• الرئيسيّة

  • الجمعة، 25 ماي 2012

    العمر و الصّبر هما ضريبة العثورِ على قرّاءَ مُنصفين. وهما أيضا ثمن العثور على مُبدع حقيقيّ.



    القصّة القصيرة الجيّدة نصّ أدبيّ له شخصيّته التي يتفرّد بها ،يزوّده كاتبه بوقائع من ترتيب خياله.و هو منجز تبرّره رغبة حادّة و ملحّة من صاحبه في  احتضان كلّ النّاس دفعة واحدة و الاحتماء بهم من الذّات و شرورها و من شرورهم و من عجزه و من العجز و من أمنياته العجيبة و من مرض الموت و من هاجس الجمال و من سنّة الحاجة و من الوجود بأسره.
    و  نصوص تحمل بين طيّاتها مثل هذه النّوايا ،تظلّ للأسف الشّديد صغيرة في عيون الأدباء المزيّفين غير المُغامرين . أمّا أهل السّياسة الثّقافيّة فيعتبرونها في أفضل الأحوال مصادفة سيّئة.
      و  التيّارات الرّديئة ، المفرغة من الدّهشة ، المصمّمة لتخفيف وطأة الفقر الإبداعي بذريعة التّجريب و الانفتاح على الشّعر ، غير الواعية بأنّ الإمتاع فلسفة قبل أن تكون الفلسفة مجال ممتع،تغشي المشهد الأدبيّ و تُراكم قشرة عنيدة من الفوضى و الجدل العقيم  قد تُكلّف  الأديب الجيّد عمره في إزاحة قسم صغير منها 
    كي تتنفّس أعمالُه قرّاءَ منصفين.

      و لن يحقّ لنا  الجزم بأنّ القصّة القصيرة قد تجاوزت محنتها و بلغت مرتبة من الوعي بالهمّ الإنسانيّ المشترك و قدرة على اختراق العادات و تحديد العلل و الأزمات البشريّة الحقيقيّة ،  إلاّ إذا أصبحت تحظى بما يشبه ضرورة و خطورة مناشير التّعبئة الشّعبيّة أيّام الحركة النّضاليّة.

