• الرئيسيّة

  • الجمعة، 6 جوان 2014

    خذ الذي يعنيك و انصرف / مناف كاظم


             ايقظني صوت أمي  فنهضت مترنحا , لا أزال تحت تأثير كابوس ليلة البارحة نظرت في المرآة وأنا اغسل وجهي كان شاحبا جدا . يا الهي متى اتخلص من تأثير قصص جدتي , كانت لا تتعب من حكايتها الطويلة التي لم استطع الصمود ليلة واحدة دون ان انام قبل ان اعرف النهاية . يهزمني النوم دائما , كنت اعرف البداية وربما اقاوم النعاس حتى منتصف الحكاية لكنني لم اعرف النهاية ابدا , وكلما حاولت ثانية في الليلة الاخرى يغلبني النوم. وفي المدرسة عندما اكتشفت القراءة صرت اقرأ القصص الطويلة كل ليلة , اقرأ الفصول الاولى ثم اهمل الوسط لأقرأ الفصول الاخيرة كي اعرف النهاية قبل ان يهزمني النعاس تلك متعتي الوحيدة التي لم اشعر بالملل منها حتى وقت متأخر من حياتي . لا ادري لماذا كلما اقتربت بتوجس من المقبرة القريبة الى حد بعيد من منزلنا يركبني الف عفريت , وكلما نظرت اليها من خلف نافذة غرفة جدتي تتسارع ضربات قلبي بشكل جنوني , ترتعش اصابع كفي ويضطرب عقلي بخيالات مشتته . الاشياء من حولي تزداد شدة الوانها وترسم اشكال عالية كثيفة غير ثابتة تتغير بسرعة , الكلاب تصبح كائنات مسعورة لا تعرف الرحمة فيما بينها وتخدش بمخالبها سكينة العالم من حولي , انيابها الطويلة تقطر دما ولسانها الممدود ينز لعابا مسموما وعيونها المتوقدة ضائعة بين سواد الليل وسكونه المشحون بالخطر المتربص بها تنقض كالنمور الشرسة على كل غريب يخترق قدسية الاموات الصامتة منذ الازل والى الازل , كل شيء يأخذ شكلا اخر , تمسخ الاشجار الساكنة وتزداد تفرعا وغربة , العتمة تمتد عميقا ملتهمة صحوة الاسلاف البالغين في حكمتهم انتصاف النهار ونشاطه , العتمة شياطين شريرة تحوم حول رأسي سارقة مني رحمة الأله وعناية الأولياء الصالحين ولا يبق غير الصدى المؤلم الراكض خلف رفات الموتى وخلف انياب الاشباح الشفافة التي تخترق صلابة الاجساد هازئة من مادية الاحياء السائرين خلف الزوال كالعميان . كل شيء يأخذ شكلا اخر .... ويموت . تولد العتمة من رماد الموتى وتحلق في فضاء المقبرة , تحتضن نافذة غرفة جدتي لتموت ثانية مع بزوغ الفجر وشروق الشمس المباركة. عندما كنت صغيرا كانت تحرسني عناية جدتي . لقد قالت لأمي ( اعتني بأبنائك الاخرين واتركي لي اخر احفادي كي يبعد عني وحشة الليل وكي احس اني لازلت تحت ظلال جده )وقد ادخلتني رغم عني لعالمها المليء بالعفاريت المشاكسة وشياطين النار ومملكة الجن التي تكره اطماع بني ادم وسلطته الخاوية في هذه الدنيا الفانية . صغيرا صرت بين احضان جدتي اخاف بلا سبب وارقب غرابة هذا العالم بلا سبب . اطمع ان اتوغل في غموض العالم بقليل من المعرفة وكثير من التوجس والعتمة والاحساس بكل ما يمسخني خاطئا , رديئا , حالما , لا اعرف غير سحر والأناشيد المدرسية وحماية الادعية المقدسة , وعاطفة الجنية الممسوخة التي تلاحقني اينما ذهبت , في كل مرة اجدها داخل نفسي , وتجدني داخل نفسها , جنية تلامس خدي بأناملها وتمتص بشفاهها دمي , تلسعني بنار الموتى ثم تعود حزينة كي تنام بين القبور المهدمة (لقد اكدت لي جدتي مرارا عندما كانت تحكي لي عن الجنية الممسوخة بأنها لن ترحل الى عالمها السفلي الا بعد ان تأخذني معها ) تسحرني بغنائها وتجرني مذلولا لطريق المقبرة ثم تفزعني بأنيابها وسواد ردائها المنسوج من رماد القبور المسكونة , في كل مرة اجد نفسي صغيرا يبكي ابحث عنها في كل الامكنة , واهرب منها من كل الامكنة . في بعض الليالي الموحشة تمتد يدها الشبحية بتوجس تعتصر خفقات قلبي الصغير فتسكنه سارقة مني بزوغ فجر جديد لم يولد بعد . رغم عنادي الاول ورغم يقيني الاخير بأنها ليست الا خرافة من خرافات جدتي وخوفي الساذج من قدسية المقبرة القديمة لكنها لم تزل حتى وقت متأخر من حياتي تقض مضجعي وتهددني بعالمها السفلي الذي لا يعرف من صلابة الواقع الا شكلا ومن حركة الاجساد الا جهلا وبلاهة.
