• الرئيسيّة

  • الأحد، 4 ماي 2014

    جنديّ / مناف كاظم ( العراق)



    عندما وصلت الى المنزل منتصف الليل التفت حولي كالأخطبوط . تركت الخندق الليلة ، وعدت اليها محاربا مليئا بالرغبة والتجدد ، اجهشت بالبكاء . لم افهم لماذا عندما تلمسني تفوح منها رائحة الارض . لبث الخوف بجسمي . هل انا متمسك بوجودها قربي ؟ لا ادري ؛ كانت سلاحي الذي يحرسني من شرور هذا العالم ، او ربما دمائي المتدفقة التي اواصل من خلالها  حياتي تحديا للحرب التي تطاردني منذ سنين لا اعرف عدها . ولكن ما يحدث اليوم اقرب الى ذهني من الذي حدث بالأمس . وكل هذا يتركني افكر بشيء ما اكرهه . امضيت وقتا طويلا احس بأن هناك ، في الافق البعيدة , اياما لا اكون فيها جنديا يسكن الخنادق في جبهات القتال , اعود لأرضي مزارعا بسيطا , مواصلا حياة خافتة كالماء , وليست مؤقتة كالزمن . اخرجت منديلها من بين الشراشف الحريرية  المرمية بالطرف الاخر من السرير الحديدي الذي يحتوينا ثم مسحت دموعها . ادركت حينها انها غابت في الطرف الاخر مني منتظرة حضوري او غيابي , لست ادري , لقد علمتني تلك السنين الموت بحضور الآخر. يملؤني الصوت الخافت , يخبرني فجأة , وأنا بين لحمها الدافئ :- (ستبقى مختبئا في دهاليز افكارك المشوشة مهددا بالقتل والدمار دائما بسبب اخطاء من أخطؤوا وأشعلوا نيران  الحرب عبر التاريخ ,بسبب رغبات السلاطين والملوك , والقادة العسكريين. انهض , ارتدي درعك المتروك قرب النافذة ثم افتح الابواب المقفلة الصدئة كي تصر صريرا يملأ الارض ضجيجا).
    (عندما كنت وحدي في انتظار مجيئك سمعت ضربات شرسة تكاد تحطم الابواب والنوافذ , احسست بالفزع يملأ كياني , ورأيت نفسي اركض هاربة من وحشة الليل ووجوه القتلة ,وأخيرا انتهيت بين ذراعيك , انتهى هروبي ولكن خوفي لم ينته) قالت هامسة بأذني . بقيت ارقب المكان متسائلا : للغرف الحجرية القديمة سقوف تملؤها العناكب، لا تحمي من يرفض قدره , رغم احساسي بأن الليل في هذه القرية حقيبة مسائية , مهيأة لرحلة مدهشة في عربات القطار المسطحة ذو السقوف البارزة الذي يجتاز الانفاق بطيئا كالسلحفاة , صاخبا كالحياة .
    قالت : ابق معي .... انا خائفة.

         وامتصنا الليل بين كائناته الصاخبة فأصبحنا اشباحا منفية في قرية نائمة . غير ان جسدها مكث بلا تراخ , ينحل ثم ينضح روائح تملأ رأسي احلاما طوال الليل ,ووجهها مازال متأرجحا امامي , فأرى نفسي اعتصرها قاتلا الصوت الصاخب الذي يحكم على حياتي بالفشل الدائم والهزيمة الباردة. و العمود في طرف السرير أخذ يخترق البياض الوهاج في وسط ثوبها . كان ابريق الشاي فوق المائدة . هذا المساء انا تائه , وعاد الحنين الى امي يقيدني ثانية.

          نهضت مرتديا ثيابي ببطء بعد ان امضيت وقتا طويلا مستلقيا قربها . لقد عرفت منذ سنين بأن الارض تشبه المرأة , كلاهما فم يبتلع الشعلة , تتقطع اوصالا فوق السرير , تمسك العارضة الخشبية ثم تقتل الرغبة العالقة بحافة قفل الباب المنتفخ . وقفت امام النافذة ابصر الخارج . كانت السماء غائمة يرتفع الرعد فجأة تاركا صمتا فجائيا متناغما مع زخات المطر الناعمة وهي تضرب النافذة . ربما الحقيقة رذاذ بلا بداية , وفي النهاية يجب ان يتلاشى خوفي الساذج من عدمية حياتي الموحشة . تلك هي الحقيقة اذن , ليست سوى رؤيتي الواضحة الان لخوفنا معا من الموت وهو يهددنا منقضا علينا دونما تحذير او اشارة خفيفة . ربما انا اعيش رغبة في تأكيد قضيتي الخاسرة , وربما يهزمني اليقين فأعود مستسلما للقتلة , تاركا لهم جسمي المغسول بالوحل . لماذا ؟ هل انا متعب ؟
          
    متى ابتلعتني الكلمات فأصبحت كائنا يتشظى بكل لحظة داخلا الى عالم غامض مثل عصفور صغير تعمد الهرب من الطيور الغاضبة غير المتوقعة , ثم يأتي الصباح , صوتا حزينا مطأطئا , مشدودا بشراهة صراعي . اعادتني رائحة ثوبها . ورأيتها , تبدو جميلة جدا , تبكي كلما تركت وحدها , كانت ادراكا بلا رغبة , ثقيلا لكنه لا يبقى . مرة اخرى اكتم غضبي داخل نفسي التي اعتادت القرف . فأصبحت وديعا كالحمل , مبصرا الليل والمطر الغزير الذي يغمر القرية , منتظرا اللحظة التي اقرر فيها خروجي تحت المطر , وأنا اسال (لماذا كل هذا الشقاء ؟).  




    مناف كاظم محسن  ( العراق)