    ***


    محمد فطومي
    25/5/2012

    الخميس، 24 ماي 2012

    الشّريط القصير و الأقصوصة




     الشّريط السّينمائي عمل مركّب يخضع لمنطق مرحليّة الإنجاز و تجميع المقاطع  ،و هي عبارة عن مهمّات موزّعة على اختصاصات متعدّدة : كوافيير،مؤثّرات و خدع، ملابس، سيناريو، إضاءة، تصوير، تمثيل،هندسة صوت، مشاهد،مونتاج إخراج.. لنحصل في الأخير على وحدة  فنّيّة سمعيّة بصريّة مترابطة العناصر و المكوّنات، مشكِّلة مقترحا ثقافيّا معرفيّا مسلّيا ،بديلا عن تحصيل الفكرة عبر القراءة من كتاب ورقيّ.
    لكنّ السّؤال الذي يقحم نفسه وجوبا  :هل الأقصوصة هي المادّة الأولى للشّريط السّينمائيّ القصير بالضّرورة ؟
    هل يمتلك السّيناريو خاصّيّة النصّ الأدبيّ الأصليّ فيُغني عنه أو يُقصيه ؟ أي هل بإمكاننا أن نبدأ التّصوير مباشرة انطلاقا من مرحلة التّلقين و إسداء التّعليمات دون المرور بما يسمّى النصّ المؤسّس ؟
      و هل من مبرّر للقطيعة بين صنّاع الشّريط القصير العرب و بين كتّاب القصّة عدا أن يكون هناك خللا في تسخير النّصوص الأدبيّة لخدمة الدّراما ،و انعدام ثقة من جانب السّينمائيّين تجاه القاصّين،يقابله عدم فهم من جهة القاصّين لما هو مطلوب منهم في عصر باتت تسيطر عليه الصّورة ؟ .. إنّ ما تستخلصه و أنت تقرأ لهذا و تشاهد لذاك ،هو أنّ الطّرفين لم يلتقيا بعد ! تماما كأن ننكر على الشّجرة بأنّها الطّور الأوّل لقاعات جلوسنا و غرف نومنا ..المؤسف هو أنّك إذا سألت السينمائيّين عن سبب تجاهلهم للإنتاج القصصيّ بصورة عامّة و لافتة لقالوا  بأنّه لا يرتقي لمستوى التّجسيد الحركي المُثير لشهيّة التّحويل.في حين أنّ الأزمة الحقيقيّة هي أزمة قراءة و بحث و اطّلاع و مغامرة و مبادرة، و الأصل في الأشياء إذا أردنا البرهنة على ذلك ،أنّه لم و لن يأتي على الإنسان حين من الدّهر خلا أو سيخلو  فيه من المواهب الحقيقيّة المبدعة الخلاّقة التي تستحقّ المتابعة.
     بلى ثمّة نصوص قصصيّة جيّدة و هي على قلّتها تضيء الجانب الإنسانيّ في الإنسان و تجادله و ترصد الحدث الغريب و تقدّم التّشويق و الدّهشة و تفتح بابا آخر من أبواب الحيرة الّلذيذة الهدّامة للمتداول و الجاهز و تطبع في الذّاكرة أثرا بحجم ردود الفعل و الآثار النّفسيّة التي شكّلت ملامح الشّخصيّات..و إذا تجاوزنا مسألة ضعف الإنتاج  السّينمائيّ أصلا فمن باب أولى و أحرى إذن أن نشتري الدّواء من الصّيدليّة لا من المخبزة ، و أن نتحدّث عن انتقاء لا عن حلول بديلة . قياسا فإنّ على صنّاع الشّريط القصير هواة كانوا أم محترفين أن يبحثوا غير بعيد.
       أمّا كتّاب القصّة و بما أنّ موضوعنا أشبه بترتيب لقاء بين قمّاش و بين مصمّم أزياء،فإنّنا كقرّاء لهذا و متابعين لذاك نلاحظ أنّ بإمكان هؤلاء تزويد المشهد الدّرامي بأعمال ممتازة بل و تنشيطه ، بشرط أن يقدّموا مادّة تحترم مبدأ الحياد و نقل المفارقات الحارّة و الوخزات الدّقيقة و الهزّات العنيفة بصدق و اختصار و بساطة من خلال استعمال أسلوب الإيحاء و الإشارة و ترك فراغات دلاليّة تمكّن القارىء من مواصلة عمليّة التّفكير فالقضيّة إذن هي قضيّة استدراج للأبصار لا توجيهها .
         المسؤوليّة مشركة  فالسّينمائيّون مقصّرون في البحث عن المدوّنة المناسبة لأعمالهم معوّلين فقط على السّيناريو.
     و  جلّ كتّاب القصّة قد زاغ إمّا بذريعة التّجديد أو الجهل أو التّطفّل عن كتابتها بالشّكل المرغوب و نسي أو تناسى أنّ القصّة القصيرة هي أن تذيع نظريّة من خلال إلقاء نظرة..حتّى أنّ المشهد  الأدبيّ  اليوم في أغلبيّته أصبح عبارة عن منافسة بين الكتّاب أيّهم يصنع أفضل و أسرع منحوتة مرصّعة بالحكم و الأشعار و المجازات و التشابيه المتكلّفة و الاستعارات.لست ضدّ توظيف الأساليب البديعة في الكتابة لكنّي لا أعتقد أنّنا سنختلف حول خطورة أن يصبح الزّخرف غاية في حدّ ذاته فتضحي القصّة القصيرة لوحة مشعّة بالألوان و مساحة يمسح فيها القاصّ فرشاته لا أكثر. 
     إذن و إلى أن يغيّر كتّاب القصّة ما بنصوصهم فليستمرّ صنّاع الشّريط القصير في الارتجال و التّلفيق.