    في ليالي الشتاء القارص اعتدت الجلوس قرب المدفأة منصتا لجدتي , لعاطفة صوتها الشجي الذي ينسج مع دفء النار صور كثيفة , مخيفة لكنها مثيرة , يرتفع صوت جدتي المحبوب قائلة (قال الاولون..... اختطفها المشعوذون قتلوا اطفالها الصغار امام عينيها عقابا لها لسخريتها منهم وجرأتها التي ارعبت بها نساء زمانها ووقاحتها التي هاجمت بها سحر المشعوذين وسطوتهم . ثم مسخوها جنية حزينة متوحشة تلاحق الصغار. تخطفهم من بين احضان امهاتهم كي تمتص دمائهم ثم تبكي اياما وليالي بعد كل طفل تقتله وتفشل في ان تمسخه جن صغير يبعد عنها وحشة القبور وضلال الاشجار العالية . جميلة كانت سحرت بقوامها الرشيق الانس والجن ولكنها لم تكن لأحد الا لزوجها التاجر اليهودي . في كل مجلس كانت تسخر من مشعوذين الليل وغبائهم . وترفض التعطر بالبخور المقدمة اجلالا واحتراما لهم مثلما يفعلن نساء ذلك الزمان . وجهها كان حقل قمح ذهبي . عيونها كسواد الليل الصافي . ووجنتيها بنعومة الفجر . نهداها طائران صغيران من الفردوس يسيل من حلمتيها شهد لا يتذوقه ويتلذذ به الا الملوك والسلاطين . تعرف الرقص والغناء لكنها لم ترقص الا من اجل زوجها ولم تغني الا من اجل صغارها الثلاثة) . تلك كانت جنية المقبرة التي تتقمص كل وجوه النساء قناعا وترتدي اجسادهن اثوابا كي تثيرني وتخدعني ثم ترمي القناع بعيدا عنها في اللحظة الاولى التي تخطفني من بين احضان  جدتي .
         (سوف تتأخر عن الكلية ) ايقظني صوت امي من خيالاتي المشتتة . كنت قد انهيت فطوري . يا الهي ... كانت ايامي الاولى في الكلية كئيبة للغاية . لم استطيع التعايش مع الطلاب وكنت منعزلا عنهم اصبحت القراءة العزاء الوحيد لشعوري بالوحدة . لكن بعد خمس سنوات ظهيرة احد ايام ايلول عندما كنت حاضنا بندقيتي في الخندق ومثقلا بشريط الرصاص الذي يلف جسدي تذكرت ذلك اليوم لما كنت ابحث عن مكان منعزل في احد جوانب الكلية كي اقرأ رواية قد استعرتها من المكتبة عندما وقفت امامي احدا طالبات صفي . فسألتني عن الكتاب الذي بيدي . لقد تحدثت طويلا عن قراءاتها السابقة وهي تتصفح الكتاب امامي , ثم جلست بجانبي اثناء المحاضرة تاركة فخذها الايمن يلامس فخذي الايسر . مر الوقت سريعا دون ادنى حركة مني . في تلك اللحظة لم اكن ابصر عيونها الكحيلة ولا انفها الصغير ولا شفتيها المرسومتين بالأحمر القرمزي ولم احدق بنهديها المختبئين تحت ثوبها الازرق الداكن الملتف حول جسمها الممشوق كعاشق مجوسي احرقته النار المقدسة , ولم احاول ان اسرق نظرة خاطفة لساقيها العاجيتين , كنت جالسا بجنبها فحسب , وجهي ممدود للأمام لا ابصر شيئا , منتشيا برائحة الانثى الخالدة المتغلغلة بأنفي محطمة جميع الابواب والنوافذ المغلقة بذاكرتي شاعرا بجسمي قد صار خفيفا كالريشة المقلوعة من طائر الهدهد . وفي الظهيرة ودعتني عند بوابة الكلية بعد ان اخذت الكتاب معها . صرت وحدي فجأة.  اخطو فوق الارصفة المبتلة مسحورا برائحتها العبقة . لم اكن ارى الشاحنات الصاخبة وهي تجتاز الشارع مسرعة ولا واجهات المحلات التجارية ولا المتسولين القاعدين متعبين على جانبي الرصيف الاسفلتي ولا الصغار الراكضين عائدين من المدارس ولا العاملين المنهكين بملابسهم الرثة ولا عباءات النسوة المتراقصة مع الرياح الباردة كنت ارى فقط ظلالا متحركة وألوانا براقة تأخذني بعيدا عن هذه المشاهد اليومية المتكررة . وعندما وصلت للمنزل دخلت الى غرفتي ولم