسمّى بالثّورة ما عدا قدرة الفرد على التعبير دون الخوف من دخول السّجن. أمّا الجدوى و النّجاعةالفكريّة فلا تكفلهما ثورة لا تحمل طموحاشعبيّا مُشتركا شعاره" نريد أن نصير شعبا متقدّما" هذا لم يحدث. ما حدث يبرّره شعار: "نريد نعيما شاملا، و الآن". فليست الوجوه القديمة و لا الممارسات القديمةبمفردها المسؤولة عن شلل الثقافة في تونس. في رأيي العدوّ الحقيقيّ للمشهد الثقافيّ هو عقليّة النّشاط لا لأجل التثقيف كواجب تجاه الوطن و الإنسان، بل لأجل رفع محاضر جلسات للإدارات العليا مرفقة بالعديد من الصّور الفوتوغرافيّة و فواتير المرطّبات إثر كلّ تظاهرة.

    10/ أنت لم تنشر مخطوطاتك إلى اليوم؟ هل امتناعك عن النشر موقف أم هناك سبب آخر. ثم ماهي خطواتك الأدبية أو مشاريعك الآنية واللاحقة؟

    تأخّر صدور مجموعة قصصيّة يعود بالأساس إلى فرط اختبار و مراجعة للنّصوص من جهتي، لكن مع حصولي مؤخّرا على جائزة نادي القصّة للمجموعة القصصيّة عن مخطوط "أشياء العام الجديد" فسأنشر المجموعة قريبا إن شاء الله. و ستضمّ اثنين و عشرين قصّة قصيرة، أي سيكون كتابا قصصيا سخيّا نوعا ما. أمّا مّاأااالللحاليّا فأنا بصدد كتابة رواية، مع أنّي أكتب بين الحين و الآخر قصّة قصيرة.و الصّدق أقول : لم أشعر يوما بأنّي لم أنشر كتابي بعد. ربّما هذا هو السّبب الحقيقيّ الغامض وراء تأخّره.