    محمد فطومي
    22/5/2012


    الاثنين، 21 ماي 2012

    في ركن الرّكن ..











    ففي عالم كهذا تظلّ البدايات مصلوبة دون رحمة في صقيع 
    وحدتها و خوفها ،دون عزاء

    عبد المنعم حسن محمود


    ***

    غير صائب دائما أن تبرّر الغاية ُ الوسيلة..إذ قد  ُتبطل غاية ما وسائل أُعدّت لغايات أخرى لم ننتبه لها

    / محمد فطومي 



    حواريّة الضّفاف السّمراء



    بنيّة حبّ / عبد الفتاح بن حمودة
    ضفافٌ سمراء / محمد فطومي


    بنيّة حبّ

    لم تأت الجميلة السّمراء في نومه الأوّل،
    لذلك لم يأت الّليل الذي ينتهي بسرعة البرق،
    لذلك بحيرة الشّاعر تصعد و النّاس نيام.
    لذلك هو الشّاعر الصّغير...
    و هاهي بحيرته السّكرى تتساقط مع النّجوم.

    ****
    ضفافٌ سمراء

     على ضفاف البحيرة حيث العالم قبضة في أيدينا، جلسنا نوزّع الأدوار على الكائنات.. قالت كم هي جميلة تلك الفراشة،سأنصّبها ملكة على الطّيور..غمرتني ألفة
    فركضت خلفها..كانت كلّما دَنَتْ من الأرض فرحتُ و رجوتُها  في نفسي : توقّفي ..أرجوك توقّفي و لا تخافي..ستحبّين أناملها الرّقيقة القمحيّة أكثر من الحرّيّة.. صدّقيني..!
    حطّت على غصن ميّت .القيظ شديد . حاولتُ الإمساك بها .ثمّ بخفقة واحدة من جناحيها  أفلتت و علت من جديد و لم يبق في أصابعي سوى أصباغ الجناحين .لم أكن أدري أنيّ ابتعدت كثيرا . حين عدت  إلى ضفّة البحيرة لم أجد رباب و لم أجد ماء البحيرة.. أدركت فورا أنّها في قبضة العالم .
       الّليلة الأولى التي  لم تزرني فيها أثناء نومي، لعقتُ أصباغ الجناحين العالقة على أطراف أصابعي بعدُ، فتناقصت قامتي و نبت لي جناحان و صرت خُطّافا..طرت أبحث عنها حيث ينبغي أن تكون..لم أجدها .
    ثمّة فراشة سمراءُ كلّما مرّت قرب نافذتي وقت السّحر،هطلت أمطارٌ أعرفُ طعمها و لا يبتلّ لها ريشي..
    لا أدري لمَ يزورني إحساس بأنّها ربّما البحيرة التي سُرقت منّي السّمراءُ على ضفافها ذات قيظ ، هي التي تتساقط ؟
     
                                                                                                            


    7/9/2011

    السبت، 19 ماي 2012

    برقيّة الهزيع الأخير



     

    قد أكون ظلمت الظّلم الذي في بريق عينيها
    عندما فسّرتُه بمشيئتي
    لكنّي عادة لا أقوى على تجاهل الصّور الملحّة
    فكلّما تخيّلتُ أنّي المعنيُّ
    بالعتاب الذي في شفتيها
    لعنتُ المسافة و لصوصَ الطّريق بيننا..




    محمد فطومي
    18/5/2012

    إليك يا حياة!