اذهب للمطبخ كي اسال امي عن الغذاء مثلما افعل كل يوم , اغلقت باب الغرفة وارتميت على السرير محدقا بسقف الغرفة فترة طويلة . نادتني امي كي اتناول الغذاء فنهضت خارجا من غرفتي كالماشي اثناء نومي ثم عدت ثانية وارتميت على سريري محدقا بسقف الغرفة دون ان احس بالدقائق والساعات الراحلة . ايقضني صوت امي في المساء فنهضت متكاسلا وخرجت . عدت ثانية بعد تناول العشاء وارتميت على السرير محدقا بسقف الغرفة . ولما غلبني النعاس رأيتها بثوبها الازرق الداكن وقد اخذتني في رحلة جميلة بعيدة عن تعقيدات الواقع . وفي اليوم الثاني وصلت مبكرا . جلست في اخر قاعة المحاضرات منتظرا وصولها . كانت الدقائق تمر ثقيلة بلا معنى . اخيرا دخلت للقاعة في اللحظات الاخيرة قبل بدأ المحاضرة . كان وجهها مشدودا . صعد الدم سريعا لوجهي واضطربت ضربات قلبي , احسست بوجهي يلتهب وأنا ابصر انحناءات جسمها منتظرا جلوسها بجانبي لكنني خفضت رأسي وشعرت بالخيبة كالعلقم الذي ابتلعه رغما عني حينما جلست بجانب زميلتها في الجهة الاخرى من القاعة تاركة اياي كالطفل الذي يبكي دافنا رأسه في صدر امه.
            كان اسمها سارة . حفيدة مقاتل عثماني عرف عنه الشراسة والولاء الاعمى للسلطان . لكن بعد سقوط الدولة العثمانية التحق هو وعائلته بأحدى القوافل الهاربة من بطش الثوار الغاضبين على كل من يوالي السلطان المنفي , والمهاجرة للشمال الذي يسكنه الاكراد المعروفين بحبهم للقتال والصيد . كان على القافلة ان تجتاز الحدود التركية في احدى الليالي التي يكون فيها القمر مختبئا بين الغيوم فيصبحون اشباحا لا مرئية يمكنها اجتياز العساكر دون ان يحسوا بهم فيقبضون عليهم ليكون مصيرهم الموت . ومن اجل سلامة القافلة اقترح رئيسهم ان يشد حول خصره حبلا متينا ثم يمد الباقي منه الى الاخر الذي يتبعه لكن دون ان يميز خطواته كي يشده حول خصره ويمد هذا بدوره الباقي من الحبل الى الاخر خلفه . وهكذا حتى اخر فرد في القافلة الطويلة . لقد واصلوا رحلتهم بلا حديث . صامتين . الرجال النساء الشيوخ العجائز الصبيان البنات والأطفال الخائفين من ظلام الليل وسكونه المشحون بالخطر. لم يشهدوا اقسى من هذه الرحلة طيلة حياتهم . كان الصراع ضد شبح الموت والفناء ومن اجل حياة اخرى بعيدة عن اهوال الحرب والانتفاضات الهمجية حفز فيهم الشجاعة والصبر وتحمل الجوع كي ينهوا هذه الرحلة بسلام . ( ليال طويلة نقضيها ملتفين حول جدتنا نتخيل تفاصيل هذه الرحلة حتى صارت ارثنا الوحيد الذي لا نستطيع التخلص منه مهما حاولنا ) قالت سارة قاطعة حكاية اجدادها ,ثم خفضت رأسها وسكتت فترة طويلة كنت خلالها اتأمل الحزن المرتسم على وجهها .  لكنها استنشقت نفسا عميقا وواصلت حديثها كأنها تعيش الحدث مع اجدادها . فبعد التخلص من العساكر المدججين بالأسلحة كان بانتظارهم خطر الذئاب المفترسة الجائعة , وبعد التخلص من الذئاب كان عليهم ان يباغتوا قطاع الطرق الساكنين في الجبال والذين يتخذون من الليل حارسا امينا لهم . وصلوا اخيرا لقرية صغيرا في الشمال سكنوا فيها سنوات ثم هاجروا مرة اخرى بعد اندلاع الحرب بين عصابات الجبال والسهول لكن هذه المرة الى اقصى الجنوب . فاستقروا هناك حتى اخر يوم من حياة اخر حفيد منهم متخذين من المنازل القديمة مسكنا لهم . ولدت سارة في زمن السلم . لم تعرف الهجرات القاسية تحت تهديد العساكر وخطر الذئاب وغدر اللصوص الذين يلبسون الدروع الفولاذية , ولم تشهد غدر العصابات التي اتعبتها الحرب لكن زادت من قسوتها ورغبتها في القتل والتشرد , ولم تعرف برد الشمال القارص الا في احاديث العجائز والشيوخ والصور القديمة التي اتلفها الزمن فأصبحت مشوشة.
