• الرئيسيّة

  • السبت، 31 ديسمبر 2011

    سقف




    باغتهم البَرَد..ارتبكت الشّوارع ، و اختلطت أصوات المنبّهات بإيقاع الوابل يدكّ السيّارات.
    زاد السوّاق من سرعتهم يطلبون المخابىء،و ثمّة بين عقلاء الصّحو من جاوز على اليمين.
    ثمّ فجأة توقّف الجميع .
    أمّا الكبار فقد غطّوا رؤوسهم بأيديهم ،و أمّا الأطفال فقد غاصوا تحت الكراسي..و ظلّوا كذلك في العراء حتّى همدت الغيمة.
    و حين انطلقت العربات المحتمية بقنطرة المفترق الرّئيس انطلقوا..


    محمد فطومي

    مباراة البلياردو/ ألفونس دوديه



    قصّة لـ : ألفونس دوديه
    تعريب : محمد فطومي


    La  partie du billard


      قاتل الجنود ليومين متواصلين و أمضوا الّليلة بحقائبهم على ظهورهم تحت مطر غزير. كانوا منهكين جدّا،مع ذلك أُهملوا لثلاث ساعات حاسمة و قاضية ذاقوا فيها الغمّ و المحنة و النّهاية.أسلحتهم بين أرجلهم موضوعة على بِرك الشّوارع الكبرى و وحل الحقول المبلّلة.
    مثقلين بالتّعب طيلة الّليالي المنقضية بأزيائهم التي امتلأت بالماء،التحم الجنود و التصقت أجسادهم بعضهم ببعض بحثا عن القليل من الدّفء و الأمان..و ثمّة منهم من نام واقفا متّكئا على حقيبة صديقه الذي يحاذيه،و الكلل و الحرمان باديان على وجوههم الذّاهلة المرتخية بالنّعاس.المطر و الوحل.لا نار.لا حساء.السّماء قريبة و سوداء و إحساس مرعب بأنّ العدوّ يحوّم حولهم.كان ذلك حزينا..
    ماذا نفعل؟ماذا يجري؟
    أفواه المدافع المصوّبة باتّجاه الغابة تبدو كأنّها تتربّص بشيء ما.و الرشّاشات تحدّق في الأفق بثبات.كلّ شيء يوحي بهجوم آزف.فلم لا نهجم؟ماذا ننتظر؟
     الجميع بانتظار الأوامر و مقرّ القيادة العليا للحربيّة صامت.لم يكن المقرّ بعيدا على أيّة حال.إنّه ذاك القصر.قصر لويس الثالث عشر،ذو الطّوب الأحمر المغسول بالمطر و السّاطع بين الأجمات.إقامة ملكيّة جديرة فعلا بأن تحمل شرف احتضان واحد من أهمّ ماريشالات فرنسا.
    وراءهم كان هناك خندق و منحدر صخريّ يفصلهم عن الطّريق.الأعشاب الغضّة ترتفع مستقيمة فتخفي عتبات المدخل.كانت خضراء بلون واحد محفوف بالزّهور.
    في الجانب الآخر،أي من الجهة الخصوصيّة للمنزل أشجار تتخلّلها ثقوب ضوئيّة .و حوض الماء أين يسبح البطّ هامد كمرآة.و تحت السّقف في واجهة القصر غرف متجاورة ضخمة صمّمت خصّيصا لتكون مطيرة تؤوي إليها طيور التّدارج و الطاووس.و كانت صيحاتها تملأ المرج .
      إذّاك لم يكن شعور الجنود بالاندحار مسيطرا تماما على عقولهم ،مادام ليس هناك بعدُ ما يُفسَّر على أنّه :" دعوا كلّ شيء و تراجعوا!".فالرّاية لازالت تحمي أصغر زهرة في الحديقة،و إنّه لأمر مدهش حقّا أن يخيّم ذاك الهدوء المطمئن قريبا جدّا من ساحة المعركة.تلك السّكينة التي أبدعها التّرتيب المحكم و انتصاب الأجمات على خطّ واحد مستقيم و غرق الشّوارع في حالة من العدم.
    و المطر الطّائش الذي ما انفكّ يشكّل وحلا أشعث على طول الدّروب و حفر أخاديد عميقة هنا و هناك لا يمثّل في الأصل سوى فيضان أرستقراطيّ ،أنيق و مسؤول ،و عابر في الأخير،مهمّته تلميع الطّوب و الزّيادة في بريق الّلون الأخضر و غسل أوراق البرتقال و ريش البطّات البيض.الوضع جيّد و الأمور تسير كأفضل ما يكون.