                                                     قصّة :موريان
                                                  تعريب : محمّد فطومي



    فركت ذاكرتها على الحجارة الكريمة لإرادتها ، دون جدوى..
    عيناه تثقبان نظراتها.تجرّدانها سترتها و منديل رأسها.تفتّشان في ما بعد الوئام و تربكان قرارها بالنّسيان.
    زمّت شفتيها.لكنّ الخطوط المحكمة الباهتة في تفاصيلها باتت لا تكفي.ثمّ إنّها تسمع الآن صوتها يضيع وسط صدى عجيب ، ساحر.فكّرت أنّه من الضّروريّ ربّما أن تحطّم صدغيها كي تهنأ أخيرا بالصّمت وسط الصّدى.
    دون فائدة.
    منذ كم سنة حاولتْ أن تخدع سماءها الملبّدة بالضّغينة. كم من جرعة وهم أحرقت فَمَهَا؟كم اختُطِفَ جسدها من مرّة و كم التقفته أياد مبلّلة،مقيّدة بأياد مالحة أخرى ؟ من أجل من كان عليها أن تظهر كالورد المرسوم على قماشة من حرير ،قماشة لا تُشبه شيئا سوى نشوتها العنيفة؟
     سكبت حبر الّليل على ابتسامتها التي لا يغادرها الموت أبدا.
    صارخة،مزّقت بضربة من مشرط حارّ خيطا ظلّت حياتها تُوتِرُهُ.
    كان هناك. 
    صوّبت نظراتها نحو عينيه.
    " افتحي ذراعيك  يا حياة ! "





                        كاتبة فرنسيّة                                                                      8/5/2012

    الخميس، 17 ماي 2012


    نذرتُ هذا الصّبا قربان آونة
    يلتقي فكرك فيها كلّ تفكيري
    .
    آمنتُ يا سمراء بعد ضلالة
    الغنج أسمر ..و الهوى..قُل أسمرُ..

                  ***         
    وصفي قرنفلي

    لا شيء يُبكي المهرّج



     

    رخامة البار
    الإنارة الخافتة
    مدفأة الخشب.
    و الخشبُ
    البيانو الأبيض السّاهي في الرّكن
    و الخناجر المتناظرة على السجّاد
    لا تؤنس الضّيف،ريثما تجهز القهوة..
    هنا بالتّحديد و وقتها بالذّات
    أيقنتُ أنّ بإمكان المرء أن يكون
    جسما عابثا بين الأشياء المهذّبة
    المأدّبة المهيبة في صالون العزيز
                ***  
    لمّا وضعتْ السيّدة القهوة أمامي
    نسيتُ لوهلة من كلّفني بالمهمّة
    البحر أم البحّارة ؟
    النّار في بيت العزيز أليفة كقطّ
    و زوجة العزيز غاية في الّلطف
    لوهلة ردّدتُ  في نفسي:
    إلى الجحيم البحر و البحّارة
     الأضداد هنا تغريك بالبقاء و التّواطىء
    و نعومة المشهد خلف النّافذة
    تُخمّر دمك و تُلهيه عن البؤس قليلا
    لا شيء يحتجّ هنا
    حتّى الأراجيح في العراء حول المسبح
    تبدو قانعة في بيت العزيز
    و كلّ أثاث القصر مُطيع ككرسيّ تعذيب
    في مكان كهذا يستحيل
    أن يعبق في ذاكرتك كُحولُ الميناء
    وحدها القهوة هنا ربّةُ الحواسّ
                ***
    نطقتْ السيّدة:
    لو أثنيتَهُم قبل أن يَغضبَ العزيز
    و قالت :أستغرب..ألم تعتادوا خشونة الحبل بعدُ؟
    قلتُ بعصبيّة :
    لا تقيسي سيّدتي
    لا أحد و لا زمنَ يعتادُ ندوب الحبل
     فأضافت كلاما آخر..
    خبّأت ظرف النّقود في جيبي
    لمّا لاح لي أنّي ذيل سحلية يستمرّ
    في التّمويه بعد موت السّحلية
    بكيتُ
    لكن حين قالت كلاما آخر
    صرتُ دمية مهرّج
    معلّقة على جدار الصّالون
    في بيت العزيز
             ***
    هيأتي الجديدة المهيبة تُعجبني
    فهي تحمل صورا ملوّنة لمراكبَ صيد..
    و لا تُؤنس الضّيف
    كيف أغادرها و هي
    لا شيء يُبكيها..كيف.. ؟