          كانت القلادة التعريفية للجندي حول رقبتي قد حكمت علي ان اكون منفيا في كل مكان . الدودة اكلت الوردة في دجى الليل والرصاص يلتهم الاجساد التهاما . بان الصباح على وجهي وانتشر الغبار قاسيا في ارض المعركة تاركا انطباعا غاضبا . لم اكن احرك وجهي احتقارا , كنت متمرغا في الطين من اجل وطن قد تمرغ معي في الطين اياما وليالي كي يحرك وهما متجددا في اعماقي . امضيت سنينا محاولا حشر نفسي في تناقضات هذا العالم دافعا خيالي المتخشب كالإسطبل نحو الامام كي افهم بعضا من احداثه الغريبة عن نفسي ولم يبق لي غير الالية البليدة في التصنع والتمثيل الخائب في وطن غارق حتى النهاية في الطين وانتهيت الان في حرب غامضة سارقة مني وجود كل من احببتهم وعشت فرحا بتأمل حكاياتهم . خلف المدفع كنت شبحا مظلما , عاريا , متلاشيا لا احد متلاش مثلي . فأنا بعيدا عن امي وعن جدتي رجل حرب . اتخيل في بعض الاوقات ذلك الزمن البعيد لما دفن الاحياء مع الاموات , متوقعا الالم , الخوف , العزلة , واعني انتحار الكاهن , يوم كان الانتحار قدرا كالموت ولم يكن هزيلا كالجواد الاعرج . خلف المدفع اتذكر وجه امي الذي يملؤني حضورها المباغت ويملؤها انتظاري . ولما كانت تحتويني بعيونها الساكنة كنت اتوارى كالحصان الوحشي الضائع في المراعي المغسولة بالأخضر الصافي فأصبح قذيفة مدفع او صقر محلقا بين الغيوم .وانا لا اعني من الكلمات سوى ما تعنيه الكلمات . لا وقت لدي كي اعني ما اعنيه ولا وقت لديهم كي يطلقوا الرصاص علي فينتزعوا جسدي . كان يوما قائظا حينما وصلت بلا اكتراث مع بقية الجنود الى ارض المعركة وخسر العالم نفسه . بقينا عشرة ايام مبعثرين مشتتين , يخنقنا الغبار , لا نتذكر سوى ارواح الجرحى الزاحفين دافعين الاقنعة الفارغة كي يحشوا شيئا بارزا او قادرا على توليد اصوات قذرة . اصبحت شخصا متذمرا صارخا . كنت اذا ما فرغت من تنظيف سلاحي استلقي مستأنفا الحديث عن الخيول السريعة كالسهام والاوسمة العسكرية واصفا لفترة طويلة الجزم الجلدية ونساء هزيلات يمارسن كل اشكال العشق فوق الحشيش الناعم , وقرب الخيول المحبوبة , مستغرقا في الاوقات العصيبة برائحة سارة العبقة لما كانت الزهور المتراصة حولنا تولد حفيفا كثيفا كالموت المعتم الزاحف بطيئا من بين العرق المتطاير ثم يحل علينا بلون الستائر الباهتة . كنا منعزلين عن العالم الصاخب . ولا اتذكر الان (وسط الغبار الساخن في الخندق ) الا يدها الناعمة كالبرتقالة وهي تلامس جسدي الرصاصي , ابقى ساعات منصتا لأنفاسها متخيلا الخيول الراكضة فوق البرسيم وجدار عاليا وقبعة سوداء طويلة فارغة واشجارا خضراء عالية وقطط سوداء تموء قافزة فوق الجدار , ثم شجرة يابسة وقبعة زرقاء واوراق متناثرة ونساء راقصات تمنحهن الارض المزروعة رائحة الانهار . كانت سارة شامخة , مرتبكة ارتباكا توارى خلف المقاعد والاوراق المتساقطة التي لم ينظر فيها احد . تضع ثوبها الاحمر فوق رأسي وترقب انزلاقه عني ضاحكة , تستطيل بجانبي مثل قطرة مرئية تتبعها قطرة اخرى ثم تتحرك كالعجينة في الظل , اشعة تتعاظم في الظل فوق خوذة المحارب المتروكة بعربات الموت قبل اكتشاف البارود الاسود فأصبح الان قدرنا المحتوم.