    و حقّا لولا العلم الذي يرفرف فوق قمّة السّطح و الجنديّين الواقفين بانتباه أمام الباب الحديديّ المشبّك للمبنى ،فإنّ أحدا لن يصدّق بأنّ الذي يشاهده مقرّ القيادة العليا للحربيّة.
    الخيول ترتاح في الإسطبلات.و هنا و هناك بإمكانك أن تلتقي عمّال النّظافة أو تعثر على وثيقة أو مرسوم يتسكّع في محيط المطبخ أو يعترضك بستانيّون برفوش و سراويل حمراء يمشّطون تربة السّاحة الرّئيسة بعناية و سلام.
    و عبر شبابيك قاعة الأكل على الجانب الخلفيّ من القصر يمكنك أن ترى بوضوح مائدة نصف مجلوّة.قوارير مفتوحة.أكواب فارغة و شاحبة و مصبوغة بالشّراب ،و لحاف الطّاولة المشوّش يخبر بأنّ حلقة عشاء قد انفضّت قبل قليل.
    من القاعة المجاورة يصلك حديث صاخب و قهقهات و ارتطام كرات و كؤوس..كان الماريشال يخوض مباراته،لهذا السّبب لم يتلقّ الجيش الأوامر حتّى تلك السّاعة.حين يقرّر الماريشال أن تبدأ المباراة فلا مشكلة إن أطبقت السّماء على الأرض.ليست هناك قوّة في العالم تمنعه من إنهائها.
    نقطة ضعف رجل الحرب ذاك كانت البلياردو،و هاهو هنا بملامح صارمة كما في المعركة تماما.بدلة ضخمة.صدر عريض موشّى بالأوسمة.عينان تومضان و وجنتان ملتهبتين بفعل نشوة العشاء و الّلعب و المشروب الرّوحيّ.يحيط به مساعدوه في الحرب.رجال محترمون و مفعمون بالإعجاب عند كلّ ضربة ينجزها.عندما يوفّق الماريشال في إحداها فإنّهم يهرعون لتسجيلها و عندما يعطش فإنّهم يتسابقون فيما بينهم لتحضير شرابه.
    و بالنّظر لرنين الصّفائح و الأوسمة و الإبر و القطع المعدنيّة و لكلّ تلك الابتسامات الوديعة و كلّ ذلك التّوقير من جانب المتودّدين و كلّ تلك الغرز التي ترصّع الأزياء الرّسميّة الجديدة،و في تلك الصّالة المؤثّثة بخشب البلّوط المطلّة على المتنزّه و ساحات الشّرف فإنّك بلا شكّ ستتذكّر خريف مقاطعة "كومبيانا" .
    غير بعيد ترزح معاطف ملوّثة تحت المعاناة.هناك على امتداد الشّوارع توزّعت مجموعات داكنة تحت المطر و أسياخ الصّقيع.
    خصم الماريشال نقيب صغير في القيادة.كان حليقا و يرتدي قفّازات ناصعة و أحزمة ضيّقة.كان أفضل لاعب بلياردو و كان بوسعه – لو أراد - أن يهزم كلّ ماريشالات الأرض،بيد أنّه يعرف من باب الّلياقة و الأدب كيف يحافظ على مسافة محترمة بينه و بين رؤسائه.و كان يتصرّف على نحو يجعله لا يربح دون أن يخسر بسهولة أيضا.هذا ما نسمّيه ضابط المستقبل...
    أيّها الشابّ الطّموح ! لنتوقّف قليلا و نوضّح المسائل:تحصّل الماريشال على خمسة عشر نقطة و لم تحصل أنت سوى على عشرة،بهذا الشّكل ستضمن لنفسك تدرّجا لم يكن باستطاعتك أن تحلم به لو أنّك في الخارج مع الآخرين تحت رجوم الماء التي تغرق الأفق.و لا أظنّك ستتحمّس لفكرة تعفير زيّك الأنيق و الإمساك بأوسمتك الذّهبيّة بانتظار أوامر لا تأتي أبدا.
    إنّها بالفعل مباراة شيّقة للغاية.الكرات تنساب بسلاسة و الألوان تمتزج بانسجام،و القنوات تنجز عملها على أتمّ وجه و البساط الأخضر بدأ يسخن ..
     فجأة تمرّ شعلة مدفع تشطب الفضاء يرافقها دويّ أخرس يهتزّ له الزّجاج.ارتجف الجميع و تبادلوا نظرات قلقة.وحده الماريشال لم ير و لم يسمع شيئا مطلقا:كان منكبّا على الطّاولة بصدد التّخطيط لهجمة ارتداديّة ماكرة.
    كان دائما يفضّل أسلوب التّقهقر ؛و للإنصاف كان يبرع فيه!