    محمد فطومي
    17/5/2012



    حياة الشّاعر يجب أن تكون بسيطة إلى درجة تجعل المؤثّرات الأكثر بداهة قادرة على أن تسرّه..مرحه يجب أن يكون ثمرة شعاع ، عروقه في الشّمس.آنئذ فقط سيكفيه الهواء ليكون رحب الصّدر،و سيكفيه الماء ليثمل.
                                       
    امرسون  - EMERSON
                              تعريب:محمد فطومي

    الأربعاء، 16 ماي 2012

    على درب المارّة الطيّبين


    نحن قوم لا نتفاءل حتّى نجوع
    أسرّ لي الرّجل الذي يراقب المارّة
    و لا أحد من المارّة يعيره نصف التفاتة
    و قال لي أيضا :
    أشفق على الصّفصافة الوحيدة
    لأنّ حزنها حزين،
    ربّما لذلك لا أواسيها
    ثمّ تلاشى الرّجل كفكرة
    الحرّيّة و الرّجالُ الحقيقيّون فكرةُ أنبوبٍ
    ترقد في مختبر الجماعة
    و الجماعة يملكون الأرض و من عليها
    و من عليها لا يملكون سوى أمنية
    أن لا تعبر ريح غريبة
    فتذوي الفكرة من مختبر الجماعة
    أفهم قومي المتفائل جدّا..
    و لي أمنية فوق أمنيتهم :
    أن ألتقي الرّجل المريض مرّة أخرى.

    الأربعاء، 9 ماي 2012

    ملابسنا السّوداء الجميلة



    قصّة : مارين سرفيرو
    تعريب محمّد فطومي 



        "إيليان" في المطبخ تغسل الأواني باذلة ما بوسعها كي لا تقرع الصّحون فتستيقظ البنات..
    في التّلفزيون شريط وثائقيّ مشوّه بالومضات الدّعائيّة،أتناول جهاز التّحكّم و أطفئه.على أيّة حال كان لابدّ أن أقطع الصّوت كي لا أوقظ البنات.
      تصفّف "إيليان" آخر كأس و تلتحق بي في الصّالون.يداها مجعّدتان بسبب انغماسهما في المغطس طويلا؛ تتأمّلني.
    عشرون عاما من الزّواج غيّروها كثيرا.تضع مآزر للمطبخ ،و قبّعات للخروج.لم تكن تفعل ذلك عندما كنّا مخطوبين.
    دقّت السّاعة.تصعد السلّم .أتبعها.
    نصعد على حافّة العتبات حتّى لا تُصدر صريرا؛نخشى أن نوقظ البنات.
    تدخل " إيليان " الحمّام لتغيّر ملابسها.لم تعد ترغب في الظّهور أمامي عارية؛تقول بأنّ العمر فعل بها هذا.
    أرتدي ملابسي في صمت .بالمناسبة؛إنّها الملابس السّوداء عينها.تلك التي لا ألبسها إلاّ نادرا؛تصاحبني منذ عشرين عاما،لكنّها مازالت تحافظ على ألقها كأنّها جديدة.
    سنخرج هذا المساء.
    سنشاهد مسرحيّة.
    لا نخرج أبدا تقريبا.لأنّ علينا دائما أن نعتني بالبنات.لكنّنا اليوم سنخرج ؛ فهنّ  نائمات.
    تظهر " إيليان " أمام الحمّام بفستانها الأسود  و حليتها الفضّيّة.أقول لها بأنّها أنيقة.تبتسم،رغم علمها بأنّي أقول ذلك من باب التّهذيب.نلقي نظرة على غرفة البنات عبر الباب الموارب قليلا.النّافذة مفتوحة على مصراعيها و الضّوء الجليديّ للقمر يخترق السّتائر و يسيل فوق أجسادهنّ الشّاحبة. وديعتان. عاريتان. أجسادهنّ البيضاء تحف فنّيّة أروع و أنقى من أن يطيل المرء التّحديق إليها. جميلات بكلّ لغات الدّنيا.
    تحسب أنّك تسمعهنّ يتنفّسن .
    إنّهنّ حقيقة.
    تسرّب لهنّ الموت و هنّ نائمات منذ عامين.لكنّهنّ حقيقة.و غرفتهنّ ما زالت تضجّ بالحياة،و أحيانا تتراءى لي صورة نهودهنّ العارية تعلو و تهبط على إيقاع تنفّسهنّ الرّقيق.
    تنزل " إيليان " السلّم. أتبعها.
    نخرج و نطبق الباب خلفنا بهدوء كي لا نوقظ البنات..



