• الرئيسيّة

  • الخميس، 17 أكتوبر 2013

    إحدى الفُتحات



    لا تخرج من بيتها لقضاء شأن بالحيّ إلاّ و ابنتها ذات السّنوات الثّلاث برفقتها اليد في اليد. لا يذكر متى رآها لأوّل مرّة. كانت كلّما مرّت بمحاذاته أولته اهتماما لا اسم له، خاصّا و كفى، خاصّا.. في جرأة تلميح خجول. تحيّيه أحيانا بنبرة دافئة. أحيانا أخرى كانت تمرّ دون أن تنبس بكلمة. تفتنه سمرتها و ملامحها الرّيفيّة الحزينة. ترمقه بنظرات مفعمة بالخواطر، تترك في نفسه وقعا لم يتقدّم في ذهنه قيد خطوة نحو تأويل أعمق، أثرا واحد لا يتغيّر، رغم زخم الصّدف التي يتقاطع فيها مسيرهما في الطّريق؛ هي تنصفه..هكذا قرّر. شعور يبعث فيه القوّة، تصاحبه صورة من وحي خياله يظهر له فيها عالم نفس يتحدّث بثقة في مضيّها نحو سخرية بلا شوائب، عن ميل المرء الغريزيّ لتصميم كلّ إحساس يفتقد إليه بشدّة، من العدم غالبا.
    اعتاد الجلوس على إحدى درجات سلّمه المُفضي إلى الشّارع مباشرة، ليدخّن. بالتّحديد الدّرجة التي تسمح له بمراقبة المارّة عبر فتحة فوق الباب. شريط ضوئيّ طويل و عريض، لا يبدو له كشاشة أو كعينين كبيرتين، كانت الفتحة في نظره حاجبين عفويّين من ضوء.
      كان إذا انتهى من سيجارته صعد بقيّة السلّم و دخل بيته، مُصفّقا الباب برفق. يخالجه شعور بأنّه ملاكم انقضت فترة استراحته و أنّ عليه الآن خوض جولة أخرى مع الضّجر.
    اتّخذ مكانه. أشعل سيجارة. يسلّيه أنّ أحدا من المارّة لا ينتبه إلى وجوده. عند منتصف السّيجارة مرّت من أمامه. التفتت ناحيته. اصطدمت عيناهما وسط غمرة دخانه. حوّلت بصرها بطريقتها التي تسحره و تجعل منها في نظره أكثر نساء العالم أحقّيّة بصفة أنثى؛ أن تُقطِّع استدارة بصرها قبل أن تحطّ أخيرا فوق موطىء قدميها، إلى لمحات خاطفة  كالوثب دون الإمعان في شيء مُحدّد.
    يصدّق يقينا أنّ الصّدفة هي التي غرّرت بها و جعلتها ترمقه بتلك النّظرات المرتبكة غير الجاهزة.
    فكّر: " سأرقبها حتّى تعود، إن عاودت الالتفات ، فهذا يعني أنّها تُحسّ بي كما تُحسّ امرأة برجل يعنيها."
    فكّرت : " أتراه إن أتمّ سيجارته ظلّ ينتظر عودتي. مؤكّد أنّ دخانه هو الذي يجبره على الجلوس هناك. لا شيء يستحقّ.. إن فعل فهذا يعني أنّه يحسّ بي كما ينبغي أن يعتني رجل بامرأة."
    زوجته لا تكترث لغيابه. في صورة الزّفاف المُخبّأة في خزانة الملابس يبدو سعيدا، أمّا هي فباستطاعة أيّ كان أن يقرأ على ملامحها علامات الرّضوخ إلى سنّة الحياة. اجتماعهما في الفراش أصبح في نظرها قرفا موسميّا. ما من إحساس جانبيّ يتخلّله. دعاباته التي يلقيها على مسامعها كلّما تقاطعا في أحد أروقة البيت الضيّقة، على سبيل شحن الجوّ العائليّ بالحرارة الضّروريّة لنشأة نفسيّة متّزنة للأولاد، تقابلها هي بعبارات جادّة من قبيل : " لا أحد بإمكانه أن يدفع الموت إذا حضره.." أو " الواجب هو الواجب"...
     انتهت المرأة من مُشترياتها.
    زوجها في المقهى. يعشق الكلام في السّياسة مع أصحابه. كلام فيه مواقف و حلول يتبارون في تعديدها. خطب صغيرة، ساخنة، مُفعمة بالغيرة على مصلحة الوطن. غالبا ما تجعلُ  المُستجِدّاتُ الواحدَ منهم يتمنّى لو أنّ الآخرين قد نسوا ما قاله بالأمس في استباقها..ألغى كلّ ما يمكن أن يُؤاخذ عليه الرّجال: الخبز و التّخلّص من القمامة..بقي أن تسيل الحياة بهدوء..و ذاك دورها.
    شارفت الشّعلة على التهام كلّ التّبغ الذي في اللّفافة.
    فكّر: " لا أجهل...أيّ مأزق!"
    فكّرت :" أعرف...أيّ مأزق!"
    لنا الثّرثرة و للدّنيا الخلاصة..موسيقى عذبة تملأ الهواء، يشعر أنّه يتنفّسها..لامست مكانا سرّيا في قرارتها..
    لن تمرّ المرأة من أمام الرّجل الذي لن يكون بانتظارها.



    محمد فطومي

    15/10/2013

    الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

    أب جالس على كرسيّ

    heures, à proximité de Tunis


    ***

    شفتان مُطبقان لا تخفيان أنّه فقد جلّ أسنانه.
    يجلس على كرسيّ، مُعتمدا على السّاقين الخلفيّتين. ساندا ظهره إلى الجدار.
    الشّعور بالفخر باد على ملامحه و هو يتأمّل من الضفّة الأخرى للشّارع محلّ ابنه الفخم لبيع التّجهيزات المنزليّة و المكتبيّة بجميع أنواعها.
    أمام المحلّ تربض سيّارة .عيناه لا تغفلان على المحلّ.
    في أيّة لحظة قد يدعوه أحد الموظّفين بالدّاخل لقضاء شأن من الشّؤون أو لإحضار غرض من أحد الفروع الأخرى.
    عند انتهاء الدّوام، سيركن السيّارة في مستودع قريب من المحلّ، و سيركب درّاجته الهوائيّة المتهالكة المشدودة بقفل إلى شجرة .

    ***
    محمد فطومي / 1-10-2013
    J’aime ·  ·