    ثمّ مرّت شعلة أخرى تلتها أخرى.و تعاقبت الضّربات و تسارعت.ركض المعاونون باتّجاه النّوافذ ؛هل نفّذ الألمان هجومهم؟
    " حسنا فليفعلوا! قال الماريشال و هو يستعيد الكرة البيضاء...دورك أيّها النّقيب."
    اقشعرّت أبدان القادة من فرط الإعجاب .المدينة تُنتهك نائمة و هذا الماريشال يقف برصانة أمام البلياردو في قلب غارة معادية تستدعي التّحرّك فورا...في تلك الأثناء تضاعف القصف مصحوبا بطلقات الرشّاشات و انفجار القنابل ،و استقرّ ضباب أحمر،أسود،فوق سور الحديقة و أُضرم المتنزّه بالكامل.طيور الطّاووس و التّدارج تتخبّط مذعورة داخل المِطيرة و شمّت الخيول البارود فصهلت و تدافعت و وقفت على قوائمها الخلفيّة.و هاهو المقرّ يتضرّر و الزّحف العنيف يُحاصره من كلّ جانب.
    سرعة على سرعة!وصلت سيّارات معطوبة الفرامل أمام المقرّ و الكلّ يطلب مقابلة الماريشال.
    و الماريشال بالقطع لا يقبل الخوض في جدال مع أيّ كان..ألم أقل لكم بأنّ قوّة في العالم لن تفلح في إيقاف مباراته!
    " أنت تلعب أيّها النّقيب "
    و للنّقيب أيضا ما يسلّيه.ألم يكن شابّا؟ و هاهو يفقد صوابه و ينسى ما عليه أن يفعل و هاهي يده البارعة تخرج عن السّيطرة و تحقّق الضّربة تلو الضّربة بنجاح باهر،حتّى أنّ النّتيجة انقلبت إلى صالحه بفارق شاسع.و احتقن  الماريشال و طفت على وجهه المفاجأة و الإهانة.في تلك الّلحظة قُذف حصان و سقط في السّاحة على بطنه ميّتا.و خرق أحد الضبّاط المساعدين التّعليمات في الخارج و اقتحم بوّابة المقرّ بالقوّة و قفز بخفّة عبر النّافذة:
    " ماريشال...ماريشال...!"
    و عليك أن تشاهد بنفسك كيف اُستُقبل...هرع الماريشال ناحية النّافذة أحمر من شدّة الغيظ و عصا البلياردو في يديه:
    " ماذا هناك؟...ما هذا؟...ليس هناك حراسة إذن ؟
    - و لكن ماريشال...
    - طيّب ليس الآن...بعد قليل...قلت لكم انتظروا أوامري بحقّ السّـ...!
     و أُغلقت النّافذة بعنف...
    لننتظر أوامره إذن!
    كان ذلك  تحديدا ما يفعله أولئك البؤساء.تسلخهم الرّيح و يصفعهم الرّصاص ملأ الوجوه.  و سُحقت كتائب بأسرها،فيما ظلّ الآخرون بلا فائدة كأنّهم عزّل.أسلحتهم بين أيديهم دون أن يتفطّنوا إلى قلّة نفعهم.ليس هناك ما يمكن فعله.فقط نترقّب الأوامر...
    و لأنْ لا حاجة لأوامر كي نموت فقد سقط مئات الرّجال خلف الأشجار وسط الخنادق قبالة القصر الجامد،بالرّغم من ذلك فقد ظلّت الطّلقات تمزّقهم ،و من جراحهم النّازفة ساح دم فرنسا بسخاء و صمت...في الأعلى هناك في صالة البلياردو حمي الوطيس و اشتدّت ضراوة النّزال:استعاد الماريشال الأسبقيّة على خصمه ؛فيما كان النّقيب الصّغير يدافع بشراسة أسد...
    بالكاد يكفي الوقت لتسجيل المزيد من النّقاط.
    و اقترب عويل حرب الجانب الواحد ،و الماريشال يلعب بمفرده الآن.و سقطت قذائف داخل السّاحة و أصابت إحداها حوض الماء و تهشّمت المرآة،و بقيت بطّة تسبح وحيدة وسط دوّامة من الرّيش المصبوغ بالدّم.
    كانت تلك آخر قذيفة.
    و ران صمت رهيب.و لم تعد تسمع من الدّاخل سوى وقع المطر فوق الأشجار و صوت دحرجة الكرات في أحشاء الطّاولة ،و عبر الطّرق المنقوعة يتناهى إليك ركض كأنّه لقطعان مستعجلة...
      الجيش يضلّ الطّريق. 
       الماريشال يفوز بالمباراة.