                                                                                                    8/5/2012

    الخميس، 3 ماي 2012

    التّوقيع




    كان الكتابَ الوحيدَ وسط مجموعة من المجلاّت المعروضة على قارعة الطّريق..      
    تناوله بين يديه." حصار طروادة ".هكذا كان عنوان الرّواية.حدّث نفسه تحت النّظرات القلقة للبائع بأنّها ربّما الفرصة الأمثل ليلتحق أخيرا بركب زملائه الشّعراء الذين يتكلّمون عن جلجامش و عن الأوديسة كما عن بيوتهم و الذين لا تكاد تخلو قصائدهم من آلهتها و رجالها و جميلاتها. يتصوّر و لا يودّ أن يتخيّل كيف ستكون ردّة فعلهم لو فطنوا بأنّ قدوتهم المثقّف الموهوب الذي تتبخّر آمالهم في الظّفر بالجائزة الأولى أو بآذان صاغية على الأقلّ،إذا أطلّ هو قادما من بعيد ،متأبّطا حافظة أوراقه السّوداء، يجهل كلّيّا تفاصيل الملحمة الأكثر بداهة و توظيفا.ستكون مداركه محلّ شبهة فضلا أنّ العديد منهم سيشكّكون بأنّه هو من يكتب تلك القصائد أصلا.العقدة ذاتها تسكنه تجاه مؤلّفات شكسبير و المعرّي و آخرين لم يسمع عنهم من قبل.يُصاب بالإحباط حين يردّد الشّعراء أسماء هؤلاء في النّوادي و الملتقيات الأدبيّة و في الشّارع أيضا و هم يسيرون جماعات جماعات غير عابئين بالعربات.يسمع باستمرار مفردات تتكرّر في تلك الأوساط بكثرة؛السّرياليّة و الزّمن الإبستيمي و قلق التّسمية و غيرها من العبارات المبهمة،يتراشقون بها في سياق الحديث كما لو كانت حواجز لابدّ من تخطّيها كي تكون جديرا بالعيش فوق جزيرة الشِّعر..لم يقرأ بيتا واحدا لأدونيس ،و حين يحتدّ النّقاش بين الأصدقاء في المقهى الأدبيّ أو في الأمسيات كان يلوذ بالصّمت  و ينتابه الضّيق  و رغبة في المغادرة و شعور بأنّ عناده لن يدوم طويلا و بأنّه سيضطرّ صاغرا لتعلّم لغتهم..و كان كلّما حدّث نفسه بأنّه بالضّرورة مخطىء و أن لا بطولة في الجهل على أيّة حال،أشرقت في قرارته خاطرة كالوميض ؛عندما كنّا صغارا 
    ،كان دائما صاحب الكرة هو الأكثر رداءة بيننا.

       دفع ثمن الكتاب و انصرف.تمنّى لو أنّ الكتاب قد صُدّر بمقدّمة تحوصل ما جرى في الملحمة،أو تشير على الأقلّ إلى بعض العلاقات ببساطة و اقتضاب.قال :سأقرأ فقط ما يجعلني قادرا على فتح فمي الّلعين و التّعليق بكلمة كلما عرّجوا نحو طروادة.في انتظار البقيّة.
      لم يشأ أن يفتح الكتاب إلاّ و هو مسترخٍ في بيته.أخذ الرّواية إلى الشّرفة؛في الأسفل باعة البنزين المهرّب يتمازحون بالأجساد . تناهى إلى مسامعه أنّ أفضل دفعة سيّارات نقل أنتجتها اليابان هي دفعة سنة ألفين و تسعة،و أنّ بلادنا لديها أسوأ خدمات اتّصالات في العالم.
     قلّب الصّفحة الأولى بحثا عن التّصدير.فوقعت عيناه على 
    أسطر مكتوبة بخطّ اليد كالإهداء أو ما شابه.