          كان صوت الرصاص وانين الجنود الجرحى قد جعلني اتكور في الخندق المظلم منصتا لأصوات الجنود الغاضبة ربما تمردا ضد هذه الارض التي تبتلع في احشائها كل من يتخاذل او يستسلم لخوفه الصامت , او ربما كي يرحل الموت بعيدا عنا كالرياح الثلجية المندفعة باتجاهات غامضة ناسية هؤلاء الجنود المثقلين بجراحاتهم تاركين احلامهم في عيون النساء الجالسات ينتظرن الحب الاول يلتحف الاجساد البراقة , او ربما كان خوفا مكبوتا داخل نفوسهم المعتادة رتابة الحياة اليومية ناسية تدفقها الصافي كالأنهار فتكون كتلة واحدة تموت بلحظة وتعيش بلحظة . لا ادري . لقد فر الجنود ولم بيق احد قربي سوى الموتى والجرحى . كنت انصت لقصف المدافع ورنين الدبابات وقصف الطائرات المرتفعة نجوما قاتلة في السماء والوقع المكتوم للجزم الجلدية الضاربة في الارض اشبه بالطبول الافريقية . كانوا يقتربون مني . اسمع صدى اصوات الجزم الجلدية تضرب الارض مقتربة اكثر واكثر . ارتفع جسمي كالريشة في الهواء ثم سقط في الخندق متمرغا بالتراب بعد ان انفجرت القنابل بين اجسادنا . حاولت التركيز رغم الالام بعيدا عن انين الجرحى من حولي فرأيت نفسي متكور واعضاء جسمي كلها ترتجف من الخوف ربما او من البرد لا ادري كنت مشوشا وكل شيء حولي كان مغبرا . اختفى كل شيء ولم اعد اسمع انين الجرحى ولا اصوات المدافع والدبابات . احسست بضياء ساكن داخل نفسي المتعبة ويد امي الحنونة تمسح على رأسي وحضنها الدافئ صار كل عالمي . نسيت كل شيء وانا اسمع صوتها الحزين ودموعها الساخنة تبلل وجهي المغبر كانت هي ملجئي الاخير الذي يحميني من كل شر يصيبني في هذا العالم الوحشي.
         ( جدي .... حان وقت النوم ) قال الحفيد لجده الجالس متكورا خافضا رأسه بين رجليه وصامتا منذ فترة طويلة احسها الحفيد دهرا كاملا . اتكأ الجد على حفيده وسارا معا الى الفراش تمدد دون ان يعترض على شيء ثم غطا الحفيد جده بعناية ناظرا الى عيونه التي تعكس امتنان الجد له وتخيله يبتسم ابتسامة كان يحبها ويتمناها منذ امد طويل جدا . كان يريد ان يركض لامه كي يخبرها فرحا ( اماه ... اماه ... جدي ابتسم لي لقد رأيته يبتسم لي وحدي ) لكنه بقي ينظر الى جده الذي راح في سبات عميق ..عميق جدا.


    مناف كاظم محسن  

    العراق – البصرة 

    الأحد، 1 جوان 2014

    جلد ثور أسود



    سكّان تلك الجزيرة عشيرة كبيرة واحدة تتوارث التّعاليم و التّقاليد جيلا بعد جيل.