    غريمي..أنا و أنت



    يتوارى القمر خلف غيمة..أمعن فيه النّظر مليّا و أفكّر بأنّه يحجب عنّي ذلّ أهدابه..
       أتفاءل و أتساءل ..
    أتفاءل كمن اكتشف لوهلة أنّه الأقوى وسط زمرة من الضّعفاء.. ألأنّ القمر أمير ممسوخ،  ؛تآمر مع السّاحرة على حوريّة السّهل ثمّ نقض عهدها فخسر الاثنتين و هو اليوم يعاني؟..
     يطمئنني أنّ الأمير قد حُرم الهرولة على ظهور الخيل و نعمة الصّهيل و أنّه تنكّر لقبّعات الرّيش السود،فبات يجامل و يراوغ كي لا يُرجم على الأقلّ،بعدما استسلم لشكله الجديد و صار يتعايش معه غير آسف،و أنّي لست مثله ،مادمت أركب جنوني بعد..حرّ بعد،و لديّ استعداد لأبعث شعاعا بإرادتي،أسلّطه على ما أريد،و حين أموت أكون قد تركت مجسّما يشبهني معبرا مسالما أملس يمشي فوقه الأطفال،يروي لهم حكايتي و لا يؤذي أقدامهم الحافية أبدا على مرّ الفصول..
    إنّ الخونة الذين اتّخذوا من أوسط الجسر منزلا كي يفوزوا بالضفّتين،لا يُعادون صُوَرَهم الأولى أيّها الأمير السّعيد..و لست مثلك.
    أرتجف و أقرّر كي أتماسك:إنّنا نرتعد أكثر أمام المسائل التي نكون فيها محقّين..
    أحاول أن أقاوم و أتصلّب عضليّا مادامت الحكمة قد فشلت في منحي ذلك،فينتابني إحساس لاسع بأنّي أكذب كالعادة،و تبرد أطرافي لحظة و يتملّكني ذعر في معدتي،يقبض عليها و أتخيّله عنكبوتا بنيّا مكسوّا بالشّعر..كلّ ذلك بسبب شطحة خيال مارقة؛أعلم ذلك،و أعلم أيضا أنّ خيالي الفسيح لا يدرّ الحليب   و لا  يُنبت زرعا كما ينبت أخي آلاف الشّتل في اليوم،و لا يضع حجرا فوق حجر كما يفعل غوّار كلّ يوم..و أخشى أن أكون المغفّل الوحيد دون أن أدري. 
     أحوّل بصري عن السّماء فيقع بموجب العادة على بيت علوان أخي فأرتطم مرّة أخرى بقراري السرّي و مزيج البهتة و الشّفقة الذين سيحاول إخفاءهما عنّي لو أنّي أخبرته بما أنوي فعله،سيخبّىء عينيه براحتيه تماما كما استتر القمر بغيمة منذ قليل،و يفرك صدغيه و يغيّر مسار الحديث كي لا يشاركني الحماقة حتّى بالرّأي..كلّما اعترضته مشكلة ما،أجّل الخوض فيها أيّاما ليربح بعض الوقت..ذاك دأبه..   و يقول أخي المزارع المتصالح دائما مع ترتيباته: فرس شبعان و محراث قويّ  و تربة سوداء          و كرامة،أشياء لا تجتمع حتّى لدى السّلطان..
    فمساء السّلام يا أخي البعيد..لن أستشيرك هذه المرّة و لن ألين..حضرت ساعة الثّأر فإمّا أنا و إمّا الخندق..
    يرتخي العنكبوت في معدتي و أحدّق في الشرخ الملتوي المتأصّل فينا كدمغة محرجة على جبين مثقّف أفرط في الشّرب حتّى سقط، فيمور بداخلي غضب لا أدري متى و كيف وُلد و خواطر ساخرة مضادّة،تثقبني كأسياخ بشهوة عجيبة في الافتراس..
    و أتساءل :ترى من يرسلها ؟و لم أنا بالتّحديد ؟ ألأنّي فعلا أؤزّم الأمور كما يصفني الجميع ؛ ثمّ يعود لي بأسي من جديد كأنّ السّؤال آتى أكله و صفع المعنيّ بالإجابة.   
    و أبيت ليلتي متشائما لأنّي مخطىء و متهوّر،فالقمر حبّة خردل فضّيّة قضمت الأرضُ أسفلها            و نامت؛ليس إلاّ..و بلدتي هذه المسجّاة فوق الطّبيعة تحتاج بكلّ بساطة إلى جسر صغير يربطها بالمدينة.
    أحتاج إلى غوّار..
    فهو الوحيد الذي أثق به و بإمكاني الاعتماد عليه في المسائل الاّمعقولة.أذهب إليه و أجعله يستدرجني للكلام . لا أجد نكهة في الحديث إليه إن لم أرهق  حدسه معي أوّلا.يكبرني بثلاث سنين و قلب آخر على اليمين.يحبّني .ربّما لأنّي لم أخيّب رهانه،و اقتلعت من قرارته بعضا من ورم النّقص الذي نحمله جميعا .كان يدافع عنّي و نحن صغارا.و أذكر أنّه خاض معركة مع عشرة أولاد كانوا يضربونني.كنت تلميذا بمئزر أصفر قصير الأكمام و كان هو مسّاح زجاج و أحذية في المفترقات بحذاء كبير.يومها عاد بدونه و لم يرو لي ما حدث .و كان يدسّ في جيبي بعض النّقود،يقول إنّ الجامعة ليست جزيرة قرود!.
    سيسوء المراقص و الفنادق و الجامعات و البدلات الأنيقة و المكاتب و واجهات الإشهار و الشّوارع أنّ الجرح قد التأم و لو من جهة ضئيلة و صار بوسعنا تخطّي الحدّ الذي رسموه لنا بيسر،و سيسخطون لأنّ الحثالة بدأت تزحف..تماديهم في إهمال المعبر رغم المطالب المتكرّرة و الشّكاوى التي أمطرنا بها جميع المصالح حتّى غير المتخصّصة منها هو الذي يشي بذلك.