    قرأ:

    " إليك بالتّحديد أيّها المالك الجديد.
    أكتب هذه الأسطر و أنا أستمع إلى أغنية " شارل أزنافور " Hier encore j’avais vingt ans :
    بالأمس كان عمري عشرون. .

    البارحة احتفلت بعيد ميلادي العشرين ،لم يأتِ أحد من الأصدقاء الذين دعوتهم..اليوم عمري عشرون و يوم،أمر مضحك..ههه ،بوسعي أن أقول أنا أيضا :بالأمس كان عمري عشرون..ههه.
    هنا الغربة قاتلة و لا أحد يحاكمها.
    مارساي
    صيف 1970"


    قرأ الفقرة مرّات عديدة قبل أن يضع الكتاب جانبا.
    في رفّ الكتب ظلّت حزمة كبيرة من صفحات الملحمة كما هي،ملتصقة بالشّامبانيا.


    ***

    محمد فطومي
    30/4/2012

    الأربعاء، 2 ماي 2012

    ماذا بعد؟




    كم هو لطيف أن تمرّ بعجوزين فتجدهما قابعين بجانب بعضهما.يراقب العجوز كلّ ما يتحرّك حوله ،أمّا هي فتغزل الصّوف و تنظر إلى بياضه و في عينيها حذر و رقّّة.مرّت ساعة،التحق بهما ابنهما الأكبر.اقتعد الطّوار.تعلّقت عينا الشّيخ بأطفال يقتلعون زهيرات    و يتصايحون ،ثمّ ما لبث أن قام من كرسيّه الأسود و دخل إلى البيت مهدّدا إيّاهم بعصاه.قفز عامر على الكرسيّ و بادر يسأل أمّه عن حال أبيه.
    توقّف مغزلها لحظة و أخبرته أنّ العشاء جاهز و تناهى إلى مسامعها الشّيخ يسأل عن السجّادة.دخلت تجرّ ساقها جرّا .حين عادت لم تجد عامرا.
     بحركة خبيثة من عينيها،تراءى لها رداء تلوّح من ورائه شابّة تسير بثبات و عنق مرفوع.قبّلت يد أمّها و يد أبيها و جالستهما.
    باهتمام سأل عنها أبوها و يداه مطبقتان على بعضهما ثمّ سكت،منذ ضاعت الأرض       و رأس المال صارت جفونه تتحرّك لا إراديّا.ناولته ابنته صحن بطّيخ،غطست اليدُ في الصّحن و سقطت القطعة من يده المرتعشة و تساقطت القطرات على الصّوف الأسود النّاعم.أزالت العجوز ما فسُد منه و واصلت عملها و لكزت ابنتها أن تأخذ الصّحن من يده.اشتهى الشّيخ قطعة أخرى لكنّه مدّ الصّحن مذعنا،و تعالت من فمه كلمات الحمد      و الاستغفار و قام للصّلاة.تبعته العجوز و لحقت بهما "ثريّا". أخبرتهما بخصومتها مع زوجها،و اختنق صوتها .قدّمت لها العجوز الشّاي و رصّت يدي الشّيخ على الكأس.
    ظلّوا يتحدّثون طويلا.
    عند الفجر قبّلت ثريّا يدي أبيها و أمّها و خرجت قاصدة بيتها.وضعت الرّداء على رأسها فتناهى إكليلَ شوك بدأ ينمو و ينتفخ و هي تمشي..حاولت أن تتملّص،لكنّه كان أكثر حرّيّة و نفوذا من 
    نور الشّمس.


    فاطمة فطومي 
    2/5/2012



    فاطمة فطومي
    2/5/2012