    لا أحد يملك في الجزيرة قشّة واحدة، الجميع يعمل من أجل الجميع، يدير شؤون العائلة شيخ صالح ذو دراية و حفظ و حكمة، يساعده في ذلك نزر من العقلاء  و المحنّكين      و المهرة.
    يقتسم أهل القرية الخير كلّ بحسب ما أحضر. يعيشون على صيد السمك و الزّراعة و ما يدرّه عليهم الغنم من نعمة.
     و كان لديهم ثور أسود عظيم، مات أبواه فنشأ بينهم كأحد منهم، كبيرا و صغيرا كانوا يتبرّكون به و يتعهّدونه بالرّعاية و الطعام. حتّى حلّ بهم موسم أمسك فيه البحر أسماكه و الأرض خيراتها. إن هي إلاّ أسابيع ثلاث حتّى أتوا على المؤونة كلّها.
    دبّ فيهم الرّعب و هم يراقبون الجوع و المرض يلوّحان لهم بفناء جماعيّ محتوم.
    أشار عليهم راعي المواشي بذبح الثّور الأسود، فقتلوه. ذاك أنّهم منهيّون عن إلحاق الأذى بالجسم المقدّس و لو بخاطرة عابرة. لكن مع استفحال الهوان و الجوع بهم قرّروا أن يُطعَموه. قالوا: الصّواب فيما قاله الرّاعي، لعلّنا إذا طعمناه اقتربنا بلحمه من آخر أيّام النّحس، فيدنو رزقنا، و يتيسّر قوتنا من بعد احتباس و كدّ. و حتّى يجانبوا الإثم اتّفقوا على أن يعهدوا بذبح الثّور إلى غريب عن الجزيرة. جهزّ رجال أشدّاء قاربا و أبحروا لإحضار الغريب. قصدوا جزيرة مجاورة.
     لدى وصولهم وجدوا ضالّتهم. اشترط الرّجل أن يتقاضى جلد الثّور مقابل عمله سيرا على خطى أجداده. احتار الوفد. تجادلوا فيما بينهم ساعة زمن. فتعاليمهم تحرّم البتّة خروج مثقال حصاة من الجزيرة. في النّهاية وافقوا مكرهين. أعطوا الرّجل الأمان بشرفهم و شرف عشيرتهم أمام قومه ثمّ انطلقوا عائدين.
    ذبح الغريب الثّور. طوى الجلد. حفظه في متاعه ثمّ رحل بعد أن قاموا معه بواجب الضّيافة.
    انقشعت الغمامة التي كانت تغشى عيون أهل الجزيرة بعدما استلّ الجوع براثنه من لحمهم، عندها وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام عار مبين. و كان من عادتهم تدوين كلّ حدث جلل يمرّ بهم. قبل أن يسطروا حرفا واحدا في كتاب الجزيرة نزعوا إلى التّريّث حتّى يتدبّروا شأنهم.
    حول نار أمام دار الشّيخ تجمّع كبار القرية ليتباحثوا أمر خروج الجلد من الجزيرة. في الأخير اهتدوا إلى منفذ ينقذون به ما ظلّ متماثلا للإنقاذ من سوأتهم.
    مع بزوغ شمس اليوم الموالي كان على نسوة القرية قصّ شعورهنّ و تكديسها في ركن بالديوان القرويّ. عند هبوط الليل أحرق الشّعر سرّا.
    دُوّن الحدث في كتاب الجزيرة. تلا الكاتب النصّ في نسخته الأخيرة على الشّيخ و خاصّته في خلوة.. قرأ:
     " حلّ بالقرية سخط الكون بأسره فأحاط بالناس جوع مروّع لم يروا له مثيلا. عطفا بهم ذبحت الآلهة ثورهم الأسود و أمرت بحرق الجلد. جُمّع رماد الجلد و حفظ في قنينة، فهي في رفّ ببيت الضّيافة."
    أنصت الشّيخ باهتمام كبير للكاتب و هو يتلو وثيقة التطهّر. أومأ برأسه إيجابا ثمّ قال بنبرة رضا:
    - أقيموا حفلا بهيجا غدا في ساحة القرية..يحقّ لنا أن نفخر لأنّنا لم نخذل أبناءنا..
    أطلق زفرة ارتياح ثمّ أضاف :
    - كنت على ثقة بأنّ رجالنا المخلصين سيعطفون بالمصيبة نحو رواية يمكن أن تحدث.


    ***

    محمد فطومي