    المسألة واضحة،يجب أن نظلّ أبدا ننحني لنصل إليهم،نحن لا نشرّفهم،و أفضل وسيلة للتخلّص منّا هي الحفاظ على الشّرخ الطّويل بيننا.فقياصرة المدينة المولعون بالسّمسرة في القطع الأثريّة و الأعضاء البشريّة و الرضّع الزّائدين عن الحاجة يحبّذون لو يبقى مستودعهم الثّمين معزولا كي لا تتسلّل إلى قلوب خزنته  آفة الانتصاب للحساب الخاص.
     حيّنا الحزين أبدا حزام من سلّ و غبار و عيون متأهبّة  و أصابع موتورة على الدّوام.و بلا شكّ سيحاربني..إنّ أماكن كتلك الملقاة على ناصية المدن الراقية تفهم أنّ عليها الابتعاد عن المجال الفوتوغرافي لسائح جاء يتعجّب و يتلذّذ و لا تدرك أنّ عليها الابتعاد عن ملاحقة أبنائها لمجرّد الحصول على غفلة مؤقّتة لتعاطي تجارة الخمر في البيوت خلسة..و أحسّ تجاهه رغم كلّ ذلك بعاطفة لا أجد لها وصفا يناسبها أبلغ من نداء الاستمرار في حبّ وشاح أمّي لو أنّهم خنقوني به مرّة  و نجوت.. أماكن كتلك لا تمُسَح بقياس الطّول و العرض بل بعدد القطع الأثريّة التي لم يفرّطوا فيها بعد و بعدد الأعضاء التي بقيت عالقة في أجساد أصحابها..أحمر بلون الآجر و الصّدأ،ينتبذ ركنا خلف أخدود عميق و متعرّج،كأثر زلزال شامت..صدّعته المياه و حياد السّنين،نرى أضواء المدينة  و تبهرنا لكنّها لا ترى سوى نزوتها فينا،و تقزّزها جيف كلابنا    و تفاصيلنا الهمجيّة.. يقولون بأنّ ساق الطّاووس الدّميمة تفسد عليه نزهته الملكيّة،يكرهها لكنّه لا ينقرها..و حيّنا الملوّث باسمه مضخّة عمّال زرق و أساطير،و سمعته الملطّخة بالانحراف تجعل منه  تفسيرا مناسبا و مثاليّا  و مريحا لوأد الحيرة في أقسام البوليس و إغلاق ملفّات السّرقة و الحشيش دون تفتيش ، و تصلح أزقّته الضيّقة عناوين جاهزة لبطاقات الجلب  و التّجنيد..و يحجّر على القاصرين بيع كلاهم و شبكيّة أعينهم  و نبيع ذممنا أيضا،فثمّة فينا كثيرون يطربون لكلمة ثناء واحدة تخرج من فم أحد المسئولين الكبار أو الصّغار على حدّ سواء،و هم على استعداد ليزهقوا صفير نايات الأرض بأسرها من أجل سماعها. 
    حيّنا المستهتر،كلمة بذيئة كُتبت على سور المدينة..مدينة الأعمال و الجناية الشّقراء..و إنّ الطّارق الغريب ليطرق باب الصّفيح يتسوّل قوارير شراب أيّام الجمعة أو الأعياد،فتفتح له فتاة في السّادسة من العمر،جميلة كأغنية يسألها عن والدها أو أخيها الأكبر فلا تجيب ،و تُحضر له طلبه في كيس أسود تحكم القبض عليه بكلتا يديها.يسألها ما اسمك يا صغيرة؛هي تكره التشبّه ببنيّات الجدائل و الأراجيح ،ترشقه بنظرة هرّ مسنّ  و تجيبه :حوريّة ،فيتلقّاها كشتيمة..صديقي غوّار يقول بأنّ الحقيقة هي دنّ الماء المتّسخ بأثر الأيادي ذو الغطاء المربوط بخيط إلى العنق،و الذي تجده تحت كرسيّ القيادة لجرّار مكشوف لجلب الرّمل و الحجارة.. و ها كبرتُ و لم يتحقّق من حلم الثّراء شيء و لا ما يسعفني على تغيير الحقيقة و إغراق أهلي و جيراني بالمؤن و الهدايا؛و هل كنت سأفعل فعلا لو كُتب لي الثّراء ؟..و تتشكّل لديّ مع مرور الوقت و بوار الحيلة عقيدة:ليس الفقير من لا يملك قوت يومه أو الذي ينام على مسافة سجائر من كفاية رأسه للتّبغ ..الفقير بحقّ هو من لا يملك المبلغ الكافي ليكبت فضيحة جماعيّة.
    فضيحة وقعها أكثر إهانة من أن يطرد الواحد فينا من بيته بماسورة بندقيّة فارغة دفعا من الخلف ..
       و حين يمرّ بك أبوك الذي يدّخرك لتتعلم صنعة بصحبة عمّك و يلفيانك مستندا إلى جدار مائل تراقب الصّبية و هم في طريقهم إلى أقرب مدرسة بالمدينة،يخلّفونها على يمينهم  و يتّخذون مسلكا يحيد بهم عن الخندق كي يصلوا إليها و هم يتعثّرون في أنياب الصّخور و الشّوك المتحفّز للدغهم في أيّة لحظة،و يتعجّب عمّك الرّائع: حسين ..الفتى بدأ يكبر،لا تحرمه من الدّراسة..إنّه راغب..أقرأ ذلك في عينيه..أنا أسجّله و أنفق عليه..
    و يداعب رأسك بحنوّ:بنيّ تريد أن تدرس..؟ 
    و لمّا تكبر و تصبح أستاذا بمعهد خاصّ لقبا دون راتب، فيتفاقم فقرك أكثر.فإنّك حتما ستمرض بقنطرة بحجم عجزك و ما أنصتَّ إليه و قفزته و تنامى في ذاكرتك.
    في المدينة أيضا هنالك جدران مائلة،لكنّهم يشيّدونها كذلك عن قصد ليستولوا على بضعة أمتار إضافيّة أمام بيوتهم أو محلاّتهم و يسمّونها أجنحة.فالجدران المائلة مدرّبة أكثر من غيرها على الحوز المثير،و عطبها يبعد الشّبهة و يوهم بسلامة النيّة.. لا كالتي تحمل أسقفنا.
    أحتاج إلى غوّار..
    لابدّ أنّه في المقهى يلعب النّرد.إنّه ملك النّرد و قتال الشّوارع بلا ندّ،و الفترات التي يقضّيها بالسّجن أكثر من التي يقضّيها خارجه.و يكره أن يمسّه أحدهم في غروره.
    " من يريد أن أهزمه؟
    - غوّار تواضع قليلا فحتّى كاسباروف ربحوه ..
    - دعك من موشّح الحرب التي أخمدها طفل و عنترة تعثّر في ديك فمات..لم أغدر أحدا ..قلت من يريد أن أهزمه وجها لوجه..إذا كان لديك خلاف ذلك فكسّر شوكتي و هنيئا لك..!"
    سلاح غوّار مع القوّادين و المنتهزين المندسّين بين النّاس أكثر عددا من النّاس ممّن يرفعون حركاتهم و همزاتهم إلى رتب المدينة و قوّاديها الأضخم جثّة من أجل كسب الودّ لا أكثر و يقينا منهم بأنّك إمّا بقعة ضوء و إمّا موجّها له،فإنّ سلاحه هي جرأته على التّشهير بنذالتهم بصوت مرتفع و مواجهتهم بأشنع النّعوت و الألفاظ أمام الملىء ..فتراهم منكّسين رؤوسهم كالنّعاج و أحيانا يضحكون مع الضّاحكين في محاولة لامتصاص لطمه المخزي.. 
    ليس لديّ ما يكبّلني،لا زوجة و لا أولاد و لا حبيبة..حسمت أمري.غدا أتفاوض مع محي الدين حارس مقبرة اليهود بشأن الكِلْيَة..سأبيعها و أشيّد بثمنها قنطرة مشاة ثمّ بعد ذلك ليكن ما يكون..بالنّهاية واحدة تكفي..و فرس و محراث قويّ و تربة سوداء و كرامة أشياء لا تلتقي حتّى لدى السّلطان.
    حتما سيمنعني غوّار لو أنّي صارحته ..أبيعها أوّلا و حين أحصل على المبلغ أضعه في يديه و أقول له أيّ شيء يخطر ببالي وقتها،ثمّ أكلّفه بحفر الأساسات و صبّ الخرسانة و الأعمدة و مد المعبر و رفع حواجز حديديّة على الحوافّ..قطعا سوف لن يضايقني بالأسئلة كثيرا .إجابتي الأولى سترضيه حتّى لو لم تكن مقنعة.و سينكبّ على العمل كشاحنة دون فرامل.
    أجريت الفحص اللاّزم و كان عليّ أن أنتظر شهرا كاملا و أكثر كي أجد أخيرا من يتطوّع و يشتري منّي كليتي لينقذ حياته أو حياة ابنه ،و وقّعت لمحيي الدين على أنّي أتبرّع بكليتي لاسم قرأته بالورقة و نسيته،كان رجلا في خريف العمر ؛ قبضت نصيبي من الصّفقة و أوهمت الجميع بأنّي أُجري عمليّة جراحيّة على قرحة المعدة.و علمّني محي الدين الخطوات التي عليّ اتّباعها و كيف سأتظاهر بالقرابة للحريف و أبالغ في إبداء رغبتي في افتدائه بحياتي وكيف أنّ الفرصة قد حانت لأردّ له الجميل. و طلب منّي أن أسرد عليه الدّرس ففعلت.
    المبلغ معي و أظنّه يكفي لأغيّر أيضا محفظتي المهترئة و موقد أمّي.أمرّ بغوّار و آخذه خارج الحيّ من جهة اللاّشيء،قبل أن نصل إلى تلّة "هيجات" نشتري الشّراب.كانت فكرة غوّار،قال لي بأنّه يدعوني للاحتفال بصبيّ له في الطّريق.
    - افرح يا صديقي..و لا تفكّر كثيرا..أتدري يا عبادة؟
    - ماذا ؟
    - حادثة نشل غير عاديّة بالمرّة ،شاهدتها اليوم..
    و لم يرو لي حادثة النّشل.
    و مضت ساعة كنّا فيها نشرب و نتحدّث عن الشّراب.
    فوق تلةّ هيجات المنسيّة حيث نجلس،كرمة يتيمة ، و يروى بأنّ تحت التلّة كنز.نحن هنا نولد فيقصّون علينا حكايتها.يقال بأنّ الشّيخ الهادي حار في استعطاف حارسه الأمين و لم ينجح في زحزحته شبرا واحدا.كره أن يقولها لكنّه أقرّ بها بعدما باءت كلّ محاولاته بالفشل.عفريت الكرمة خذل الشّيخ الهادي أكثر من مرّة أمام كبار سفهاء الدّولة ممّن طمعوا في الكنز..الخرائط  و البخور يؤيّدان بعضهما فكلاهما يتحدّث عن كنز عظيم تحت التلّة.
    "- عفريت هيجات الكلب،يمتنع.قدّمت له أفضل بخور العالم  و لم يفتح..الكلب يخجلني أمام الشّخصيّات.."
    في لحظة صارحت غوّار بكلّ شيء.. لم يقل شيئا..فغوّار يقدّر أن يكون للبؤس ألوان غير الجوع و الحفاء.و لكنّه مع ذلك بكى.و تحدّثت عيناه بقيّة الوقت . و غنّى بصوت خافت:يأخذني من تحت ذراعي ،يزرعني في إحدى .. الغيمات..
    و ضحك قبل أن يقول ثملا و سعيدا بعض الشّيء:
    - تذكر حادثة النّشل التي حدّثتك عنها؟..إذا استعصى عليك قفل فزده آخر يشهد له بالعناد،سيذوب الأوّل وسط الميوعة  و الغرور،عندها ما عليك إلاّ أن تفتح قفلك الذي مفاتيحه في جيبك..
    ما رأيك ألا أصلح أن أكون..دعك من ذلك..
    الشّيخ الهادي غبيّ ؛ لو جعل العفريت يسكر لفتح جميع المخازن..
     ضحكنا و شربنا و استزدنا.
    نشوة غريبة لفّتنا ذاك المساء..
    و أعترف أنّهم لمّا انتزعوا كليتي،زارني شعور سافل بأنّي أكثر حماقة ممّن يختبر دفق الكهرباء من أجل الآخرين بلسانه ..الحقيقة هي ذاك الدنّ المعفّر بالعمّال و الهاجرة .و العواطف تخطىء و لا تصيب.و لقد ندمت ،بالرّغم من كلّ الأشياء التي  قضيت عمري مسكونا بها. و بالرّغم من كلّ الهواجس التي اغتسلت بها فقد ندمت..و لم أخفي؟
    أنا كأهلي أبناء ضحكة الصّلصال ؛ لست تتوقّع ما الذي يمكن أن نسطو عليه أو نرتكبه أو ننسفه لنثبت براءة آخرين لمجرّد أنّهم آخرون،ثمّ بعد ذلك نستيقظ  لننتبه بأنّنا لا أكثر من قطيع مجاذيب..أيّام انتخابات البلديّة و البرلمان،تزورنا البشرة النّاعمة البيضاء و الشّحم و الذّّّّّّّّقون المطّاطيّة الخضراء و النظّارات    و العدسات،يقدّمون أغطية رخيصة و أكياس دقيق مقابل وابل من الصّور التّذكاريّة للعجّز أمام الهبات  و على وجوههم ملامح الرّضا و البهجة مستسلمين تماما كما لا يجب أن تتقاعس الحمامات البيض في الطّيران فورا و صوب الأعلى و هم يطلقونها من أقفاص الحديد ليوثّق بعض الطّلبة الحالمون نداء للسّلام أمام الكاميرات..ما شئت نبيع..حتّى السّياحة السياسيّة نتقن التّرويج لها..و القنطرة عارضوها،    و لو لم يتصدّ لهم غوّار كعفريت الكرمة لما قامت لها دعامة..قالوا ستجلب لنا المشاكل لو سمع الوكيل العام ؛ بعد ذلك عادوا ليشكرونني على اجتهادي في جمع المبلغ من أصدقائي و معارفي .
    " - ابن حلال و الله ابن حلال"
    أندم..و أبحث عن القمر فلا أجده..
    منذ التحق للعمل ببناية عملاقة بالمدينة و هو ينام في حظيرة الأشغال. ألتقيه كلّما مررت من هناك.
    نشرب الشّاي في استراحة العمّال،ثمّ أمضي.و منذ أجريت العمليّة و جفّت القنطرة و غوّار يحتضنني في كلّ لقاء ،و كنت كلّما هممت بالانصراف قرأت  في عينيه شعورا بالوحدة  و تتركّز لثانية على قسماته غضبة هادئة لثائر دلّ على مكانه صديق طفولة. و يخفي ضعفه:
    - أضف السكّر لو أردت..الشاي المرّ لا يلائم وضعك الجديد.
    - غوّار أنت متعب..
    - دعك منّي ..هناك أمر يحيّرني و لا أجد له حلاّ..
    قاطعته:
    - أضف إليه قفلا آخر يشهد له بالعناد...
    يغطّي ضحكه بقيّة الكلام فأسكت و أدعه يكمل:
    - اسمع..بالله عليك ؛أليس الشّيخ النوّي من فصيلة : دُس على ما يعترض سبيلك ،المهمّ في الأخير هو أن تصل؟
    قلت :بل إنّ نظراته لوحدها شروع في جريمة..
    - طيّب وغد كهذا ؛لو أتيح له أن يبيع البلاد مقابل نسبة مئويّة، هل كان ليتأّخّر؟
    قلت مازحا:
    - غوّار صرت تتفلسف أنت أيضا..
    قال بصرامة:
    - أجبني هل كان ليتردّد؟
    - طبعا لا.
    قال مزهوّا:
    - هاها! إذن لم لا يشنق بتهمة الخيانة العظمى ؟ كلّنا نشهد..أقصد أنا و أنت..
    و ضحك عاليا ،و أردف و هو ينفث دخان سيجارته بعيدا عن وجهي:
    - ها أنا على سبيل المثال،على استعداد لأعترف بكلّ الجنح التي لم أتورّط فيها بعد..سأعترف بها لسبب بسيط هو أنّ الفرصة لم تتح لي لأقترفها لا غير..أرأيت؟
    و أبحرنا بعدها في الحديث عن الغيرة و الخيانة الزوجيّة.
    بعد أسبوعين سقط غوّار من الطّابق الرّابع لتلك البناية و مات.
    أنا أيضا لن أقول شيئا،لأنّي أقدّر أنّ عليه أن يفهم قبلي كلّ شيء.
    توقّفت السيّارة التي تقلّه أمام ضحكة الصّلصال و عادت أدراجها،و عبرنا به القنطرة مترجّلين نحو الحيّ لدفنه هناك.في المقبرة وقف الشّيخ النوّي على قبره طويلا يدعو له بالمغفرة بنبرة من يطلب المستحيل.ثمّ بعدها انتهى غوّار رفيقي.
    الرّجال الذين تتربّص بهم الطّوابق يموتون عادة قربان ضحكة تطلقها صبيّة حسناء في المدرّج الكهربائيّ لفضاء تسوّق فاخر  و هي تكلّم حبيبها المخنّث.
    فصباح السّلام يا صديقي العظيم،كان معك حقّ..إنّ رضوضنا برمّتها ليست سوى مجرّد تشابيه جيّدة لعالم استحال على المترفين وصفه،و كان لزاما علينا بلوغه ..
    ..أنا و أنت..أقصد أنت و أنا.
    و يحاول الشّيخ النوّي استدراجي بودّ للحديث عن الانتخابات:
    - اطّلعت طبعا على القائمة؟
    - اطّلعت عليها و لكنّي لا أرشّح أحدا..
    خذلته بإجابتي،فالتّبرّعات التي جمعتها للقنطرة كما روّجت بينهم لمّعت صورتي و صارت تشفع لي بالقليل من إبداء الرّأي في بعض المسائل السّخيفة و تدفع عنّي الطّيش.
    - من ترشّح إذن؟
    أظنّ أنّي سأصوّت لعفريت "هيجات".





     محمد فطومي


    نجمة




    لأجل أن تتلألأ عيناها و يزداد شعرها طولا و يفرح جذعها في بالي و تبتسم أهدابها و يضيع فكري لحظة من الدّهر،سرقت خليّة النّحل..كان لابدّ أن أنهب لها شيئا خاصّا كي أسرق منها أيّ ردّ..الدّرب وعرة و الجبل ميّت منذ عصور..و لأنّها زهرتي التي يقتلني أن تضحك للأصيل ،سطوت على شهد الخليّة.
    لسعني نحل كثير.و بلا ريب ستتبدّل ملامحي بعد قليل، و حدّثت نفسي بأن أسرع كي لا يروّعها منظري..
      يا كم مشيت..
    لا شيء في خاطري سوى أن أقول للنّجمة أنت نجمة   و أنّي أراك ليل نهار.هذا كلّ شيء.
    يومها لم أجدها تحت شجر الدرّاق العاقر تستظل و تسامر صاحباتها كما اعتادت.كنت أمسك بجرابي باليد و باليد الأخرى أحاول أن أستر وجهي .
    لا يحقّ لي أن أسأل عنها،لذا سألت عن أمّها.
    فأنا أبيع الحليب و الجميع يعرفني.
    قالوا: فاطمة اليوم تزوّج ابنتها من الفتى المدلّل الذي يعرفه الجميع..راحت أيّام الحليب يا مسكين..الدّنيا ابتسمت لهم و سيأكلون الشّهد منذ اليوم.
    كيف أشرح لهم أنّها زهرتي التي يقتلني أن تضحك للأصيل ،و أنّها حمامتي البيضاء؟
    و نظرت إلى جرابي ..إنّ به مملكة عسل سطوت عليها من الجبل الميّت منذ عصور. ذاك  الذي أعتقد أنّ وراءه أرضا لكلينا ينبت فيها البخور و السكّر ..ركضت..يا كم ركضت ،و لم أنتبه إلاّ و أنا أقتحم القصر.و لو أنّ الحارس الضّخم لم يمنعني من الدّخول و يحبسني في القبو ريثما تنتهي المراسم ،لوقفت أمامهما من بعيد و لحدّقت فيهما جيّدا و لرحلت بسلام : كي أخسر و حسب كان عليه أن يضمّها بعينيه كما يليق بنجمة،و كي أستمر في الخسارة أبدا كان عليه أن يُجلسها إلى جانبه كلطخة أو كوجبة أو كرحلة صيد أو كعروس من  خرق و أزرار و خيوط..
    بعد أيام سمحوا لي بالذّهاب ،كان جرابي يتدلّى بعدُ على كتفي كحكاية هزليّة..صفعني مالك البيت        و صفعني الفتى المدلّل الذي يهابه الجميع و قال: ماذا بداخل هذه القذارة؟
    قلت :عسل و شهد..
    أدخلني إلى بهو فسيح يطلّ على حديقة ليس بها زهور،فوق السّور أسلاك شائكة لولبيّة و جديدة          و تذكّرت ما قاله أبي حين اضطرّ لبيع البقرة السّوداء لأمر أجهله إلى الآن :أخاف الله و من بعده الذين لا يضطرّون لتعمير استمارة للحصول على أسلاك العساكر..و أشار الفتى بيده إلى أحد رجاله؛كنت في الأثناء أجول ببصري في كلّ الاتّجاهات لعلّي ألمحها.
    بعد برهة جاءه الرّجل الغليظ بقفص بداخله فأر أبيض.فهمت بأنّي سأخضع لا محالة إلى درس في التّربية.وضعه فوق رخامة و انصرف.فتح الفتى بابه الصّغير و قال بقسوة :هيّا أطعمه..
    و أطعمته.. كنت أنتف نجمة و أطعمه إيّاها .
    كان الفأر يأكل شهد العسل بشراهة و الفتى يقول: حمامتي البيضاء ..لم أكن أدرك أنّك تحبّين أكل الأوساخ بهذا الشّكل..
    ثمّ أُلقي بي خارج القصر.
     كم هو مريع أن تُنفى ما بقي لك من عمر إلى لحظة هباب كتلك التي تبدأ فيها الثّمالة بالزّوال.
    و خمّنت أنّها تبكي في ركن ما من ذاك البيت الفسيح بعدما أشار الأمير لأمّه بأنّه انتهى منها و أنّ بوسعها أن تمزّقها.تخيّلتها في المطبخ تطهو له أرانبه البريّة ليسكر بها مع أصحابه،و تخيّلتني إلى جانبها أمسح العرق على جبينها و أخطّط معها للهروب من السّور الخلفيّ إلى مكان مجهول لا نعرف فيه أحدا و لا أحد يعرفنا فيه..إلى أرض البخور و السكّر ..لم أكن أدري أنّها سبقتني إلى الحيّ و أنّي قضيت في القصر مدّة أطول منها.
    لمّا سمع أبي عواء الباب ،التفت و أطرق بسرعة،كانت الشّمس حارّة و كان يجلس فوق حجره المعتاد تحتها يدخّن.كان عليه أن يبيع الحليب بنفسه لذلك هو غاضب.
    هويت لأقبّل رأسه فتنحّى عنّي،تاركا لي المجال في آن واحد.دلفت إلى الدّاخل و استلقيت على ظهري   و جاءني صوته عاتبا حدّ الوجع:
    - ..أريد رجلا إذا وعد بقتلي غدا،لا يكتفي في الغد بصفعي..!
    و روت لي أختي أنّ نجمة عادت إلى بيت والدها دون حقيبة.و سرت في أوصالي رعدة شرّيرة و لذيذة، و فكّرت بأنّي سأخسر و حسب لو ثبت لي أنّ أهلها غصبوها على الزّواج بالولد المدلّل الذي يعرفه الجميع، و أنّي سأسكن ما بقي لي من عمر داخل لحظة أنا فيها جاموسة يأكل الضّبع صغيرها و هي ترقب،لو ثبت لي أنّها مالت إليه.
    و ظلّ أبي ينثر أسفه على خيبتي في كلّ زاوية من الدّار جيئة و ذهابا و لم أجد ما أقول..كيف أشرح لأبي أنّ النّجمة يجب أن يقال لها أنت نجمة و أنّنا نراك ليل نهار؟
    يوما ما سأخطف نجمة و سأهمس لها : أنتِ نجمة..

    محمد فطومي

    الخميس، 29 ديسمبر 2011

    كلام عابر



    علينا أن نعيش القصّة بأدقّ تفاصيلها،و أن نكتفي بالتّلميح إلى ما نراه أهلا لعاطفة النّاس،إذا
     كنّا بالفعل نودّ أن يشاركونا إيّاها